كتبت: آلاء حسـن

«أنا لست ضد الأمهات.. أنا ضد العقيدة التي تتوقع أن يكون لكل امرأة أبناء، وأنا ضد الظروف التي يجب أن تنجب فيها الأمهات أطفالهن.»

سيمون دي بوفوار

ده بَطر.. دي أنانية.. بكره تغيّري رأيك.. أكيد عندك مشكلة.. مفيش ست ما بتحبش الأطفال

هذه العبارات المُستنكِرة والمُستهجِنة، تخترق آذان النساء اللاتي قررن عدم الإنجاب، كلما أعلنّ أنهن لا يتطلعن إلى أن يكن أمهات، وغالبًا ما ترافق هذه الكلمات نظرات تعكس صدمةً أو اشمئزازًا، أو تصاحبها تعبيرات وجه مُزدرية ومُحتقرة.

تلاحق هذه الجمل كل من تخالف التوّقعات الاجتماعية حيال دور المرأة الرئيس الذي استقرت عليه المجتمعات الأبويـة، فهذه الأقوال ارتداد للثقافة الراسخة بشأن اكتمال المرأة بـ«الأمومة»، إذ ترتبط الرؤية الشعبية للمرأة كإنسان كامل بالإنجاب وتربية الأبناء، خاصة أن الاعتقاد السائد مجتمعيًا هو أن الأمومة تجربة لا بد أن تخوضها كل أنثى، فيما عدا هؤلاء اللاتي حُرِمنَ منها لعلة مرضيـة.

الوحدة تعرف طريق الأمهات أيضـًا

أروى (43 عامـًا) أدركت منذ 20 عامًا أنها لا تريد أن تكون أمًا، وهو ما ظنت أسرتها وأصدقاؤها أنه شعور مؤقت سيزول بعد الزواج، إلا أن آمالهم تحطمت بعد زواجها، حيث استمر تمسكها بقرارها، ورغم أن موقف الزوج تجاه مسألة الإنجاب تغيّر بعد سبع سنوات من التوافق بينهما في الأمر، لم تذعن أروى لرغبته المُستجدة، وهي تعلم أن ثباتها على قرار عدم الإنجاب سيدخل بزواجها إلى نفق مظلم لا ضوء في نهايته.

«أتفهم أن لكل شخص ميوله ورغباته ومعتقداته، وهناك كثير من النساء يفضلن أن يكن أمهات يقضين ساعات طويلة في المنزل بجوار أطفالهن، ويوجهن الجانب الأكبر من اهتمامهن إلى شؤون الصغار، ويضعن على كواهلهن أعباء فوق أعبائهن الشخصية، ليؤكدنّ للمجتمع أنهن لسن مقصرّات، وليبعدنّ عن أنفسهن الوصم بالأنانية. في المقابل هناك نساء لا يردن كل هذا، ولسن منجذبات إلى هذا النمط من العيش، وإنما يسعين إلى ترتيب حيواتهن باستقلالية، وأنا واحدة من هؤلاء.»

لا تفكـر أروى في التخلي عن الحيـاة التي اختارتها لنفسها مهما بلغت من البشاعة إساءات المجتمع، ولا تنوي تقديم تنازلات أملًا في نيل رضا الآخرين عنها.

«كثيرون ممن يصفونني بالأنانية لعدم رغبتي في أن أكون أمًا، يحذرونني من الندم على هذا الاختيـار بعد أن يتقدم بي العمر وأصبح وحيدة، لا أجد من يرعاني أو يسأل عن حالي. لكنني أجد أن الأنانية هي أن يكون الهدف الأساسي من الزواج هو الإنجاب، وأن يكون سبب الإنجاب هو الإتيان بإنسان يتكأ عليه والداه، كما لو كان ذلك هو رديف حتمي للمجيء إلى هذا العالم، فضلًا عن أنني لا أجد ما يضمن أن يكون الإنجاب حاميًا للمرأة من مكابدة الوحدة في وقت ما، ولا أعتقد مطلقًا أن شيئًا ما يُلزِمُ الموت المفاجئ في الوحدة، بالابتعاد عن الأمهات تحديدًا.»

بعد انفصال أروى عن زوجها، أشار القاصي والداني بأصابع الاتهام إليها، يحمّلونها مسؤولية إفشال الزيجة بسبب ما اعتبروه أنانية أو عدم اتزان نفسي، كما ابتعدت عنها بعض الصديقات لأنها اختارت هذا المسـار المُستقبَح منهن ومن أزواجهن، وطالبتها شقيقتها أكثر من مرة بالذهاب إلى طبيب نفسي، لتصوّرها أن أروى تعاني من اضطراب أو عقدة نفسية هي التي أدت بها إلى النفور من الإنجاب وهدم حياتها الزوجية.

خلال فترة زواج أروى، ظن العديد من  الأقارب والأصدقاء، أن أحد الزوجين لا يمكنه الإنجاب لسبب طبي، وأنهما يزعمان «عدم الرغبة»، خجلًا مما يتعامل معه المجتمع باعتباره عيبًا ونقيصة، خاصة إذا كانت المرأة هي غير القادرة على الإنجاب. لكن أروى لا تكترث لما يقوله الناس عنها، ولا تعبأ بالصورة التي يرسمها الآخرون لها.

«هذا جسدي وهذه حياتي، وأنا وحدى من يقرر ما يفعله بهما. أنا أدرك أن إنجاب الأطفال وتربيتهم مسؤولية كبرى ستقلب حياتي رأسًا على عقب، وسأضطر بسببها إلى تحمّل آلام نفسية وجسدية كبيرة، وسأكون مجبرةً على التضحية بكثير من الأمور التي أعدها أساسية بالنسبة لي، كالعمل الذي اخترته وطموحاتي التي لا يمكن أن تتحقق مع حياة أسرية سأتحمل معظم أثقالها، لأنني امرأة في عالم قسّم الأدوار داخل الأسرة، بنمط تراتبي يجعل الأم هي المتحمل الأكبر للأعباء المنزلية.»

تصدِّق أروى بشكل قاطع أن لكل فرد «الحق في تقرير ما يريد أن يحافظ عليه أو يتنازل عنه، لأن هذا شأن شخصي لا علاقة للمجتمع به ولا سلطة له عليه.»

رفض الإنجاب لا يعني كراهية الأطفال

أما ضحى (35 عامـًا) التي تتبنى القناعة ذاتها تجاه مسألة الإنجاب، فاجَأتها دموع خجلةٌ ذرفتها عينا صديقتها قبل عام تقريبًا، عندما حملت لأول مرة ابن صديقة ثالثة لهما عقب مولده بساعات، وقد أوضحت الأخيرة لضحى لاحقًا أن السبب في ذلك هو شعور بالخوف توقد في قلبها في تلك اللحظة؛ الخوف من أن لا تصبح أمًا، ولا تحمل وليدها بين يديها.

«أثارت ردة فعل صديقتي العديد من التساؤلات برأسي، حول رغباتي وقراراتي فيما يخص الزواج والإنجاب، فقد سبق أن راودتني فكرة الزواج لأن المجتمع لن يقبل بأن أعيش مع شريكي الحميم، وليس لأنني أريد أسرة بالشكل التقليدي. لكن بمرور الوقت صرت لا أفكر في الأمرين ولا يشغلني أي منهما، وهذا ما يجعلني دائمًا في مرمى الإساءة اللفظية، لأنني اخترت ما لا يعهده المجتمع ويرضى عنه للمرأة التي يفرض عليها التزامات عديدة، يأتي في مقدمتها إنجاب الأطفال وتربيتهم.»

بعض الذين عرفوا بقرار ضحـى ظنوا أنها تكره الأطفال، وهي على النقيض من ذلك تهوى مجالستهم واللعب معهم، لا سيما الأطفال دون سن الخامسة، إلا أنها تدرك أن هذا جزء بسيط للغاية في علاقة الأم بأبنائها، التي تقول عنها «في قلب هذه العلاقة هناك عناء الحمل، ومتاعب الإنجاب، ومشاق التربية، وتوجيه أغلب ما تتحصل عليه المرأة من مال إلى احتياجات الأطفال، ومتابعة دراستهم، وحضور التمرينات الرياضية معهم، وشراء مستلزماتهم، خاصة أن الأب – في أغلب الحالات – لا يشاركها كثير من هذه المسؤوليات.»

لا يوصم الرجل إذا أعلن صراحة أنه لا يريد الزواج أو الإنجاب، على عكس المرأة التي عادةً ما يتعقبها الوصم بـ«بانعدام الاتزان نفسيًا»، وأحيانًا تُقدَح وتُذم بأنها منبوذة من الرجال، وأن عدم الرغبة في الزواج والإنجاب هو مجرد إدعاء زائف لإخفاء ذلك.

«أريد حياة هادئة وغرفة لي وحدي لأنني حُرِمت من ذلك قبل استقلالي عن أسرتي التي كانت تراقب كل ما أفعله، وتمارس تسلطها عليّ في كل قراراتي الشخصية.. لا أريد أن أكون مضطرةً لتناول طعام لا أحبه لأنه مفيد لأطفالي.. أتطلع إلى أن أمضي في طريقي المهني بكل عثراته، من دون أن ترغمني احتياجات أبنائي على تقديم تنازلات في حياتي المهنية وقبول أوضاع أبغضها.. لا أرغب في أن أكون مجبرةً على التعايش مع فقدان الشغف والتنازل عن طموحاتي حتى أكون أمًا صالحة.»

الامتناع عن الإنجاب ليس رفضًا لكل أنواع «الأمومة»

من ناحيـة أخرى، تنحسـر أحاديث معظم المجتمعات، خاصةً المجتمعات الشرقية، عن الأمومة في الأمومة البيولوجية، دون اعتبـار للأمومة عبر التبني التي تختارها نساء لسن جميعًا ممن يردن الإنجاب وتمنعهن ظروف صحية أو اجتماعية، وإنما تختارها بعض النسـاء اللاتي قررن عدم الإنجاب طواعية رغم قدرتهن عليه.

احتضنت راما (39 عامـًا) قبل عامين طفلة، بعد سنوات من التفكير في الأمر والوصول إلى قناعة بأن هذه الخطوة هي الحل لتحقيق حلمها بأن يكون لديها طفلة من دون أن تخوض تجربة الحمل والإنجاب التي تعارضها لأسباب عديدة، من أهمها الخوف من الألم والاكتئاب والرهبة من الجرح والدماء، بالإضافة إلى توّجسها إزاء مسؤوليات الرعاية خلال الشهور الأولى بعد الولادة.

تقول راما إن والدتها رفضت الفكرة في البداية ووصفتها بالجنون، وعنفتها قائلة «أنت بتفوّلي على نفسك ليه؟! سبّقتي وعرفتي أنك مش هتخلفي عشان تعملي كدا.. ما تستني لما تتجوزي وتعرفي.»

وحينما حاولت راما أن توضح لأمها أنها لا تريد الإنجاب من الأساس، وأنها غير مقتنعة بالفكرة النمطية التي تُقصِر احتضان الأطفال على النساء غير القادرات على الإنجاب، تشككت الأم في أن أحد الأقارب أو الأصدقاء قد قام بعمل من أعمال السحر لابنتها، حتى يمنع عنها الزواج والإنجاب، ويدفعها إلى احتضان أطفال الغرباء.

«لا تزال أمي تبحث وتنقب عن عريس لي، رغم علمها بموقفي الرافض تمامًا للزواج بهذه الطريقة، إلا أنها ترى أن الزواج في أقرب وقت ممكن، هو ما سيعيدني إلى رشدي ويجعلني أفكر في الإنجاب مثل أي امرأة «طبيعية» من وجهة نظرها.»

لكن شيئًا ما يعرقل مساعي والدة راما، إذ أن الوسطاء الذين تلجأ إليهم لخلق فرص تعارف بين ابنتها ورجال يرغبون في الزواج، دائمًا ما يخبرونها بأن وجود طفلة مُتبنَاة برفقتها يضعف الفرص، خاصة أن أغلب الرجال حتى إذا كان لديهم أطفالًا من زيجات سابقة، لن يقبلوا بالوضع الذي اختارته راما لنفسها.

تدرك راما أن قرارها شخصي، إلأ أنها تبصر أيضًا بحقيقة أنه «لا شيء شخصي للمرأة في المجتمعات الذكورية»، وتعرف أن كل ما يتعلق بحياتها الخاصة، يظن كل من حولها أن لهم الحق في تقريره، أو تغييره، أو تعطيله، أو منعه نهائيًا.

«لن أقبل بما يريدونه لي، لقد اتخذتُ قرارًا يخص جسدي وأنا على يقين من أنه القرار الأصح بالنسبة لي، ثم اتخذت قرارًا بأن يكون لي طفلة عبر مسار آخر غير ذلك التقليدي، ولا يعنيني ما يظنونه أو يتقوّلون به علي، فالمهم هو أن أعيش حياتي بالشكل الذي أرتاح إليه، وإذا كان علي أن أدفع ضريبة وجودي كأنثى في هذا المجتمع، فأنا أفضل أن تكون تحمّل الإساءات اللفظية على أن تكون التضحية بحقي في تقرير مصيـري.»

**تم تغيير اسمين من الأسماء الثلاثة نزولًا عند رغبة صاحبتيهما