«أم سعاد».. العجوز التي تذكرنا أن «القوة» و«الإرادة» مؤنث
سيدة عجوز من هؤلاء الذين يفترشون أرصفة الطريق، لأجل “لــقمة العيـــش”، يتحملن برد الشتاء وأمطاره، ويتعايشن مع حرارة الصيف المرتفعة، وأشعة شمسه الحارقة، يملكن عزم ليس كمثله عزم، إمارات العمر الطويل ومتاعبه مطبوعة على الوجه، ومع ذلك جمالهن لا يوازيه جمال فــــــ”الكادحات دائمًا هن الجميلات”.
“أم سعاد”، أرملة فى الستينات من العمر، تعيش فى منطقة مصر القديمة بالقاهرة، منذ سنوات عديدة، توفي زوجها سائق سيارات نقل البضائع فى حادث مروع، تاركًا لها ثلاث بنات، وعلى الرغم من تدهور الحال بعد رحيله، ظلت حريصة كل الحرص على أن تتم البنات تعليمهن، والاَن اثنتان منهن، تشتغلان ولكن بأجر قليل لا يكفى احتياجتهن، والثالثة مطلقة ولديها ثلاث بنات وصبي، يدرسون بالمرحلة الابتدائية.
“أم سعاد” رفضت الزواج مجددًا بعد زوجها صاحب الاسم والطابع “صالح”، وفضلت تربية أبنائها دون تدخل زوج أم يفسد أعصاب البيت، وعلاقتها بهم.
يرى الكثير ممن يعرفونها عن قرب أنها تستحق تمثالًا من ذهب، فى بداية رحلتها بعد وفاة زوجها، اشتغلت بالخياطة، ولكن بصرها لم يساندها طويلًا، وضعِف فلم تعد تجيد الخياطة، وانصرف عنها الزبائن، فاتجهت للعمل بخدمة البيوت، ومع تقدم العمر، إزدادت صعوبة القيام بهذا العمل الشاق، حتى انتهى بها المطاف إلى بيع الليمون والشبت والبقدونس على أرصفة الشوارع.
تركب الأتوبيس كل صباح لتبدأ يومها المليء بالكد والتعب وتذهب إلى المنطقة التى اعتادت عليها واعتاد الناس على تواجدها فيها، تضع على رأسها ( القفة ) وتحمل حقائب بلاستيكية ثقيلة، متطلعةً أن تنجح فى تحصيل مصاريف أسرتها، بين مدارس وغذاء وأدوية وملابس وكهرباء ومياه وغيره، وعلى الرغم من كل التعب والانهاك الذى تعيشه يوميًا لأجل بناتها وأحفادها، إلا أن أحفادها يتبرأون منها، وحين تمرض وتطلب من واحدة من الفتيات مساعدتها حتى لو فى أمور بسيطة يتنصلن منها، ومع ذلك لم تكف عن التكفل بهن ورعايتهن وتربيتهن، فتراها فى أيام الشتاء تتمسك بمكانها على الرصيف، عبائتها السوداء، أغدقها المطر، وإذا حاولت مساعدتها وتقديم الطعام لها تتظاهر بالشبع وتقول (لسه واكلة) حتى تأخذه إلى بناتها وأحفادها.
“أم سعاد” واحدة من ملايين السيدات المكافحات المعيلات، لم تنتظر عطفًا من أحد، ولم تتكأ على رجل، فقط ليخرجها من أزمتها، اختارت الوقوف كالأشجار عصية على الانكسار، عملت ومازالت تعمل، مضى العمر وهي متمسكة بقوتها لم تفرط فيها.
فالقوة والصلابة والعزيمة والقدرة جميعها “مؤنث”.