كتبت: شهد مصطفى

تشبُّ الفتيات في مجتمعنا وقد ترّسخ في أذهانهن أن المرأة يجب أن تكون مسالمة، لا تبدأ معاركَ ولا تشن هجومًا، إذ تعمد معظم العائلات إلى إقناعهن منذ الصغر بأن الأنثى لا بد أن تكون مصدرَ سعادةِ المحيطين، وأن تتحمّل تقلبات الآخرين وتمتص تبعاتها، ويكبرن وقد سمعن مرارًا وتكرارًا أن المرأة الذكية هي التي تتجاوز عن سيئات الرجل. هذه الفروض التي ألزم المجتمع بها المرأة لتحظى بالقبول، عادةً ما تدفعها في كل مرة تقرر التخلص من وضع أرهقها، أو التوقف عن فعل أعياها، أو الرحيل عن مكان أثقلها بالعناء، أن تسأل نفسها مجموعة من الأسئلة: هل أنا مضطرة لذلك فعلًا أم يمكنني التحمُّل؟ هل يحق لي اختيار الرحيل؟ كيف سينظرون إلي بعدها؟ هل أنا قادرة على التعامل مع غضبهم؟

بعد سنوات من مُناطحة الخوف من السخط والوصم والوحدة، قررت دعاء ألا تكون السيدة الحمولة، المطيعة، الراضية، ورفضت استكمال هذا الدور في القصة التي نسجت أسرتها خيوطها، ورحلت عن أرض الأذى.

«لقد سكنت وجداني قناعة بأن المرأة من طباعها تُحمّل أي شيء وكل شيء، وصدَّقتُ أننا كنساء خُلِقن للتعايش مع الأمر الواقع مهما بلغت مساوئه. هذه عقيدة أمي التي أرادت لي أن أؤمن بها، فكانت تقول: الست الأصيلة هي حمّالة القسية، تستحمل وترضى بالوحش قبل الحلو.»

ومع ذلك، استيقظت دعاء في أحد الأيام وقد قررت أن تضع حدًا لمعاناتها، فانتظرت حتى خرج زوجها إلى العمل، ثم جمعت بعضًا من أغراضها وتركت المنزل، بعد أن عقدت العزم على الرحيل عنه نهائيًا. وبعد أيام من بحث الزوج عنها، هاتفت والدتها وقالت لها إنها قررت الانفصال عنه وتطليق نفسها، وأنها بصدد إقامة دعوى لخلعه.

جاء قرار دعاء الصادم لأسرتها والمحيطين بها، بعد خمس سنوات من مكابدة العنف الزوجي وتحمُّل الآلم النفسي والجسدي، مشيرةً إلى أنها لم تجد خلال هذه السنوات مساندةً من مجتمعها الصغير الذي كان يرى أن التعايش مع الآلم أهون من الطلاق.

تعرّضت دعاء للعنف بمختلف أشكاله منذ أن كانت طفلةً، «كان كل من في المنزلِ يعتدون علي جسديًا، سواء أبي أو أخي أو أمي، لأسباب تافهة وأخطاء طبيعي أن يرتكبها الأطفال، أو لأنني أزعجت أخي باعتراض أو سباب، وكان يحق له من دون حساب أن يعنفني لفظيًا وجسديًا، لأنه الصبي المدلل –الواد الحيلة- ومن حقه أن يربي شقيقته مثلما يفعل أبواه.»

لم تُفكّر دعاء قبل زواجها في الاستقلال، ورغم حلقات العنف المتصلة لم ترد بخاطرها فكرة الانفصال عن أسرتها، وتفسّر ذلك قائلةً «لقد نشأتُ في بيئة محافظة، وكنت على يقين من أنني طالما أعيش في العاصمة فلا مبرر لترك بيت أسرتي، ففرص التعليم والعمل هنا، والطبيعي للمرأة أن تعيش مع أسرتها حتى تتزوج فتنتقل إلى بيت زوجها، فضلًا عن أنني كنت أخشى خسارة صديقاتي ولو كنت فعلت ذلك – وإن كان الأمر مستحيلًا لأن أهلي كانوا سيمنعوني بالتأكيد- كنت سأخسرهن حتمًا، سواء لأنهن سيرفضن مصادقة فتاة خرجت عن المألوف وفعلت شيئًا لا يقبله المجتمع، أو لأن أسرهن ستمنعهن من التواصل معي، بعد أن أصبحت في نظرهم فتاةً سلكت طريق الانحلال.»

بعد تخرجها في الجامعة بثلاث سنوات وبالتزامن مع تحضيرها لمناقشة رسالة الماجستير، تزوّجت دعاء برجل يكبرها بعشر سنوات، رشحته خالتها لأبويها. ومن البداية، بدا الرجلُ سريع الانفعال وشديد الفظاظة، وكانت طباعه تخيفها، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لإقناع والديها بفسخ الخطبة، «كلما اشتكيت إلى أمي بررت له فعله، وفي كل مرة كانت تقول: يا بنتي الراجل شاريكي.. لازم تستحمليه.»

وبعد تسعة أشهر من زواجها، ذهبت دعاء إلى أمها في حالة ذعر، ترتجف من شدة الخوف وتذرف عيناها دمعًا، لتخبرها أن زوجها اغتصبها بعد أن رفضت أن تمارس الجنس معه، عقب مشادة لفظية وقعت بينهما في اليوم نفسه.

وصفت دعاء ما جرى بالاغتصاب وهو ما رفضته الأم، «قالت لي: ده جوزك.. مفيش راجل بيغتصب مراته»، ثم طلبت منها أن تُخفِض صوتها وأن تتوقف عن ذكر مزيد التفاصيل، لأنها رأت أن ابنتها أخطأت من البداية، عندما رفضت أن تمارس الجنس مع زوجها، وقالت لها بلهجة حادة «ده واجب عليكِ، لازم تستحملي هو إيه حصل يعني خناقة زي أي خناقة. استحملي جوزك وأدعيله ربنا يصلح حاله.. اللي بتقوليه ده لا ينفع يتقال لأبوكِ ولا أخوكِ.»

لم تكن هذه المرة الوحيدة التي تتعرض فيها دعاء للاغتصاب على يد زوجها، ولم تكن أيضًا المرة الأخيرة التي تذهب فيها إلى أمها ترجوها أن تخبر والدها بأنها لم تعد تطيق الرجل وتريد الطلاق، وفي كل مرة كانت تعود أدراجها كاسفةَ البالِ بعد أن تُحبِطها أمها.

تعتقد دعاء أن المشكلة الكبرى هي أن القطاع الأعرض من النساء – وهي إحداهن- يتصالحهن مع رؤية حيواتهن تنهار أمام أعينهن من دون أن يتحركن لوقف ذلك، بل إنهن يتركن حيواتهن تندثر تحت الركام، ليتأكد المحيطون أنهن التزمن بالمطلوب منهن وكن مطيعات ومسالمات وتحمّلن إلى أقصى درجة. وبعد ذلك يبدأن في البحث عن منفذ للخروج من بين الركام، أو يستسلمن للبقاء تحته.

دعاء كانت من هؤلاء اللاتي قررن أن يخرجن من تحت الركام، على حد تعبيرها، واتخذت قرار الانفصال بعد أن تركت هذه الزيجة جروحًا وكدمات بارزة على الروح قبل الجسد، وبعد أن أعطت لأسرتها فرصًا كثيرة لتثبيطها.

توفي والد دعاء بعد ثلاث سنوات من زواجها، وسافر شقيقها إلى الخارج بعد زواجه العام الماضي، «هذه الظروف تبدو سيئةً في ظاهرها، إلا أنها جاءت في صالحي لأن الضغط علي صار أقل من ذي قبل. أبي الذي كنت أخشاه بشدة لم يعد موجودًا، وأخي انشغل بأسرته ولا أظن أنه ما زال مهتمًا بأمري كما كان، وأمي لا يتجاوز رد فعلها حدود الصراخ في الهاتف، وبالتالي فمعركتي الحالية مع زوجي وقد أعددت لها جيدًا منذ فترة، وأعلم أنني سأحسمها. أما المجتمع المحيط بي فلم يعد يعنيني كما كان في السابق.»

أحد المنازل المجاورة لذلك الذي كانت تسكنه دعاء بعد أن تزوّجت، كانت منيرة تقوم بتنظيفه وترتيبه مرتين أسبوعيًا، حيث اعتادت على ذلك لما يزيد عن عشر سنوات، حتى انتقل مؤخرًا ساكنوه إلى مكان آخر.

بدأت علاقة منيرة بالعمل المنزلي بعد أن أتمّت عامها الثالث عشر، إذ قررت أمها أن تصطحبها معها إلى المنازل التي تذهب إليها للتنظيف وإعداد الطعام للأسر المقيمة فيها. وبعد أربع سنوات، علمت الأم بإصابتها بالسرطان، فصارت ابنتها تذهب وحدها إلى هذه المنازل للقيام بالعمل الذي كانت تقوم به، وتركت المدرسة قبل أن تنهي تعليمها الثانوي.

«بعد أن تمكن منها المرض، وباتت النهاية أكيدة وقريبة، أصرّت أمي على تزويجي سريعًا حتى تطمأن علي، لأنها تعلم أنني سأكون وحيدة بعد وفاتها، فقد تزوّج أخوتي وابتعدوا عنا، وأبي توفي عندما كنت طفلة، ولذلك تفهمت مخاوفها التي كانت تسيطر علي أيضًا، خاصة أن بعض شباب المنطقة التي كنا نسكنُ فيها، صاروا يتتبعوني عند عودتي في المساء ويتحرشون بي لفظيًا.»

تزوّجت منيرة بأحد جيرانها الذي كان يعمل سائق نقل بضائع، وهي في التاسعة عشرة، واستمر عملها في المنازل بعد الزواج، إذ لم تنقطع عنه سوى لسنة واحدة بعد أن وضعت طفلتها الوحيدة. وفضلًا عن مشاق العمل الذي تغيب عنه الضوابط لعدم وجود تشريع ينظمه، كانت تعاني في منزلها من عنف زوجها واستحواذه على أغلب ما تتحصل عليه من أموال، ليبددها في أماكن غير معلومة على حد قولها، بينما يترك لها القليل لتوّفر به احتياجات ابنتهما والبيت.

أضحت تصرفات زوجها مصدر خلاف مستمر بينهما، وكثيرًا ما كانت تنتهي المشادات باعتدائه عليها، ورغم أن فكرة الرحيل باغتتها أكثر من مرة، فإنها لم تقدم عليها خلال اثنين وعشرين عامًا، «كنت أتحمل من أجل ابنتي، وحتى أعيش بسلام فأنا لا أريد أن يصمني أحد، خاصة أن العمل في المنازل يُعيبُه كثيرون، وهناك من يسيء الظن بالنساء اللاتي يمتهن هذا العمل، خاصة إذا كن فعلن ذلك قبل الزواج.»

تحمّلت منيرة عنف زوجها خشية الإساءة والوصم وحتى لا تُعرّض ابنتها لمكروه كما كانت تظن، «كنت أخاف على ابنتي، أخاف أن يأخذها مني، أخاف أن يتقوّل علي أهل المنطقة كذبًا فتكرهني.»

في آخر مرة اعتدى زوج منيرة عليها، سبب لها في نزيفًا في شبكية العين، ونقلها جيرانها إلى المستشفى، وبعد خروجها منها قررت بشكل نهائي ألا تعود إلى البيت مرة أخرى.

«سألت نفسي ما الذي يدفعني لاحتمال المزيد، وما الذي انتظره؟، هل انتظر أن يتسبب لي في عاهة مستديمة حتى أقرر حينها الرحيل؟، فذهبت إلى أختي وطلبت منها أن تتحملني لبضعة أيام حتى أجد مكانًا أؤجره للعيش فيه، وساعدتني سيدة أعمل في منزلها على دفع إيجار غرفة على سطح أحد البيوت.»

لم يستطع الزوج الوصول إلى منيرة، لأنه لم يكن يعرف مكان شقيقتها، فظل يحاول الوصول إليها عبر الهاتف، إلى أن ردت عليه وأخبرته بأنها لن تعود إليه، فأمطرها بوابل من السباب وتوّعدها بالقتل.

لكن الملاحقة والتهديد لم يستمرا طويلًا، فقد تدّخلت سيدة ميسورة الحال ورفيعة الشأن -تعمل منيرة في منزلها منذ سنوات عديدة- لحمايتها، فاتصلّت به وأنذرته بإبلاغ الشرطة عنه إذا لم يتوقف عن ذلك.

وبعد شهور من رحيل منيرة عن المنزل، انتقلت ابنتها للعيش معها بعد أن أعلمها والدها بأنه سيتزوج وستقيم زوجته الجديدة معهما.

تعتقد منيرة أنها تأخرت في اتخاذ قرار الرحيل بسبب أوهام «اكتشفت أنني كنت أعيش في وهم خلقته بنفسي، فقد كنت أتصوّر أن تحمّلي لإهانة هذا الرجل واعتدائه المستمر علي، سيجنبي نظرات الناس المرتابة وكلامهم القبيح، وهذا غير صحيح. هناك من كان يتحدث عني بالسوء منذ سنوات، ولم يصرف زواجي شكوكهم بعيدًا، ولم يكن بقائي معه يحميني أو يحمي ابنتي بل على العكس كان مصدر قلق وتعاسة.»

تُوقن منيرة أن هذا الرحيل هو أصح فعل قامت به في حياتها، وقد ألقى بظلاله إيجابيًا على جوانب مختلفة فيها، وبالأخص علاقتها بابنتها التي باتت أفضل كثيرًا مما سبق، إذ أصبحت مساحات الحديث بينهما أكبر، وتتشاركان تفاصيل أيامهما، وتخرجان سويًا للتنزه من دون أن يتحسبا لما قد يلقيانه، إذا عاد ذلك الذكر ولم يجدهما في انتظار قدومه التعيس.