سينمائيون كشفوا عورات المجتمع وجسدوا معاناة المرأة تحت وطأة الأبوية
“خان” هو الرائد.. و”بركات” استهوته معاناة الريفيات.. و”فؤادة” نقطة بيضاء في تاريخ “حسين كمال” المحفوف بتسليع النساء
بدأت علاقة مصر بالسينما مبكرة جدًا، بعد نشأتها بشهر واحد فقط، في ديسمبر من العام 1895، وعرفت مصر أول عرض سينمائي في مقهى زواني بالإسكندرية (يناير من العام 1896)، وفي مرحلة النشأة، لعبت المرأة المصرية دورًا قويًا ومحوريًا في وضع قواعد السينما، وبالعودة إلى التاريخ، فإن “عزيزة أمير” وضعت حجر أساس في هذه الصناعة، ومن ثم لحق بها سينمائيات أخريات، ومنهن من لم يتوقف دورها عند حد تقديم منتج سينمائي ناجح سواء على الصعيد الفني أو الجماهيري، ولكن أوكلت لنفسها مسؤولية كشف الظلم المجتمعي الواقع على النساء، واتخذت من السينما وسيلة لرفع اللثام عن المسكوت عنه وتعرية المنتمين والمنتميات للنظام الأبوي أمام أنفسهم، وذلك لا يعني أن قضايا المرأة، لم يدافع عنها أو يفرد لها مساحات سينمائية سوى النسوة، فهناك من السينمائيين من اشتبك مع هذه القضايا، ومنهم من عالج أزمات تعايشها النساء في مجتمعنا بحرفية وإنسانية، تركت بصمات حركت الماء الراكد في مجتمع عصي على التغيير، ولعل أبرز اسم في هذا المجال هو المخرج الراحل “محمد خان”.
عادةً ما يُروَج إلى أن المنتجات الدرامية التي تناقش قضايا نسائية أو تعكس معاناة المرأة لابد أن تكون صناعة نسائية، لكن التاريخ السينمائي يثبت غير ذلك، فهناك أفلام صنعها رجال،تنتمي إلى أفلام التيار النسوي أو الأفلام ذات الطابع النسوي
صلاح أبو سيف
من أبرز افلامه المناصرة للمرأة فيلم “لا أنام”، إنتاج العام 1956، ناقش من خلاله نظرة المجتمع للمرأة وإدانته لها لا لسبب إلا جنسها، وتعرض إلى قضية المساواة، ولعل أبرز ما قدمه انتصارًا لحرية المرأة، فيلم “أنا حرة” من إنتاج العام 1958، وهو عن قصة للكاتب الروائي “إحسان عبد القدوس”، ويناقش قضايا تحرير المرأة وخروجها إلى لعمل جنبًا إلى جنب مع الرجل في فترة الأربعينيات، وحق الاختيار وتقرير المستقبل.
هنري بركات
استغل “هنري بركات” موهبة “فاتن حمامة” أفضل استغلال لتعبر بكل براعة عن معاناة المرأة في أفلامه، ويتجلى ذلك في فيلم “دعاء الكروان” من إنتاج العام 1959، وهو عن رواية للأديب “طه حسين”، وتعرض مبكرًا لجرائم الشرف التي تُقتل بسببها المرأة بدم بارد، وبكل تفاخر، ويظهر ذلك في الفيلم من خلال القصة الشهيرة لقتل الخال لابنة أخته “هنادي” بعد أن علم بالعلاقة الجنسية، التي جمعتها بصاحب المنزل الذي أرسلتها أسرتها لتعمل خادمة لديه، وعندها قرر الانتقام لشرف “العائلة” بقتلها. و”دعاء الكروان” هو أحد فيلمين مصريين وصلا إلى التصفيات الأخيرة لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي.
يأتي بين أعماله التي تعرضت للنساء المهمشات اللاتي يقهرهن الفقر والذكورية، فيلم “الحرام” المنتج في العام 1956، وعن رواية بنفس الاسم للكاتب “يوسف إدريس”، ويحكي الفيلم عن ما تتعرض له الفلاحات المصريات وتحديدًا عاملات التراحيل من استغلال، من خلال قصة اغتصاب إحداهن وهي “عزيزة”، التي تؤدي دورها “فاتن حمامة”، ليسلط الضوء على شريحة مهمشة، من النساء اللاتي يتحملن مسؤولية بيوتهن، ويتعرض للاغتصاب، فيوغل في استعراض ما يتبع الحدث، وكيف تتحمل الأنثى وتحمل نفسها عبء ما تعرضت له.
حتى يومنا هذا، تتباين قراءات هذا الفيلم من منظور نوعي، فكما يراه البعض كاشفًا للعنف ضد النساء، حتى ذلك الصادر منهن تجاه أنفسهن، هناك من يتماهى مع الذكورية، واعتبر ضعف المقاومة تجاه فعل الاغتصاب سقوطًا أخلاقيًا.
حسين كمال
على الرغم من أن “حسين كمال” تحديدًا استغل المرأة بصورة سلبية في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، وقد عمد إلى تسليعها واختزالها، إلا أنه نفسه من قدم واحدًا من درر السينما المصرية التي أنصفت المرأة وعلقت بالأذهان رمزًا للثورة والقوة، إنها “فـــؤادة”.
فيلم “شيء من الخوف” الذي أنتج في العام 1969، من بطولة شادية، ومحمود مرسي، ويحيى شاهين، عن قصة للكاتب ثروت أباظة، ويناقش الفيلم الحكم الديكتاتوري من خلال حاكم قاس وظالم، يستخدم سلطته ونفوذه في السيطرة على أهالي القرية، ولجبروته كل من يخالف أمرًا له مصيره القتل.
على الرغم من أن “فؤادة” هي رمز لمصر و”عتريس” هو المعادل للحاكم حينذاك، إلا أن هذه الرمزية لا تنفي أن “فؤادة” هي امرأة شبيهة بكثيرات، تعاني السلطوية والظلم، ويحيطها الطغيان الذكوري، لكنها ترفض الاستسلام، وتقاوم حتى تكسر القيد وتهدم هذه المؤسسة الأبوية.
سعيد مرزوق
أحد أهم أفلامه وأفلام السينما المصرية عمومًا، هو “أريد حلًا” الذي خرج للنور في العام 1975، وكشف الفيلم معاناة المصريات مع قانون الأحوال الشخصية، وقد كان الفيلم سببًا في تعديل قانون الأحوال الشخصية، بعد أن عرض قصة امرأة تدعى “درية” تؤدي دورها “فاتن حمامة”، وهي متزوجة من رجل متغطرس تحركه شهواته وتقوده الأنانية، وبعد تأزم الأمور بينهما، تطلب الطلاق لكنه يرفض، فتضطر إلى رفع دعوى بالمحكمة، فيتضاعف العذاب ويضيع العمر داخل أروقة المحاكم، حتى يتبدد الأمل نهائيًا في عودتها للحياة وعودة الحياة إليها.
أوضح هذا الفيلم بكل براعة كيف تؤدي الإجراءات المُعقدة عند طلب المرأة الطلاق إلى إهدار كرامتها؛ كما قدم نموذجًا واضحًا لما يمكن أن تحدثه السينما في المجتمع، كيف تستطيع أن تغير الواقع.
في أعقاب عرض الفيلم، وجهت الدولة اهتمامها لاستصدار قانون للأحوال الشخصية، وصدر قانون 44 لعام 1979، وبسبب فرط اهتمام السيدة الأولى به، سمي بــ “قانون جيهان” نسبة إلى “جيهان السادات”، لكن سرعان ما انتهى العمل به بعد أن ألغته المحكمة الدستورية العليا في مايو من العام 1985.
علي بدرخان
من أشهر أفلامه وأهمها، فيلم “الكرنك” من إنتاج العام 1975، وهو المأخوذ عن رواية للأديب العالمي “نجيب محفوظ”، ومن خلاله أدان الحقبة الناصرية، وكشف الاستبداد والقمع السياسي، الذي انتهجه النظام السياسي بعد ثورة 1952، وتدور أحداثه حول مجموعة من الشباب يُعتَقلون بلا مبرر سوى أنهم يلتقون على مقهى الكرنك المتعارف عنه التقاء المفكرين، والمنتقدين لما اَلت إليه الأمور بعد ثورة 1952، الفيلم رفع اللثام عن إحدى أبشع الوسائل التي اتبعتها الأجهزة الأمنية لانتزاع الاعترافات من الإناث، وهي الاغتصاب، وقد ظهر ذلك في مشهد تعرض «زينب» الشخصية التي تؤديها “سعاد حسني”، للتعذيب والاغتصاب على يد أفراد الأمن، وأثار المشهد ضجة كبيرة وقت عرض الفيلم، كما ظل عالقًا بالذاكرة.
قدم “بدرخان” فيلم “شفيقة ومتولي” في العام 1978، وقد تعرض من خلاله إلى قضية الشرف والجرائم المرتبطة به، وتجلى ذلك في مشهد النهاية عندما خرج “متولي” حاملًا شقيقته “شفيقة” غارقةً في دمائها، مطبوعة على وجهه معالم الحزن والحسرة ممزوجة بانتصار مفتعل، مبرره الانتصار للشرف.
وفي الختام كلمات صلاح جاهين في الخلفية:
متولي يرمح وعقله من الغضب طايح
النار ولا العار ولا استهتار وفضايح
قعد فى أسيوط على القهوه وسأل عنها
قالوا له: راحت بلدها دوغرى قام رايح
متولي شال جتة المقتولة بين دراعيه
ضربوها قدام عينيه بالنار ما يعرف ليه
وناس يقولوا دا هوه طعنها بالخنجر
بس احنا شفناه رماه وشفيقة جاية عليه
سوا كده أو كده شالها فى أحضانه
ودموعه تجرى كبحر النيل وفيضانه
يبكي عليها وعليه وعلى بنات الناس
واللي تبيع عرضها فى القحط و زمانه
المخرج محمد خان
محمد خان هو واحد من أكثر المخرجين انتصارًا للمرأة، والأصدق في التعبير عن دواخلها، ومن أفلامه التي حقق فيها ذلك:
“أحلام هند وكاميليا”، الذي أنتج في العام 1988، ويقدم بواقعية ساحرة معاناة خادمتين مع الفقر والقهر، وكيف يستغلهما الرجال، سواء كانوا أزواج أو أشقاء و أقارب أو مُشغلين، ويجسد الفيلم كيف يقع العبء على المرأة أكثر من الرجل، كاشفًا مدى الشقاء والبؤس الذي تعانيه.
“بنات وسط البلد”، إنتاج العام 2005، ويرصد الفيلم حياة فتاتين تجمعهما وسط البلد حيث تعملان، وبسلاسة يعرض الفيلم قصة شابتين تنتميان للطبقة الفقيرة، أحلامهما بسيطة، وسط مجتمع يمارس عنفه ضدهما بصور مختلفة.
“في شقة مصر الجديدة”، الذي أنتج في العام 2007، ويدور حول “نجوى”، فتاة ترفض أن تكون مانيكان تُعرض على الرجال الراغبين في الزواج في إطار عنوانه “زواج الصالونات”، وتبحث عن الحب، وفي رحلتها من الصعيد إلى القاهرة، يتبين لها قوة ما كانت تعرفها عن نفسها، ومن ثم تجد الحب الذي طالما بحثت عنه.
“فتاة المصنع”، من إنتاج العام 2014، في هذا الفيلم عبر “خان” عن ذكورية المجتمع الناظر إلى الشرف، باعتباره غشاء بكارة ليس أكثر.
الفيلم ينقل معاناة الفتيات المنتميات إلى الطبقة الدنيا مع المجتمع الأبوي، وكيف يقاسين مع الفقر والذكورية معًا، وقدم “خان” في هذا الفيلم معادلته الصعبة المرتبطة بأغلب أعماله، وهي المرأة ذات الأحلام البسيطة، وفي الوقت نفسه القوية التي تتحمل مشاق الحياة، وبكبريائها تذلل العقبات.
أيضــــــــــــــــــــــًا.. «فتاة المصنع» يحارب غزو “سينما تسليع المرأة”
يسري نصرالله و”احكي ياشهرزاد”
أُنتِج في عام 2009، وجسد بكل صدق عبر 3 قصص فضلًا عن قصة البطلة الرئيسة المذيعة “هبة يونس” وتؤدي دورها “منى زكي”، قضية الإزدواجية والتناقض التي يغرق فيها المجتمع، وخاصة في تعامله مع المرأة، وما تعانيه من قهر نفسي واجتماعي.
محمد دياب و”678″، وقد أنتج في عام 2010، وهو أول فيلم مصري يتطرق بجرأة وواقعية لقضية التحرش الجنسي، الفيلم استوحى اسمه من رقم أتوبيس، حيث تمثل وسيلة المواصلات هذه مساحة لانتهاك النساء جسديًا.
الفيلم يناقش القضية عبر ثلاث سيدات من طبقات اجتماعية مختلفة، ليؤكد بما لا يدع مجالًا للشك، أن التحرش لا يستهدف نساء من من طبقة معينة، أو اللاتي ينتمين لمظهر بعينه، الفيلم جسد أزمة نظرة رجال الشرطة والمجتمع للمرأة التي تتعرض للتحرش الجنسي.
عمرو سلامة و”أسماء”
الفيلم من إنتاج العام 2011، وهو فيلم إنساني بالدرجة الأولى، كتبه “سلامة”، ودخل من خلاله عالم مرضى الإيدز المنبوذين مجتمعيًا، ومن خلال شخصية “أسماء” نستكشف كيف تعاني المرأة الحاملة للفيروس أكثر من الرجل، فهي في عيون الناس امرأة لعوب لابد وحتمًا أن المرض انتقل لها عن طريق الجنس “غير الشرعي”، والمعايرة بالمرض تأتيها من الجميع والقريب قبل البعيد، حتى ابنتها.
“أسماء” أحد أقوى الشخصيات النسائية التي قُدمت في السينما المصرية، فهي مستقلة رغم ريفيتها تختار من تحب وتتزوجه، وتخلص له رغم وجوده في السجن لسنوات، وتقبل بمرضه والبقاء إلى جواره وهو على شفا الموت، وتحقق له حلمه الأخير في الإنجاب وفي مقابله تنقل الفيروس إليها لتعيش به ومعه أقسى الاَلام الجسدية والنفسية طوال العمر، إلى جانب ذلك تتسم “أسماء” بشجاعة وبأس مكناها من دحر مخاوفها من المجتمع ومجابهتها لتعيد الأمل لكل فاقد له.