لأنها قضية نسويـة: كيف ردت نوال السعداوي على بيتي فريدان عندما أرادت منعها من الحديث عن فلسطين؟
عقدت الأمم المتحدة في صيف العام 1985، المؤتمر العالمي الثالث حول وضع المرأة، حيث احتضنت فعالياته العاصمة الكينية نيروبي، وذلك بعد خمس سنوات من انعقاد المؤتمر الثاني بالعاصمة الدنماركية كوبنهاجن، وكان الهدف من المؤتمر العالمي الثالث بشأن وضع المرأة، هو تقييم إنجازات عقد الأمم المتحدة للمرأة (1976-1985)، الذي أعلنته الجمعية العامة تنفيذًا لتوصية المؤتمر العالمي الأول للمرأة الذي أقيم في العام 1975، بالعاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي.
شاركت في هذا المؤتمر الطبيبة والمفكّرة النسوية نوال السعداوي، وألقت كلمة خلال إحدى جلساته، إلا أن شيئًا ما حدث قبل أن توّجه كلمتها إلى الحاضرات والحاضرين، وثقت تفاصيله بعد 21 عامًا في مقالة نشرتها عبر دورية «لون العنف – The Color Of Violence» التي تصدر عن منظمة «Incite!» النسوية الأمريكية.
الموقف الذي ترويه السعداوي في مقالتها، يجمع بينها وبين واحدة من أهم الناشطات والكاتبات النسويات عبر تاريخ الحركة النسوية الأمريكية، وهي بيتي فريدان مؤلفة كتاب «اللغز الأنثوي – The Feminine Mystique»، وتكشف السعداوي أن فريدان حاولت أن تمنعها من الحديث عن القضية الفلسطينية خلال المؤتمر، إذ قالت لها أثناء تقدمها تجاه المنصة لإلقاء كلمتها، “رجاءً لا تتحدثي عن فلسطين خلال كلمتك. هذا مؤتمر للمرأة وليس مؤتمرًا سياسيًا.”
لكن نوال السعداوي لم يكن باستطاعة أحد أن يمنعها من قول أو فعل ما تقتنع به، ولذلك تطرقت في كلمتها إلى فلسطيـن والاحتلال الإسرائيلي، وفي مقالتها المنشورة بدورية «لون العنف- The Color of Violence» تقول “لم أكترث لما قالته (بيتي فريدان)، لأنني أؤمن بأن قضايا المرأة لا يمكن معالجتها بمعزل عن السياسة.”
كتاب «اللغز الأنثوي – The Feminine Mystique» الذي ألفته بيتي فريدان، ونُشِر لأول مرة في فبراير من العام 1963، اعتبـره كثيرون وقتئذٍ أحد المراجع الأساسية لنضال الموجة النسوية الثانية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن بعد سنوات عديدة هناك كثير من النسويات ينظرن إليه بوصفه أحد المنتجات الأدبية التي دعمت ركائز النسوية البيضاء، لأنه عمم نمطًا واحدًا للمرأة على النساء وهو «المرأة البيضاء، المتعلمة، المنتمية للطبقة الوسطى».
في المقالة ذاتها، تستغرق السعداوي في توضيح وجهة نظرها قائلة “يرتبط تحرير المرأة في المنطقة العربية ارتباطًا وثيقًا بالأنظمة التي نعيش تحت وطأتها، والأنظمة التي تدعمها الولايات المتحدة في أغلب الأحوال، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني له تأثير مهم على الوضع السياسي”، ثم تتساءل مستنكرةً “كيف نتحدث عن تحرير المرأة الفلسطينية من دون الحديث عن حقها في أرض تعيش عليها؟ كيف نتحدث عن حقوق المرأة العربية في فلسطين وإسرائيل دون معارضة التمييز العنصري الذي يمارسه النظام الإسرائيلي ضدهن؟”
طالما عُرِفَت نوال السعداوي بتبنيها رؤية تقاطعية في تأسيس مواقفها وتحديد اتجاهاتها، فلم تختزل مصادر العنف ضد النساء في النوع فقط، بل رأت أن ثمة عوامل أخرى تعمّق تجربة المرأة مع العنف ومنها الطبقة، والعرق، والدين، والأنظمة السياسية والاقتصادية. واستنادًا لذلك، أيقنت أن القضية الفلسطينية قضية نسوية، لأن تجربة الفلسطينيات مع العنف والتمييز مركبة ومعقدة، نتيجة ما يواجهنه من قمع ممنهج على أيدي قوات الاحتلال، بالتوازي مع العنف الذي يقع عليهن بأيدي العائلات والمجتمع، مما يضيف جوانب أخرى إلى معاناتهن ويضخم مشقتهن، بل وفي كثير من الأحيـان يغلق في وجوههن كل سبل النجاة.
في هذه المقالة أيضًا، تؤكد السعداوي على إزدواجية المعايير لدى النسويات الليبراليات في الشمال العالمي (ومنهن بيتي فريدان)، موضحةً أنهن يمنحن أنفسهن امتيازات بيد، ويقيدن أصوات نسويات الجنوب بيد أخرى. وتُرجِع السعداوي ذلك إلى رغبة نسويات الشمال في منع نظيراتهن في الجنوب من التعاطي والتفاعل مع مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية من وجهة نظر نسوية، وتحجيم مقاومتهن لتتركز في الاحتجاج على الأبوية في مجتمعاتهن فحسـب.
تدلل السعداوي على ذلك بإشارتها إلى أن بيتي فريدان وغيرها من النسويات الغربيات المشاركات في المؤتمر، تعرّضن في كلماتهن إلى عدد من القضايا السياسية، وفي صدارتها «نظام الفصل العنصري» في جنوب أفريقيا، الذي صار نافذًا في العام 1948، ومن خلاله سيطرت الأقلية البيضاء المستوطنة على البلاد وهمّشت المواطنين الأصليين، وظل معمولًا به حتى العام 1994 حينما تم إلغاؤه تحت ضغوط داخلية وخارجية.
لم تقتصر قواعد «نظام الفصل العنصري» على التفرقة بين المواطنين حسب العرق، وتوزيع الحقوق بناءً على هذا الأساس، بل شملت القتل خارج إطار القانون، والاعتقال التعسفي، والتعذيب، وهذه الجرائم ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيات والفلسطينيين يوميًا، ولذلك تلاحقها تهمة تطبيق «نظام الفصل العنصري» مثلما كانت تفعل جنوب أفريقيا.
بشكل قاطع: “فلسطيــــن” قضية حقوقية نسويـة
من الصعب فصل النضال النسوي الفلسطيني عن النضال الوطني في سبيل التحرر من الاحتلال الإسرائيلي لترابطهما وتشابكهما المتين، فالنساء الفلسطينيات يواجهن قمع المجتمع الأبوي وقمع المحتل، وكلما طال أمد الصراع من أجل البقاء، زاد حصر النسـاء في دوري الإنجاب والتربية رسوخًا في الثقافة الشعبية.
فضلًا عن ذلك، لا يمكن تجاهل حرمان الفلسطينيات من حقهن في حرية التنقل نتيجة القيود التي يفرضها الاحتلال على حركة الفلسطينيين، لأن حركة النساء عادةً ما تقيّدها الأسر والعائلات، وبذلك تتعدد مصادر تكبيل تحركاتهن وتنقلاتهن.
تفيد مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان في فلسطين، بأن قوات الاحتلال اعتقلت أكثر من 13 ألف امرأة فلسطينية فيما بين العامين 1967 و2019، سواء في الشارع أو أثناء عبورهنّ الحواجز أو بعد اقتحام منازلهن ليلاً.
وتبين شهادات العديد من النساء اللاتي اعتقلتهن قوات الاحتلال في فترة ما خلال حياتهن، والموثقة إما إعلاميًا أو من خلال مؤسسات حقوقية، أنهن أكثر عرضة للعنف القائم على النوع الاجتماعي، خاصة العنف الجنسي، الذي يتعقبهن أيضًا في المنزل، والمدرسة، والجامعة، والشارع، والمواصلات.
لقد أسفر الاحتلال الإسرائيلي المديد عن بطء في عملية التشريع واتخاذ القرارات المتعلقة بالتوقيع والمصادقة على الصكوك الدولية، نتيجة غياب الاستقرار، وتجدد العنف بشكل مستمر، وتقييد حركة المواطنين الفلسطينيين، ناهيك عن الصراع الفلسطيني الداخلي، وقد أفضى ذلك إلى معاناة النساء من هشاشة الحماية القانونية بسبب تشريعات تمييزية، قلما يطرأ عليها تغيير أو تحديث.
جدير بالذكــر أن الإطار التشريعي الفلسطيني لا يخضع لنظام واحد، وإنما هناك نظم تشريعية مختلفة في كل من الضفة الغربية وغزة والقدس والمناطق الخاضعة للاحتلال، بعضها مستمد من النظم القانونية في مصر والأردن، من جراء توّلي الأولى إدارة غزة وقيام الثانية بإدارة الضفة الغربية لسنوات عديدة بعد حرب العام 1948.
إضافة إلى ما سبق، تتضرر النساء الفلسطينيات أكثر من نظرائهن الرجال من الفقر المتفشي في البلاد، نتيجة سياسات الاحتلال الرامية إلى إفقار فلسطين عبر إضعاف الاقتصاد الوطني وخفض فرص العمل في قطاعاته المحدودة، ووفقًا لمسح القوى العاملة الصادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، الخاص بالعام 2019، تبلغ نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة 18% فقط (17% في الضفة الغربية و 19% في قطاع غزة).
وتطول قائمة الحقائق التي تثبت وتؤكد أن القضية الفلسطينية قضية محورية بين قضايا النضال النسوي الذي مهما تعددت أهدافه وأدواته، تظل ركيزته الأساسية هي إفناء الأبوية بكل تجلياتها وإدراك الحرية غير المشروطة.