حتى لا يكون الحياد في الإعلام ظهيرًا لثقافة التصالح مع العنف ضد النساء
في حلقته التي أذيعت بتاريخ الـ14 من يونيو الجاري، تناول برنامج «هي وبس» المذاع على قناة سي بي سي سفرة (CBC سفرة) الفضائية، قضيـة اعتداء الأخ على أخته بالضرب، ليس باعتبارها جريمةً أو انتهاكًا، وإنما بوصفها موضوعًا حياتيًا يقبل طرح وجهتي نظر إزاءه، إحداهما مؤيدة والأخرى معارضة. ورغم أن البرنامج يندرج تحت تصنيف البرامج النسائية، ويزعم القائمون عليه أنه ينحاز إلى المرأة ويلعب دور المنصة الداعمة لها ولحقوقها، فقد اختاروا أن تناقش الحلقة انتهاكًا صريحًا لأجساد النساء واعتداءً سافرًا على كرامتهن، من خلال مساحة يتناصفها أطراف تؤمن بأحقية الرجل في ارتكابه مع أطراف أخرى ترفض ذلك.
كما استخدم صنّاع الحلقة شارة لتعريف موضوع النقاش، مكتوب عليها «نقاش حول ضرب الأخ لأخته»، بما يشي بقدر من التطبيع مع الفعل، إذ يغيب تمامًا عن العنوان توصيفات مثل «اعتداء»، أو «انتهاك»، أو «إيذاء»، أو ما يقترب منها. أما شارات تعريف الضيوف الرجال فقد كُتِب عليها الاسم وعبارة «مؤيد لضرب الأخ لأخته»، إلا أن إدارة القناة والبرنامج أخفت هذه الجملة، عند إعادة بث الحلقة ونشـرها على الصفحات الإلكترونية للقناة، عقب انتقادات حادة وجهها العديد من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي إلى البرنامج والقناة، احتجاجًا على الطريقة التي أتبعها صنّاع البرنامج لعرض الموضوع، والتي أبرزت العنف الجسدي ضد النساء على أيدي الأخوة الذكور أمرًا عاديًا تتباين الآراء حوله، وليس كاعتداء مرفوض وجريمة تأخرت مصر في الاعتراف بها، على عكس العديد من دول العالم التي تنص قوانينها على عقوبات ضدها، في إطار تعريفها كجريمة «عنف منزلي».
المشكلة الأكبر هو أن هذه الحلقة خرجت إلى العلن ترتدي لباس «الحيـادية الإعلامية» التي تعتبر واحدة من المعايير الأساسية في صناعة الإعلام، ولا بد أن تتحقق بوجود عناصر مثل: عدم انحيـاز التغطية إلى رأي أو فكرة بعينها، والتوازن في عرض وجهات النظر المختلفة، وتجنب تفضيـل طرف ما على الآخر بأي وسيلة.
لكن في حقيقة الأمر، تطبيق الحيادية تطبيقًا حرفيًا يؤدي في كثير من الأوقات إلى إخفاق في تحقيق غاياتها الأساسية التي يأتي من بينها: إنصاف جميع الأطراف، وإعطاء الجمهور مساحة للتفكير والحكم من دون توجيه.
هذا ما يثبته الجانب الأكبر من التغطيات الإعلامية التي تحظى بها القضايا المرتبطة بحقوق النساء والأقليات الجنسية، إذ أن التغطية المنفتحة على وجهات النظر المختلفة، والتي تمكّن أصحابها من مساحات وقتية متماثلة بزعم تطبيق الحيادية، هي في واقع الأمر تساوي بين الفئات المُنتهَكة حقوقها من ناحية، وبين المنتهكين أنفسهم أو من يدعمون الانتهاك والتحريض ضد هذه الفئات من ناحية أخرى. وعند حدوث ذلك تتحوّل الحيـادية إلى أداة من أدوات ممارسة العنف البنيوي غير المباشر، لأن المناصفة بين مجموعات تكابد العنف بمختلف صوره من جهة والأطراف المُعنِّفة من جهة أخرى، هو اضطهاد مستتر خلف إدعاءات الالتزام بضوابط صناعة المادة الإعلامية.
الحيــادية.. كيف تصبح سلاحًا بأيدي المعتدين؟
نظريًا، تتحقق الحيادية في الإعلام عند عرض الرأي والرأي الآخر وإفساح المجال والوقت المتساويين لهما، حتى يقدم أصحابهما حججهم ويعبرون عن وجهات نظرهم، بينما يوجه مقدمات ومقدمو البرامج لأصحاب الرأيين، أسئلة تهدف إلى تعميق النقاش وتوسيع آفاقه.
لكن عمليًا هناك عوامل عديدة تجعل طرفًا يطغى على طرف أو أطراف أخرى، وبسببها تنقلب أسئلة الصحافيات والصحافيين من أسئلة نقدية إلى أسئلة تزيد حدة الاستقطاب. وهذا النسـق هو الشائع في نقاشات الإعلام المرئي (خاصة في مصر)، بشأن الانتهاكات التي تتعرض لها النساء سواء كانت اجتماعية أو قانونية، ومنها؛ تعدد الزوجات، والاغتصاب الزوجي، والطلاق الشفوي، وضرب الزوجات، والحق في الإجهاض المُقنن. إذ تسوّغ هذه النقاشات بشكل غير مباشر التمييز والعنف، وتزيد الطرف الأقوى، في ضوء الثقافة المجتمعية الذكورية، ثقةً وجرأةً، وتمنحه فرصة ممارسة الإيذاء النفسي بحق النساء، لا سيما الناجيات، على الملأ.
ترتكز هذه النقاشات على تمييز على أساس الجنس، لأنها تتناول حقوقًا انتزعها الذكور قهرًا من النسـاء وأبقوا عليها في حوزتهم بسبب الامتيازات الاجتماعية والقانونية غير المستحقة، الناتجة عن الإيمان الجمعي بتفوق جنس على الآخر. في مثل هذه الحوارات تصبح الحيادية وسيلة للتطبيع مع التمييز ضد النساء وتعميّق تقبله مجتمعيًا.
يقابل ذلك تأكيد وتشديد من صنّاع المحتوى الإعلامي على أن هذه اللقاءات والحوارات تتم وفق قواعد مهنية إلزامية، وتستند إلى مبادئ أساسية في إنتاج المحتوى الإعلامي، وهو ما يحيلنا إلى ما قاله الأكاديمي والفيلسوف السياسي جوزيف مازور، عن المتطلبات الأساسية للحيـاد في الإعلام، إذ أكد على أن التغطية الإعلامية يجب أن تخلو من العنصرية، والتمييز على أساس الجنس، والتحيز ضد مجموعات دينية أو قومية أو عرقية معينة.
أدركت شبكات ومنصات إعلامية هذه الإشكالية وبدأت في استحداث آليات لمعالجتها. وتأتي في مقدمة هذا الركب هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي – BBC)، التي شرعت في مراجعة تعريف «الحيـادية في الإعلام» والعناصر التي تحققه، خاصة في التغطيات الخاصة بقضايا العنف والتمييز القائمين على النوع الاجتماعي، أو الموجهين ضد الأقليات العرقية، والإثنية، والدينية، والطائفية، والجنسية.
الحيادية المُستحقَة ومحاولة الخروج من المأزق.. الـ BBC نموذجًا
في مقال نشرته مجلة «Prospect» البريطانية الشهرية، في سبتمبر من العام 2007، يشرح الصحافي التلفزيوني والرئيس السابق لـشبكة «إل دابليو تي – LWT» التلفزيونية الإنجليزية، الفرق بين الحيادية والتوازن، فيقول «يجب التمييز بينها (الحيادية) وبين التوازن (بمعنى تخصيص مساحة متساوية لوجهات النظر المتعارضة)، والموضوعية (عادةً ما يقصد بها الصحافيون محاولة استبعاد الحكم الشخصي)، فالحيادية ليست أكثر من محاولة النظر إلى مختلف الأفكار أو الآراء أو الاهتمامات أو الأفراد على حدة.»
تتجسد الترجمة العملية الأقرب لهذا التعريف في أحد المواد الواردة بكتيب المبادئ التوجيهية التحريرية لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، إذ لا تتبنى المفهوم التقليدي للحياد أو بالأحرى لا تختزله في الحياد الصارم (Strict Impartiality)، وإنما تقر تعريف الحيـاد المُستحَق أو المناسب (Due Impartiality)، الذي يربط بين الحيــاد وطبيعة المحتوى، ويصله بالإشارات التي قد تؤثر على توقعات المجتمع.
في ضوء ذلك، يوضح كتيب المبادئ التوجيهية التحريرية لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في بابه الرابع المختص بمسألة «الحيادية»، أن الحياد المُستحَق (Due Impartiality) لا يتطلب بالضرورة تغطية مجموعة وجهات النظر أو الآراء المتباينة بنسب متساوية سواء ضمن برنامج واحد (programme)، أو على صفحة إلكترونية (Webpage)، أو عبر أي عنصر منفرد، ويذكر الكتيب أن البديل هو السعي لتحقيق فكرة «الوزن المُستحق» أو «الوزن المناسب» (Due Weight)، مشيرًا إلى أن تحقيق الحياد لا يتطلب بالضرورة إعطاء الآراء التي تحظى بدعم أكبــر وقبول جمعي، المساحة ذاتها التي تُعطى لآراء الأقلية (أو الفئة التي لا تتمتع بحجم الدعم نفسه).
ولنقل مبدأ الحيادية المستحقة أو المناسبة إلى حيز التنفيذ، ينبغي على الوسائل الإعلامية عند تغطيتها لقضايا التمييز والعنف ضد النساء، أن تخصص مساحات محدودة للآراء المُبررة لوقوع العنف ضدهم التي غالبًا ما تعتمد في تبريرها على مزاعم الحفاظ على قيم ومبادئ الأسرة، أو حماية النظام والآداب العامة، أو الالتزام بتعاليم الدين، حيث يكون الهدف في هذه الحالة هو منح هذه الآراء مساحة، بحكم وجود قاعدة جماهيرية لا يمكن تجاهلها تدعمها، ولكن من دون الإخلال بحق الآراء المقابلة التي لا تتمتع بالقبول المجتمعي ذاته.
بصيغة أخرى، يجب على الإعلام أن يفسح مجالًا أوسع للطرف الذي لا تظفر وجهة نظره بالشعبية الأكبر، حتى يستطيع دعم وجهة نظره بالأسانيد الكافية، ويتمكن من تفنيد ما جاء على لسـان الطرف الأقوى الذي يتمتع بمؤازرة مجتمعية مُسبقة.
صحافة بديلة من أجل تغطية عادلة لقضايا النوع الاجتماعي
في ظل تزايد الاعتماد على الفضاء الإلكتروني كمصدر للمعلومات، باتت شعبية بعض المدارس الصحافية أو أنواعًا بعينها من الصحافة في تزايد مستمر، وأبرزها هي الأنواع التي تركز على قصص الفئات الأكثر تهميشًا وتعرضًا للاضطهاد، وتهدف إلى كشف مواطن التمييز، وشحذ الجهود على مختلف المستويات لزيادة الخطوات الدافعة باتجاه تحقيق المساواة، ومنها على سبيل المثال؛ الصحافة المناصرة (Advocacy Journalism)، وصحافة العدالة الاجتماعية (Social Justice Journalism).
صحافة العدالة الاجتماعية هي نوع من الصحافة يسعى إلى جعل العالم مكانًا أفضل، ولذلك تركز تغطيتها على القضايا الخاصة بهؤلاء الذين يواجهون درجات أعلى من العنف، مثل من يتعرضون إلى تمييز على أساس الهوية (النوع، العرق، الدين، الطائفة، التوجه الجنسي، التعبير الجندري)، فضلًا عن قضايا الهجرة، والعدالة الجنائية، والفقر، والخدمات الصحية.
وتستند صحافة العدالة الاجتماعية إلى ركيزتين أساسيتين هما؛ الحقائق وما لها من قوة في التأثير، والعاطفة في سرد القصص وما لها من قدرة على تعبئة تحرك جماعي لصالح القضية المشمولة بالتغطية.
أما الصحافة المناصرة فهي نوع من الصحافة ينطلق من زاوية محددة عند تغطية حدث أو قضية ما، ومع ذلك هي ليست شكلًا من أشكال الصحافة الترويجية أو الحزبية، بل تقوم على الحقائق مثل صحافة العدالة الاجتماعية، وأحد أهم مبادئها هو الامتناع عن تقديم أنصاف الحقائق والالتزام بعرض الحقائق كاملة من دون تزوير أو تلفيق، ولكن مع مراعاة ألا يعطي الصحافيات والصحافيون الطرف الذي يدعم وجهة النظر المعارضة للزاوية التي تتبناها التغطية، مساحة متساوية مع الأطراف التي تتسق وجهات نظرها مع هدف التغطية، والذي عادةً ما يكون إثبات ظلم واقع على مجموعة، أو فضح جريمة ومعتدٍ، أو كشف فساد، أو البرهنة على استغلال سلطة ونفوذ.
وحتى تكون الحيادية سبيلًا لتحقيق العدالة، بات عدد من المنصات الإعلامية يتبنى قواعد الصحافة المناصرة التي تطرح وجهات النظر المتعددة من دون عقد مناظرة بين طرفين تتفاوت مقبولية آرائهما مجتمعيًا، وإنما عبر استضافة طرف يتبنى في الغالب موقفًا لا يزال ذا مقبولية محدودة داخل المجتمع، مثل الدفاع عن حق النساء في الاستقلالية الجسدية الكاملة، وحينها يلتزم الصحافيات والصحافيون بتوفير مساحة كافية وآمنة لهذا الطرف حتى يعرض وجهة نظره بشكل وافٍ، ثم يطرحون أسئلة تحليلية ونقدية تعكس وجهة النظر المعارضة، وقد يستبدلون ذلك بتعليقات وأسئلة (مصوّرة أو مكتوبة) من أفراد يتبنون وجهة النظر المعارضة ليرد عليها الطرف المُستضَاف، وبذلك تصبح وجهتا النظر حاضرتين في النقاش.
تتطور الصحافة ومدارسها يومًا بعد الآخر، مثلما يتنامى الوعي بآليات وأدوات الوصول إلى العدالة بشكل مستمر، إلا أن كل ما يظهر من حين لآخر من أطروحات ومقترحات من أجل إنتاج صحافة منصفة تساهم في تحقيق العدالة، يظل جميعه جزءًا من إجابة طويلة ومتغيّرة، عن سؤال مُلح لا يتوقف عن مراودة أذهان من يدركون أهمية أن يكتسي الإعلام بكل صنوفه بالحساسية الجندرية:
كيف نتجنب أن تكون الحيادية الإعلامية ذراعًا مركزية في ترسيخ مقبولية التمييز والعنف على أساس النوع الاجتماعي؟