اليمين المتطرف يزداد قوة.. وصعوده يطلق العنان للمهجوسين بالسيطرة على النساء وأجسامهنّ شمالًا وجنوبًا
تشهد شعبية اليمين المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة تناميًا لافتًا منذ خمسة عشر عامًا، وتحديدًا بعد أن ضربت الأزمة المالية العالم في العام 2008، إلا أن هذه الشعبية قفزت لمستويات عالية حين تعاظمت أعداد المهاجرين إلى أوروبا في العام 2015 وما تلاه، فتمكّنت قوى اليمين المتطرف من الارتقاء إلى مراتب متقدمة في انتخابات عديدة تزامنًا مع تصاعد النزعة القومية. على الجانب الآخر، تروجُ رؤى اليمين المتشدد في الولايات المتحدة منذ أن ظفر دونالد ترامب بترشيح الحزب الجمهوري لرئاسة البلاد في العام 2016، ونجح بعدها في اعتلاء سدة الحكم.
مع صعود اليمين المتطرف تزداد خصوبة الأرض الخصبة بالأساس لأفكاره، ويقترب مريدوه أكثر من تحقيق أهدافهم، لا سيما تلك المتعلقة بالنساء، واستقلاليتهنّ الجسدية، وحقوقهن الجنسية والإنجابية، إذ ترتكز سردية الأيديولوجيات اليمينية المتشددة على مضامين أبوية ذكورية، وتتبنى مجموعات أقصى اليمين منهجًا عدائيًا تجاه الحركة النسوية وقضية العدالة والمساواة بين الجنسين، يبرره أفرادها بالخوف من تفكيك قيم الأسرة التقليدية (Traditional Family Values).
اليمين المتشدد في أوروبا ومعزوفة «قيم الأسرة»
يردف تزايد شعبية اليمين المتشدد في أوروبا ارتفاعًا في وتيرة الهجوم على المدافعات عن حقوق النساء والمجموعات النسوية النشطة؛ ففي روسيا تحرض حركة دولة الذكر اليمينة المتطرفة (Male State) منذ العام 2016 على العنف ضد الناشطات النسويات، ويلاحقهنّ أعضاؤها عبر مواقع التواصل الاجتماعي بالتهديد والإساءة والتحرش، وفي ألمانيا دخل حزب البديل لألمانيا اليميني المتشدد (Alternative for Germany) إلى البرلمان في العام 2017، وأضحى واحدًا من أقوى ثلاثة أحزاب معارضة على الساحة السياسية. وكان الحزب قد خصص جزءًا من حملته الدعائية قبل هذه الانتخابات لحض النساء الألمانيات على الإنجاب لمواجهة تدفق المهاجرين إلى البلاد، ما أعاد إلى الأذهان ترويج ألمانيا النازية لأهمية الدور الإنجابي للمرأة، بدعوى أنه السبيل للحفاظ على الهوية الألمانية وحمايتها.
في أسبانيا أيضًا تتعالى أصوات اليمين المتشدد داعيةً إلى وقف نشاط المنظمات النسوية «الراديكالية»، بالتوازي مع اتساع رقعة مؤيديه الذي انعكس على الانتخابات العامة التي أجريت في نوفمبر من العام 2019، حيث حل حزب فوكس (Vox) المتطرف في المركز الثالث بين القوى السياسية الفائزة بمقاعد البرلمان.
يقدم حزب فوكس نفسه كمدافع عن قيم الأسرة التقليدية ومعارضٍ عنيد للحق في الإجهاض الطوعي الآمن، ولا يكف قادته عن المطالبة بإلغاء القانون الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة، بزعم أنه تشريع تمييزي يتحيز إلى جنس على حساب الآخر، فضلًا عن الكراهية التي تنضح بها حناجرهم ضد الناشطات النسويات، وتصل إلى اتهامهنّ بتبني الأيدولوجية النازية ووصفهنّ بالـ«Feminazis».
أما قوى اليمين المتطرف في إيطاليا فتعيش حالة استثنائية، فقد وصل إلى سدة الحكم العام الماضي حزب إخوة إيطاليا (Brothers of Italy) الذي يمثل امتدادًا للحركة الفاشية، وتترأس الحكومة الحالية زعيمة الحزب جورجيا ميلوني، وهي أول مرة يتولى اليمين المتشدد زمام الأمور في إيطاليا منذ الحرب العالمية الثانية.
يرفع حزب إخوة إيطاليا شعار «الله.. الوطن.. الأسرة»، وتمجد رئيسته الأمومة والدور الإنجابي للمرأة، وبالطبع تعارض الحق في الإجهاض الطوعي، وإذا تحدثت عن العنف الجنسي تتخذه ذريعةً لتأجيج كراهية المهاجرين واللاجئين، مدعيةً أن إشراع أبواب إيطاليا أمام الهجرة هو السبب في أزمة العنف الجنسي، كما لو كان العنف القائم على النوع وفد إلى إيطاليا مع المهاجرين، وهو الأمر المقطوع بعدم واقعيته، ويمكن النظر إلى بعض الشهادات التي نشرتها نساء إيطاليات عبر وسم #ذلك_الوقت_عندما (#quellavoltache)، الذي برز في العام 2017 امتدادًا للوسم الأشهر #أنا_أيضًا (#Metoo)، حيث تضمنت الشهادات سردًا لوقائع تحرش واعتداءات جنسية ارتكبها بحقهن سينمائيون إيطاليون، وشرطيون محليون، ورؤساء في العمل، ومعلمون بالمدارس.
لكن في حقيقة الأمر، لم يفضِ حتى الآن صعود اليمين المتطرف في كل هذه الدول، إلى قوانين تمييزية وتقييدية أو إجراءات تمس الحقوق التي اكتسبتها النساء بنضال طويل وعتيد، وليس هناك ما ينذر بانتكاسات على صعيد التشريعات في الأفق القريب، على عكس الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية التي تبدو الظروف فيها أكثر مواتاةً بالنسبة لهذا التيار.
فلنضبط أجساد النساء حتى «نجعل أمريكا عظيمة مجددًا»
اكتسبت أيديولوجيات اليمين المتشدد في الولايات المتحدة زخمًا مع تزايد شعبية الرئيس السابق دونالد ترامب بين أصحابها، وساهم ذلك في تمكين عدد من الشخصيات شديدة التطرف من الجلوس تحت قبة الكونغرس والمشاركة في صناعة وإقرار التشريعات، ومن أبرزهم مارجوري تايلور جرين، ولورين بويبرت، وديفيد كاوثورن الذي وجهت إليه عدد من النساء اتهاماتٍ بالتحرش الجنسي إبان حملته الانتخابية، لكنها لم تؤخذ بجدية من جانب الحزب الجمهوري وقاعدته الانتخابية.
بعد تولي ترامب رئاسة البلاد ألغيت العديد من الإجراءات التي سبق اتخاذها ضد التمييز على أساس النوع في العمل، والتحرش الجنسي في المدارس والجامعات وأماكن العمل، وعُلِقّت حزمة من السياسات المتعلقة بالحقوق الجنسية والإنجابية، وانفتحت الآفاق أمام الميسوجينية متجسدةً في تصريحات، وتهديدات، واعتداءات، ومشروعات قوانين.
ورغم فشل ترامب في العبور إلى فترة رئاسية ثانية، استطاع العديد من أرباب الأفكار اليمينية المتشددة التي تمددت تحت شعار «لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا»، الحفاظ على مقاعدهم داخل الكونغرس والمجالس التشريعية للولايات وسط دعم قوي بين قطاع لا يستهان به من المحافظين.
لقد انتصر مؤخرًا اليمين بقضه وقضيضه في واحدة من أهم معاركه ضد حقوق النساء الجنسية والإنجابية، وتمكّن من إلغاء قرار رو ضد ويد (Roe V. Wade) الذي أرسى دستورية الحق في الإجهاض قبل خمسين عامًا، لتتبعه قرارات حظر وتقييد الإجهاض على مستوى الولايات. وقد بلغ عدد الولايات التي حظرت الإجهاض بالفعل أو في طريقها إلى ذلك حتى بداية العام الجاري، أربعًا وعشرين ولاية من أصل خمسين، وهذا كله أراده وعمد إلى تحقيقه يمين الوسط وأقصى اليمين معًا، إلا أن الأخير لا يريد الاكتفاء بحظر الإجهاض لتقويض حرية النساء الجسدية ونشاطهن الجنسي والإنجابي، وإنما يسعى كذلك إلى إيجاد منفذٍ لمعاقبتهنّ، ولذلك يُلوّح المؤيدون لهذا الطرح بعقوبة «السجن» ضد المرأة التي تجهض حملها، وآخر ما دوت أصداؤه في هذا الاتجاه هو التصريح الذي أدلى به المدعي العام لولاية ألاباما لمنصة 1819 الإخبارية (المحلية)، الذي قال فيه «إنه حتى إذا كان حظر الإجهاض الذي تفرضه الولاية لا يسمح بالقبض على النساء اللاتي يقمن بإجرائه، فإن هذا لا يعني أنه من غير الممكن استخدام قوانين أخرى لوضعهنّ خلف القضبان.»
وفي هذا المناخ، لا غرو في أن يخرج أحد من أيدوا ترامب بشدة أثناء رئاسته للبلاد ليشبه النساء بالأبقار على الملأ، وهو الجمهوري جاك نيلسن المنتخب حديثًا لعضوية مجلس نواب ولاية آيداهو، الذي وقف أمام لجنة الزراعة بالمجلس يباهي بخبرته كمزارع في التعامل مع الأبقار، ويقول ضاحكًا إن ذلك يؤهله لإعطاء آراء قاطعة بشأن صحة النساء الإنجابية، «لقد قمت بحلب عدد قليل من الأبقار، وقضيت معظم وقتي أسير خلف صفوف من الأبقار، ومن ثم فإذا كنتم تريدون بعض الأفكار حول الأمور الإنجابية وصحة المرأة، فأنا لدي بعض الآراء الحاسمة.»
الهوس بأجساد النساء والرغبة العميقة في فرض الوصاية عليها، تبدّيا أيضًا بجلاء عندما صوتت الأغلبية بمجلس نواب ولاية ميزوري قبل أسابيع قليلة، لصالح قرار يلزم عضواته بارتداء السترات أو المعاطف داخل غرفته ليكون «مظهرهن لائقًا ومناسبًا» للمكان الذي يتواجدن فيه، بينما يغيب عن نصه أي إشارة للباس النواب الرجال.
لا تقتصر إشكالية القرار في الوصاية التي تمتطيه، وإنما تتمثل كذلك في ما ينطمر تحت كلماته من تشبعٍ بالقيم الذكورية التي تُقرِن ملائمة النساء للمواقع القيادية بمظهرهنّ على حساب أي شيء آخر.
يقف وراء القرار الذي يفرض على نائبات ميزوري تغطية الأكتاف والأذرع تحت يافطة «احترام المجلس»، النائبتان عن الحزب الجمهوري آن كيلي وبيرندا شيلدز، اللتان دخلتا إلى المجلس إبان فترة حكم ترامب، وكان لهما نشاط مكثف لحظر الإجهاض في الولاية، وهو ما صار نافذًا منذ منتصف العام الماضي.
تداعيات صعود اليمين المتطرف على الضفة الأخرى
لا يمكن بأي حال من الأحوال التشكيك في العلاقة المضطردة بين تزايد الالتفاف حول اليمين المتطرف، وتنامي السخط ضد المهاجرين، واستشراء الخطابات المعادية للإسلام والمسلمين في الشمال، إلا أن ذلك لا يقف حائلًا أمام قليل من التوافق بين هذا التيار والقوى المحافظة في الجنوب، خاصةً أن ثمة تشابه كبير بين الطرفين في طريقة توظيف الدين لخدمة مصالحهم السياسية واللعب على وتر الأخلاق لفرض أجندتهم الاجتماعية والثقافية، ويبرز هذا التوافق في المواقف المشتركة التي تتخذها حكومات هنا وهناك، إزاء قرارات وإعلانات واتفاقات إقليمية ودولية، ومنها على سبيل المثال وثيقة «إعلان إجماع جنيف بشأن تعزيز صحة المرأة وتقوية الأسرة» التي تقدمت بها الحكومة الأمريكية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل ثلاثة أعوام، احتجاجًا على مساعي هيئات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة من أجل تحسين قدرة النساء على الوصول إلى الإجهاض الطبي الآمن، وقد شدد الإعلان على أن الأسرة ستظل هي المكون الطبيعي والأساسي للمجتمعات. اللافت في الأمر هو أن الإعلان جاء برعاية مشتركة من الولايات المتحدة، وقتما كان حكمها بأيدي ترامب آسر قلوب اليمين المتطرف، ودول أخرى مثل مصر وإندونيسيا تتمتع فيها القوى المتشدقة بالقيم الدينية والأخلاقية بقوة مفرطة.
مثل هذه المواقف تكشف أو بالأحرى تؤكد أن من بين أهداف معدودة، يمكن أن تجمع على طاولة واحدة قوى متنافرة مثل اليمين المتطرف في الشمال والتيار الأصولي في الجنوب، يأتي في المقدمة دومًا «تقويض استقلالية النساء وضعضعة قدرتهن على التحكم في أجسادهن.»