كتبت: شهد مصطفى

يحل مسلسل «نسل الأغراب» للمخرج محمد سامي، بين مجموعة المسلسلات الأكثر شعبية في موسم رمضان الحالي، داخل مصر وخارجها في عدد من الدول الناطقة بالعربية، ويدخل هذا العمل في خانة دراما الحركة والتشويق التي عادةً ما يصنعها رجال، وتتصدرها شخصيات ذكورية، ويسيطر عليها حوار ذكوري متعجرف، وتهيمن على أحداثها صراعات عنيفة. وكل هذا متوفر بغزارة في «نسـل الأغراب» الذي يجسد شخصيتيه الرئيستين اثنان من نجوم دراما الحركة وهما أحمد السقا وأمير كرارة، وقد تحوّلت الشاشة في حضورهما معًا إلى ساحة لاستعراض القوة الجسدية، وإفراغ جرعات هائلة من الصلف والعنجهية الذكورية، وتكريس حزمة من الصور النمطية عن النسـاء.

مسلسل «نسـل الأغراب» من تأليف وإخراج محمد سامي، وإنتاج شركة سينرجي (Synergy) لمالكها تامر مرسي، وإدارة تصوير نزار شاكر، وديكور أمير عبد العاطي، وموسيقى تصويرية لمحمد العشيي، ومونتاج غادة عز الدين وهي الاسم النسائي الوحيد بين صناع العمل في المواقع الرئيسة خلف الشاشة.

احتفاء هائل بالذكورة والفحولة على الشاشة

يٌفترَض أن أحداث مسلسل «نسـل الأغراب» تدور في إحدى قرى الصعيد، حول رجلين يتصارعان على ثلاثة أشياء هي السلطة، والمال، والزوجة. كلاهما فظ، وفاسد، وظالم، وقاتل.

الشخصيتان الرئيستان وكل الشخصيات الذكورية المحيطة بهم تحتل بأجسادها الشاشة، وتسدد بأيديها الصفعات في كل اتجاه، وتركل بأقدامها كل من يعترض طريقها، وتصدح حناجرها بصيحات غاضبة أغلبها غير مبرر. جميعهم يتنافسون في إرهاب كل مخالف غير خاضع، ويتابرون لإذلال كل متمرد بالقوة الجسدية والعضلية.

على الجانب الآخر، تصطف النسـاء حول حلبة المصارعة المحجوزة لذكور الأغراب وأعدائهم، يشاهدن جولات التناحر والاقتتال، بعضهن يشجع طرفًا على إهلاك الطرف الآخر، والبعض الآخر يلطم الخدود ويصرخ خوفًا، وهناك من يتابعن مشدوهات في صمت. كلهن على الهامش لا مكان لهن في المركز.

في بداية الحلقة التاسعة، يشن غفران الغريب (أمير كرارة) ورجاله هجومًا بالأسلحة على الغجر أثناء تواجد عساف الغريب (أحمد السقا) بينهم، ليهيمن الرجال على الشاشة لما يقرب من 7 دقائق، تلتحم خلالها أجسادهم بعنف، وتجحظ عيونهم غضبًا، وتتعالى أصواتهم الجشة، وتشتعل النيران في كل ركن مرئي، بينما النساء في الخلفية يصرخن مستغيثات «إلحقونا»، وفي لقطات عابرة تظهر اثنتان من نساء الغجر، هما دهب (نجلاء بدر) ويسر (أسما سليمان) في حالة ذعر.

هذا ما تنتجه الذهنية الذكورية

لقد صيغت جميع الشخصيات النسائية برؤية ذكورية أحادية، فإذا لم تكن الشخصية متقدمة في العمر مثل نجاة والدة علي الغريب (فردوس عبد الحميد) أو شامية والدة غفران الغريب (أحلام الجريتلي)، فإنها ملتزمة بالبقاء داخل حيز الجسد الذي يخضع لملكية الرجل للاستمتاع به، والحفاظ على نسله، وخدمته. كما تغيب الحياة الداخلية لجميع هذه الشخصيات، فحكاياتهن وصراعتهن لا يظهر منها سوى الجزء الذي يرتبط مباشرة برجل ما أو عدد من الرجال، ولا شيء غير ذلك يريد مؤلف العمل ومخرجه أن يدركه المشاهدون.

تتقولب الشخصيات النسائية في حالات نمطية محددة ألصقتها الدراما المصرية بالنساء لعقود طويلة، كالضعف والوهن الذين يتجسدان في شخصيتي عزيزة شقيقة عساف الغريب (منة فضالي) ويسر إحدى غوازي الغجر (أسما سليمان)، أو الارتباك والاضطراب البارزين في الشخصية النسائية الرئيسة وهي جليلة (مي عمر)، وشخصية حسنة زوجة نميري الغريب (مروة الأزلي)، أو الغواية والمكر المتمثلين في شخصية دهب (نجلاء بدر)، أو الخنوع والتكيف مع الظلم الذين يسيطران على زوجات العمدة حسيب الثلاث. إضافة إلى ذلك، هناك نمط آخر اعتادت الدراما على تقديمه، يبدو في قشرته السطحية إيجابيًا إلا أنه يقدم  شخصية أحادية أقرب إلى الوسيط الذي يبث من خلاله صانع العمل رسائله الوعظية، وهو النمط الخاص بالفتاة بسيطة الحال، ذات الصحيفة البيضاء وسط الملطخة صحفهم بالفواحش، وهو الذي تمثله فاطمة (ريم سامي).

تفاصيل لا تمت للواقع بصلة: تظهر الشخصية النسائية الرئيسة، جليلة (مي عمر)، داخل البيت وخارجه، متحلية بالزينة والإكسسوارات كبيرة الحجم، ووجهها مغطى بمختلف مساحيق التجميل، وشعرها ينسدل على كتفيها، وهو مظهر غير واقعي بالنسبة لنسـاء الصعيد. فضلًا عن ذلك، لم يخرج «نسل الأغراب» عن النسق الذي اتبعته دراما الصعيد طويلًا، فيما يخص إقحام أحداث نمطية ترسخ لكون الصعيد بيئة آمنة للغاية لتجارة وتجار المخدرات والسلاح، وتجعل التجارتين هما المصدر الرئيس لأموال الأثرياء في هذه الرقعة الجغرافية.

بناء الشخصيات النسائية استند إلى قول «إنهن منبع الشرور»

في مسلسل «نسـل الأغراب»، تمثـل جميع الشخصيات النسائية المُحفّز على العنف الذكوري والمحرّض على المواجهة والعدوان بين رجال، فجليلة (مي عمر) هي محور الصراع بين الشخصيتين الرئيستين عساف وغفران، وفاطمة (ريم سامي) تدخل إلى حياة الأخوين حمزة وسليم فتفسدها وتثير الغيرة بينهما، وعزيزة (منة فضالي) الزوجة المُعنّفَة التي نال منها المرض هي السبب الأساسي في الخلاف القائم بين زوجها والشرطي علي الغريب (دياب). أما دهب الغازية المطعون في سمعتها (نجلاء بدر)، تطمح إلى الزواج من أحد الكبار ليوفر لها معيشة زوجات السادة، فتعتمد على الغواية والمكر لتحقيق مبتغاها، وحينما تفشل تقرر الانتقام من هؤلاء الكبار بتأجيج النزاعات وتذكية الصراعات بينهم.

تعميقًا للنمطية: نساء يبطنّ «ميسوجينية»

تحت وطأة الفكر الذكوري الذي يسيطر على المجتمع، تتشكل لدى بعض النسـاء قناعات معادية للمرأة، فيتعاونّ بتلقائية مع الرجال لقمع أنفسهن وقمع النساء جميعًا.

لا تقتصر كراهية النساء أو الميسوجينية على الرجال فحسب، بل تتبناها بعض النساء بعد أن تنال منهن آفتين وهما «التشييء الذاتي» و«القبول بالأدوار النمطية للجنسين»، وينتج عن ذلك اتجاههن إلى التقليل من شأنهن والتصديق في أن الرجل في مرتبة أعلى من المرأة، ولذا يسعين إلى الحفاظ على المنظومة الأبوية وامتيازات الرجال، وإدامة تبعية النساء، من خلال إلزام أنفسهن بأنماط معينة تحقق لهن القبول الاجتماعي، وعبر توجيـه النساء الأخريـات إلى اتباع النهج ذاته سواء بالإقناع أو الإجبار.

هذا النمط من النساء لا يظهر كنموذج واحد، أو حتى تمثله مجموعة من الشخصيات في مسلسل «نسـل الأغراب»، بل إنه النمط المهيمن على الشخصيات النسائية، وفي مقدمتهن جليلة (مي عمر) التي تتعاطف مع كل الرجال الذين اشتركوا في السيطرة على حياتها واستغلالها لتحقيق مآربهم، ومن بينهم شقيقها حسيب (إدوارد) الذي زوّجها في طفولتها قسرًا بعساف ثم طلقها منه قسـرًا، ومع ذلك تذهب إليه في كل أزمة للأخذ برأيه والاحتماء به، وإذا أخطأ بحق أخريات تدافع عنه، مثلما فعلت عندما ذهبت إليها زوجتاه تطلبان منها أن تتدخل لمنعه من الزواج بامرأة ثالثة، فردت طلبهما بالرفض، وحملتهما مسؤولية نفوره منهما لعدم اهتمامهما بمظهرهما وجمالهما، مؤكدة حقه في البحث عن امرأة أخرى تتزين له حتى «تربط عينيه» وتمنعه من التطلع إلى امرأة أخرى.

على شاكلة جليلة، تعتقد والدة حسيب (سلوى عثمان) أن زوجتيه تستحقان إعراضه عنهما، ولا تعارض زواجه للمرة الثالثة وإنما تعترض على اختياره، لأنها ترى أن المرأة التي اختارها «بايرة» ولا تليق بأن تكون زوجة عمدة القرية.

ونساء يُفاضِلن بين القامعين

تزوجت جليلة قسرًا من عساف وهي ابنة 12 عامًا ثم أنجبت مبكرًا ابنها الأول، ورغم علمها بشره وإجرامه، ووجود احتمالية بأن يكون هو من قتل والدها، فإنها لم تكرهه بذريعة حبه لها وعدم الإساءة إليها، ولذلك تذهب إلى مقابلته بعد خروجه من السجن الذي مكث فيه لعشرين عامًا بتهمة القتل العمد، والسبب هو اشتياقها له، وعند تعرضها للاعتداء على يد غفران الذي تزوجها أيضًا بالإجبار والإرغام، تُذكّره بأن «عساف الغريب اللي فيه العبر» لم يضربها عندما كانت زوجته.

عساف بالنسبة لجليلة رجل أحبها وأحسن معاملتها وهذا يكفيها، لا يهمها أي ظلم اقترفه بحق أي شخص آخر، ولا يشغلها إن كان هو مصدر الخوف في حياة آخرين، ولا تعبأ بما أحدثه من دمار في السابق وما ينوي أن يفعله لاحقًا.

تغض جليلة نظرها أيضًا عن جرائم غفران وبطشه، وإجباره لشقيقها حسيب على تطليقها من عساف وتزويجها له عنوةً، وتتجاهل شبهة قتله لوالدها، لأنها لم تجد منه إلا الحب الذي بادلته إياه على حد قولها، إذ تقول له بعد طلاقهما «اللي تعاشرك وما تحبكش يبقى طبعها البطر.»

تبدو دهب أيضًا متمركزة حول ذاتها، قد تفعل أي شيء لتحقق غايتها في أن تصبح مثل زوجات الأثرياء والكبار في القرية، متعمدةً أن تطرح جانبًا كل ما يرتكبه هؤلاء الرجال من جرائم بحق نساء أخريات وبحق الناس عمومًا، بل إنها في سبيل هدفها قد تقبل بأن يكون لها دور في بعض مفاسدهم.

يُظهِر المسلسل دهب امرأة تحاول جاهدة أن تقنع بكري كبير الغجر بالزواج منها، وهي تدرك ما يتصف به من أوصاف قبيحة كالخسة، والأنانية، والغدر، فضلًا عن ذكوريته الفجة التي دفعته إلى استغلالها جنسيًا لسنوات واغتصاب رفيقتها يسـر أكثر من مرة، وبعد أن تبوء محاولاتها بالفشل، تقرر ملاحقة عسّاف الغريب على أمل أن تحقق الغواية مرادها وتصبح زوجة لأحد الكبار في هذه القرية، رغم علمها مثل الجميع بتجبره وتسلطه وإجرامه.

بناءً على كل ذلك، يمكننا القول على وجه اليقين أن تجسيد النساء في مسلسل «نسـل الأغراب» يعكس وجهة نظر ذكورية بحتة، تراهن ظلالًا للرجال، وتعتبرهن ردود أفعال لأفعال الذكور، وتنتقص من قدرتهن على التمييز بين الغث والسمين، وتفترض أنهن من يؤجج نيران الفتنة في كل حين.