كيف استجاب مهرجان «كان» في نسخته الـ72 إلى مطالب المخرجة النسوية آنيس فاردا؟
بعد أقل من شهرين على وفاتها، تتزين ملصقات الدورة 72 لمهرجان كان السينمائي الدولي، المنعقد حاليًا وحتى 25 من الشهر الجاري في قصر المهرجانات بمدينة كان الفرنسية، بصورة للمخرجة الفرنسية البلجيكية آنيس فاردا التي تعد واحدة من رواد الموجة الجديدة في السينما الفرنسية إبان الخمسينيات والستينيات. وتظهر فاردا في صورة التُقِطت لها أثناء تصويرها لأول أفلامها الطويلة وهو «La Pointe Courte»، الذي أنجزته في العام 1954.
علاوة على كونها واحدة من أهم المخرجين في السينما الفرنسية، عُرِفَت فاردا بكونها ناشطة نسوية وهو التوصيف الذي اختارته لنفسها، وقد حل اسمها بين 343 موقع على بيان كتبت نصه سيمون دي بوفوار ونشرته جريدة «Le Nouvel Observateur» في 5 إبريل من العام 1971، للمطالبة بتقنين الإجهاض في فرنسا. كما قدمت فاردا للسينما واحدًا من أهم الأفلام المنتمية إلى التيار السينمائي النسوي، وهو «إحداهن تغني والأخرى لا- L’Une Chante, L’autre Pas» الذي صدر في العام 1977 وتناولت من خلاله حق النساء في الإجهاض، ورصدت الواقع الذي تعايشه الفرنسية إن قررت أن تجهض حملها في ظل تجريمه.
خلال مسيرتها، استغلت فاردا الفضاءات والفعاليات السينمائية لتسليط الضوء على صور التمييز والعنف ضد المرأة، واَخرها ما فعلته في الدورة 71 لمهرجان كان التي انعقدت في مايو من العام الماضي، إذ اعتلت سلالم مسرح لوميير بصحبة 82 امرأة من العاملات في مجال السينما، للاحتجاج على التمثيل المحدود للنساء في تلك الدورة، مطالبات بتمثيل أكبر في المهرجان وفي صناعة السينما عمومًا. وقد جاءت هذه التظاهرة في إطار مبادرة تحمل اسم «5050×2020» تضغط من أجل الوصول بحجم المشاركة النسائية في المهرجان في دورة العام 2020، إلى 50 في المئة.
إلى جانب نقد مستمر يواجهه المهرجان بسبب محدودية تمثيل النساء في أقسامه، نجحت هذه التظاهرة التي شاركت فيها الممثلة الأسترالية كيت بلانشيت، رئيسة لجنة تحكيم المهرجان وقتذاك، في الحصول على استجابة لمطلب رفع نسبة التمثيل النسائي، وهو ما تظهره الأرقام في الدورة المنعقدة حاليًا. فضلًا عن زيادة النسبة، راعى المنظمون تنوع وتعدد أعراق وهويات المشاركات، إلا أن القدر لم يُمهل فاردا لترى ما طالبت به يتحقق ولو نسبيًا، إذ وافتها المنية في الـ29 من مارس الماضي عن عمر ناهز الـ90 عامًا.
في الدورة المنعقدة حاليًا، يبلغ عدد المخرجات المشاركات عشرين مخرجة، أربع منهن ينافسن بأفلامهن في المسابقة الرسمية، وثماني مخرجات في مسابقة نظرة ما، وثلاث في قسم العروض الخاصة، بالإضافة إلى خمس أخريات في مسابقة الأفلام القصيرة.
وفي المسابقة الرسمية التي تضم 21 فيلمًا، تنافس السنغالية ماتي ديوب مخرجة فيلم «أتلانتيك» التي لم تظفر فقط بالترشيح وإنما حازت لقب أول امرأة من ذوات البشرة السوداء تنافس في هذه المسابقة الرفيعة، بالإضافة إلى النمساوية جيسيكا هسنر مخرجة فيلم «جو الصغير»، والفرنسية جيستن تريت مخرجة فيلم «سيبال»، والفرنسية سيلين سياما مخرجة فيلم «صورة لسيدة على النار»؛ وبذلك ترتفع نسبة تمثيل المخرجات في المسابقة الرئيسة إلى 19 في المئة بعد أن كانت في دورة العام الماضي 14 في المئة، و16 في المئة في دورة العام 2017.
وفي هذه الدورة، المناصفة متحققة على مستوى لجان التحكيم، إذ تترأس المخرجة اللبنانية نادين لبكي لجنة تحكيم مسابقة نظرة ما، لتصبح أول امرأة عربية تتولى رئاسة لجنة تحكيم في تاريخ المهرجان الأضخم والأشهر دوليًا، بينما تتولى المخرجة الفرنسية كلير دينيس رئاسة لجنة تحكيم الأفلام القصيرة وأفلام الطلبة، وفي المقابل يترأس رجلان لجنتي تحكيم المسابقة الرسمية وأسبوع النقاد. الوضع نفسه بالنسبة لتمثيل المرأة في عضوية اللجان، إذ تُمثّل النساء 50 في المئة من الأعضاء في اللجان، باستثناء لجنة تحكيم الأفلام القصيرة وأفلام الطلبة، التي تضم ثلاثة أعضاء من الذكور، وعضوة واحدة (إلى جانب الرئيسة) وهي الممثلة الفرنسية ستايسي.
الاتهامات التى طالما وُجِّهت إلى مهرجان كان بالانحياز إلى صنّاع الأفلام على حساب الصانعات لها أساسها، وبالنظر إلى جائزة السعفة الذهبية، الجائزة الأرفع والأعلى في المهرجان، يتبين أن 1600 مخرج تنافسوا عليها منذ انطلاق المهرجان وحتى دورته الـ71، إلا أن امرأة واحدة فقط فازت بها خلال هذه المسيرة الطويلة، وهي النيوزيلاندية جين كامبيون عن فيلمها «البيانو- The Piano» في العام 1993. كما أن نسبة الأفلام التي ترشحت للجائزة وكانت من إخراج نساء تبلغ 4.3 في المئة.
على الرغم من أن نسبة تمثيل المخرجات المتنافسات على جائزة السعفة الذهبية في الدورة الحالية تبقى ضئيلة، فإنها الأعلى منذ العام 2011، وما يبعث على الأسف هو ما تكشفه المقارنة مع مهرجانات أخرى مثل مهرجان برلين السينمائي، الذي بلغت نسبة الأفلام التي أخرجتها نساء وتنافست في نسخته الأخيرة التي انعقدت في فبراير الماضي، نحو 40 في المئة.
المخرجات العربيات: حضور يحفظ ماء الوجه
لم تحظ المسابقة الرسمية بمشاركة نسائية عربية، بينما تشارك مخرجتان من المغرب العربي في قسم نظرة ما، وهما المغربية مريم توزاني مخرجة فيلم «آدم» والجزائرية مونيا ميدور مخرجة فيلم «بابيشا»، ويغلب على الفيلمين الطابع النسوي، إذ تدور أحداث «آدم» حول امرأة حامل تضطر إلى الانتقال من الريف المغربي إلى مدينة الدار البيضاء بعد أن رفض والد طفلها الاعتراف به، لتبدأ مع رحلتها طورًا جديدًا في حياتها، بينما تدور أحداث «بابيشا» بالتزامن مع الفترة الدموية التي تُعرَف باسم «العشرية السوداء» في الجزائر، عندما عانت النساء من تدخل الإسلاميين في شتى تفاصيل حياتهن اليومية خاصةً ملابسهن، وهو الأمر الذي تقرر البطلة تحديه، وإقامة عرض أزياء بالتعاون مع صديقاتها، دون اكتراث بما قد يُحدثه ذلك.
وفي قسم العروض الخاصة، تشارك السورية وعد الخطيب، كمخرجة شريكة في إخراج فيلم «من أجل سما – For Sama» مع البريطاني إدوارد واتس، وهو فيلم تسجيلي يرصد حياة مخرجته في سوريا عقب اندلاع الثورة السورية.
أما المشاركة المصرية الوحيدة فجاءت على يد المخرجة «ندى رياض»، التي تنافس في مسابقة أسبوع النقاد بفيلمها «الفخ» وهو ثاني فيلم لها بعد الوثائقي «نهايات سعيدة» الذي صدر في العام 2016 وطافت به في ما يزيد عن 20 مهرجانًا دوليًا.
وتدور أحداث «الفخ» حول حبيبين يجتمعان في مكان مهجور بعيدًا عن الأنظار، لتبدأ هشاشة العلاقة في الانكشاف تدريجيًا، ويتبدى مدى التسلط والعنف النفسي الذي يمارسه الشاب بحق شريكته.
لابد من منغص.. تكريم آلان ديلون بالسعفة الذهبية
رغم الأرقام التي يُعدها مراقبون تقدمًا مُبشِّرًا فيما يخص تمثيل النساء في مهرجان كان، فقد وصفت منظمة «تجرأوا على النضال النسوي- Osez le féminisme» هذه الدورة بالمُسيئة للنساء والمؤيدة للعنف ضدهن، وذلك على خلفية اختيار الممثل الفرنسي آلان ديلون لنيل جائزة السعفة الذهبية الشرفية.
يمنح مهرجان كان كل سنة جائزة السعفة الذهبية الشرفية لفنان استطاع أن يحقق نجاحًا كبيرًا من خلال أعماله في عالم السينما، وقد قررت إدارة المهرجان في الدورة 72، الممثل الفرنسي آلان ديلون، البالغ من العمر 83 عامًا ليكون المُكرّم بهذه الجائزة، وهو الأمر الذي قوبل برفض واسع من منظمات حقوقية داخل فرنسا وخارجها، نتيجة مواقف آلان العنصرية والمعادية للمثليين، فضلًا عن تصريحاته ومواقفه الذكورية وأشدها سوءًا تصريحه بأن صفعة واحدة للمرأة لا تعني شيئًا.
رفضًا للتكريم، أطلقت مجموعة «النساء وهوليوود» الأمريكية، الفاعلة في مجال مناهضة العنف الجنسي ضد النساء في صناعة السينما، عريضة ضد التكريم عبر الإنترنت، ونجحت في جمع نحو 17 ألف توقيع. لكن منظمي المهرجان متمسكون بتكريم ديلون، هذا ما عبّر عنه المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، رئيس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، في مؤتمر صحافي عندما سُئل عن الأمر، وأجاب قائلًا «نحن لا نعطيه جائزة نوبل للسلام»، وأضاف «نحن نعطيه جائزة السعفة الذهبية الشرفية عن مسيرته كممثل.»
مثل هذه التعليقات تعكس قصورًا واضحًا في استيعاب كثيرين من صنّاع الأفلام لمفهوم مناهضة العنف والتمييز ضد المرأة أو عدم جديتهم في هذا الصدد، لأن القضاء على الظاهرتين لا يحققه فقط تمكين النساء من مقاعد في لجان التحكيم أو ضمان حضورهن التنافسي في المسابقات فحسب، وإنما بالتوقف عن إفساح المجال للاحتفاء بمن يحط من قدرهن ويرتكب عنفًا ضدهن سواء كان معنويًا أو ملموسًا.