على الرغم من أن نسبة تمثيل النساء في قوة العمل على المستوى العالمي، تصل إلى 47.7 في المئة أي ما يقترب من نصف الحجم الكلي بحسب بيانات البنك الدولي للعام 2019، فإن المساواة بين الجنسين في أماكن العمل تظل أمرًا بعيد المنال وصعب التحقق في مختلف دول العالم، وتبدو أشد صعوبة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالتحديد، التي تبلغ فيها نسبة مشاركة النساء في قوة العمل 20.18 في المئة فقط، وفقًا لبيانات منظمة العمل الدولية للعام 2019.

يستمر غياب المساواة الجندرية في أماكن العمل بسبب استدامة التمييز بين الجنسين على مستويات مختلفة في بيئة العمل ومنها الأجور، إذ كشفت بيانات المنتدى الاقتصادي العالمي أن الفجوة في الأجور بين النساء والرجال تصل إلى 23 في المئة، فضلًا عن اتساع الهوة بين الجنسين في التمكين من المناصب القيادية، وهو ما تثبته نتائج تقرير أصدرته منظمة العمل الدولية في العام 2019، إذ تبلغ نسبة الشركات التي تتولى فيها النساء منصب المديرة التنفيذية 21.7 في المئة فقط.

علاوة على ذلك، تُبرِز أرقام صدرت عن مركز العالم لتحليل السياسات التابع لجامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة، أن النساء يعانين بشكل ملحوظ من غياب الحماية من التحرش الجنسي في أماكن العمل، إذ لا يتوفر في أكثر من ثلثي دول العالم قوانين تختص بهذه الجرائم، مما يؤثر على نحو 235 مليون امرأة عاملة حول العالم. وفي 24 دولة، هناك 82 مليون امرأة عاملة لا يحظين بحماية قانونية من التمييز في المكافآت والترقيات والتدريب في العمل.

أمر آخر يزيد من تعقيد الأزمة وهو العمل المنزلي غير المأجور الذي تتحمل أعباءه النساء إلى جانب عملهن خارج المنزل، ووفقًا لأرقام هيئة الأمم المتحدة للمرأة، فإن النساء حول العالم يتحمّلن مسؤولية 75 في المئة من العمل المنزلي وأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر.

بسبب كل ذلك، تبقى المساواة بين الجنسين في سوق العمل بعيدة، خاصة أن التغيير يحتاج إلى سياسات وتشريعات لحماية العاملات والعاملين في الإطارين الرسمي وغير الرسمي، ولكن يمكن الدفع باتجاه التغيير إذا شرعت مؤسسات العمل ذاتها في تطبيق قواعد ومبادئ من شأنها دعم تمكين النساء وخلق بيئة آمنة لهن، بما يساهم في الوصول إلى المساواة المنشودة، وذلك اعتمادًا على ما توّصلت إليه دراسات وتقارير أصدرتها مؤسسات ومراكز بحثية دولية، ومن بينها البنك الدولي وهيئة الأمم المتحدة للمساواة وتمكين الجنسين (UN WOMEN)، ومؤسسة كير الدولية (Care International).

تبدأ عملية التغيير من وعي بالحاجة إليه، ثم تحوّل الوعي إلى تطلع لخلق واقع مختلف، يتبعه جمع معلومات بشأن الأدوات والخطوات التي ستصبح أساسًا للتطبيق العملي الذي لا بد أن يخضع للمتابعة والتقييم والتحديث. ولإحداث تغيير لصالح النساء في واقع العمل، نستعرض عددًا من الأمور المُوصى بها في سبيل الوصول إلى ذلك.

استحداث سياسات لمكافحة التحرش والابتزاز الجنسي

تستدعي مكافحة العنف الجنسي داخل أماكن العمل، تضمين التدابير اللازمة للحيلولة دون وقوع جرائمه في لوائح تنظيم العمل، وتطبيق العقوبات بشكل صارم على مرتكبيها. ولتحقيق ذلك، يتعين على المؤسسة استحداث آليات لتقديم الشكاوى بما يحفظ سريتها، لحماية الناجية من الضغط أو الاستهداف، خاصة إذا كان مرتكب الجريمة يرأسها بشكل مباشر أو غير مباشر، بالإضافة إلى إتاحة ضمانات تحميها من الإيقاف أو الفصل التعسفي.

بالتوازي مع ذلك، يجب أن توفر مجالس الإدارة التوعية الكافية للعاملات والعاملين سواء بدوام كامل أو جزئي، والمتدربات والمتدربين، والمتطوعات والمتطوعين، بشأن ماهية العنف الجنسي والخصوصية، إلى جانب التأكيد قولًا وفعلًا على أن المساواة بين الجميع هي أحد المبادئ التوجيهية التي تسير عليها مؤسسة العمل.

كما يجب النظر إلى جرائم التحرش والابتزاز الجنسي في أماكن العمل، باعتبارها عرضًا من أعراض الثقافة المجتمعية الذكورية التي تخلق وترسخ قناعة لدى الرجل بأحقيته في إخضاع النساء له ولرغباته، مع شعور أقرب إلى اليقين بأنه سينجو بفعله من العقاب، وينبثق ذلك عن اعتقاد بأن الناجية ستضطر إلى السكوت نتيجة الخوف من فقدان الوظيفة أو الإساءة والتشهير. وبالتالي، فإنه من الضروري أن تضطلع المؤسسة بمسؤولية دحض الفكرتين من خلال آليات لمراقبة الممارسات التي تنطوي على تمييز ضد النساء، والاستمرار في متابعة وتحديث السياسات التي وضعتها لمنع وحماية النساء من التمييز والعنف الجنسي، إلى جانب تدريب المسؤولين عن التحقيق في الشكاوى على التعامل الأمثل مع الناجيات، والاجتهاد في سبيل القضاء على أي ثغرة قد تسمح لهم بالتواطؤ مع المتهمين.

في اتفاقيتها بشأن القضاء على العنف والتحرش الجنسي في عالم العمل، الصادرة في يونيو من العام 2019، تُعرّف منظمة العمل الدولية الجريمتين في المادة الأولى منها بــ«مجموعة من السلوكيات والممارسات غير المقبولة أو التهديدات المرتبطة بها، سواء حدثت مرة واحدة أو تكررت، تهدف أو تؤدي أو يحتمل أن تؤدي إلى إلحاق ضرر جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي، وتشمل العنف والتحرش على أساس نوع الجنس»، وتضيف الاتفاقية في الفقرة الثانية من المادة نفسها «يعني مصطلح “العنف والتحرش على أساس نوع الجنس” العنف والتحرش الموجهين ضد الأشخاص بسبب جنسهم أو نوع جنسهم، أو الذين يمسان على نحو غير متناسب أشخاصًا ينتمون إلى جنس معين أو نوع جنس معين.»

التنوع الجندري.. يجب أن يصبح أولوية استراتيجية لأرباب العمل

مسألة التنوع الجندري تعني ببساطة التمثيل العادل للذكور والإناث داخل مؤسسات العمل، من دون تفضيل لجنس على الآخر في أدوار وظيفية بعينها، لأسباب ترتبط بتصوّرات وتوقعات مجتمعية إزاء كل جنس. ولتحقيق ذلك، يجب أن تكون عملية التوظيف بالمؤسسة قائمة على اختيار الأجدر لشغل الوظيفة المتاحة، بعيدًا عن الافتراضات المُسبقة بشأن أفضلية الرجل لموقع ما ومناسبة المرأة أكثر لوظيفة ما، فضلًا عن أهمية استخدام لغة حساسة للنوع الاجتماعي في الإعلانات الوظيفية، والتوقف عن استخدام العبارات التي تخاطب الذكور في أغلب إعلانات الوظائف، وتجنب الإشارة إلى احتياجات خاصة تميز بين الجنسين، كالقدرات الجسمانية أو الشكل (مطلوب آنسة حسنة المظهر).

إذا أدركت المؤسسات أهمية «المرونة»، بمعنى إتاحة الوقت للعمل من المنزل أو العمل بدوام جزئي، سيساعد ذلك بشكل ملحوظ في إعطاء فرص لمزيد من النساء لا سيما اللواتي تضطرهن الظروف الأسرية إلى البقاء في المنزل في أوقات محددة أو لفترات أطول.

هذه بعض الخطوات التي قد تقود إلى التنوع الجندري في ساحات العمل، إلا أن إقناع أرباب الأعمال أنفسهم بأهمية تحقيق فكرة التنوع، يحتاج إلى مخاطبتهم بما يكترثون إليه، لأن كثيرين منهم لا يهتمون بالأمر بدعوى أنه لن يؤثر على العوائد الاقتصادية، وبعضهم يرى أن زيادة عدد النساء ربما يضر بإنتاجية العمل، وهي أمور أثبتت مؤخرًا دراسات وتقارير دولية عديدة عدم صحتها، ومنها دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي صدرت في العام 2016. وقد أجريت هذه الدراسة على عينة من الشركات بلغ قوامها نحو 22  ألف شركة من 91 دولة، وكشفت أن الشركات التي تتولى النساء فيها على الأقل 30 في المئة من المناصب القيادية، تجاوزت أرباحها عن منافسيها بنسبة 6 في المئة.

إقامة حضانات مُلحقة بمؤسسات العمل

وجود حضانة في مؤسسة العمل حق من حقوق المرأة العاملة، وعلى الرغم من أن دولًا كثيرة تنص على ذلك في قوانينها، فإن القطاع الأوسع من مؤسسات العمل لا يُطبّق ذلك. ويرجح باحثون أن لذلك علاقة بما كشفته أرقام نشرها تقرير لمعهد التنمية الخارجية في مارس من العام 2016، وتفيد بأن 35.5 مليون طفلة وطفل أعمارهم أقل من خمس سنوات، يقضون أوقاتًا طويلة وحدهم في المنزل، في ظل وجود الأم والأب في العمل.

رعاية الأطفال التي عادةً ما تتحملها المرأة بمفردها، تدفع بكثيرات من النساء العاملات إلى اختيار البقاء في المنزل، بعد أن تنقضي المدة المحددة للإجازات الوالدية (إجازات الأمومة والأبوة)، وهي إجازات مدفوعة الأجر للوالدين تمكنهما من رعاية الأطفال حديثي الولادة، إلا أن أغلب الدول التي تطبق هذه السياسة تدفع الأجور للأمهات بينما يقل عدد الدول التي تدفع الأجور للآباء نظير الحصول على هذه الإجازة.

هذا الأمر يؤكده بحث أجراه مركز العالم لتحليل السياسات التابع لجامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة، إذ تشير نتائجه إلى أن 96 في المئة من 186 دولة تقر هذه الإجازات، تدفع للنساء أجورهن إذا حصلن عليها، في مقابل 81 دولة فقط من هذه الدول (بما يمثل 43.5 في المئة) تقر بأحقية الرجال في هذه الإجازات وتدفع أجورهم عنها، وهو ما يعوق توزيع الأدوار فيما يتعلق برعاية الأطفال إن كان الآباء يريدون فعليًا تقاسم المهمة.

يمثل توفير حضانات داخل أماكن العمل أحد العوامل التي تساهم في خفض نسبة انسحاب الأمهات من سوق العمل، خاصة إذ توازى مع تفعيل إجراءات أخرى من شأنها تعزيز مشاركتهن كساعات العمل المرنة وإتاحة العمل من المنزل مثلما أشرنا سلفًا.

تطبيق سياسة «إجازة الدورة الشهرية»

تشير دراسة أجرتها مؤسسة برمنجهام للنساء والأطفال البريطانية، في العام 2012، إلى أن 20 في المئة من النساء يعانين مما يسمى علميًا بـ «عسر الطمث» أو «آلام الدورة الشهرية»، بدرجة تكفي لإعاقتهن عن القيام بالأنشطة اليومية. هذه الحقيقة تستند إليها مجموعات نسوية أو قطاع من التيار النسوي، وليست كل الحركات النسوية، في المطالبة بتطبيق سياسة «إجازة الدورة الشهرية»، التي تعترف بها بعض الدول عبر تشريعات تنص على حق النساء العاملات في الحصول على إجازات مدفوعة الأجر خلال فترة الحيض، بسبب ما يتعرضن له من آلام شديدة. وقد بدأ الاعتراف القانوني بهذه الإجازات في العام 1947 في اليابان، ثم لحق بها بلدان أخرى مثل تايوان، وكوريا الجنوبية، وأندونيسيا، وبشكل واضح فإن قارة آسيا تعد الأكثر تطبيقًا لهذه السياسة في العالم. كما بدأت بعض مؤسسات العمل في دول مختلفة في تطبيق هذه السياسة، وأولها شركة Nike الأمريكية التي قامت بذلك في العام 2007.

فضلًا عن الإرهاق والآلم الشديد الذين تعاني منهما المرأة خلال الدورة الشهرية، يرى القطاع المؤيد لهذه السياسة، أنها تساعد في التصدي للوصمة الاجتماعية المرتبطة بالحيض، وتُجنّب النساء الاضطرار إلى إخفاء الأمر وإدعاء أي شيء آخر للحصول على إجازة إن أرغمتهن آلامهن على ذلك.

بالطبع هذا ليس كل شيء، وإنما هو جانب من الآليات التي من شأنها الدفع باتجاه خلق بيئة عمل آمنة للنساء، وتدعم مشاركتهن في سوق العمل، وتضع تمكينهن أولوية.