الفنانة الجزائرية كريمـــة نايـت تتحدث إلى «ولها وجوه أخرى» عن الغناء بوصفه وسيلة تضامن مع النساء
يخضع المجال الموسيقي في المنطقة العربية للهيمنة الذكورية كما هو حال أغلب المجالات، إذ يتركز الحضور النسائي في الغناء، بينما ينحسر في التأليف الموسيقي، والتلحين، وكتابة الكلمات، والعزف، فضلًا عن إحاطة المرأة المشتغلة بهذا المجال بتصوّرات نمطية، مما يجعل دخولها إليه تحديًا في حد ذاته، ونجاحها فيه تحديًا أكبر.
كريمة نايت من الفنانات العربيات اللاتي تعدى حضورهن الحدود المألوفة للنساء في عالم الفن، فإلى جانب احترافها للغناء والتمثيل والرقص، اقتحمت عددًا من الساحات التي يسيطر عليها الذكور كتأليف الأغاني والتلحين.
كريمة نايت فنانة جزائرية، درست الرقص الكلاسيكي في الجزائر، ثم انتقلت إلى مصر في نهاية التسعينيات، لتنضم إلى أول فرقة للرقص المسرحي الحديث في مصر والشرق الأوسط، وهي الفرقة التي أسسها المخرج وليد عوني بدار الأوبرا المصرية، ثم تعاونت كمغنية مع فرقة «شرقيات» التي أسسها الموسيقار المصري العالمي فتحي سلامة. كما شاركت في عدد من التجارب المسرحية والسينمائية، وحصلت على جائزة أحسن ممثلة بمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في العام 2004.
انتقلت كريمة إلى أوروبا في العام 2007، وهناك سجلت أول ألبوماتها «ماذا بعد؟» الذي صدر في العام 2012، وكانت جميع أغنياته من كتابتها، وبعد سبع سنوات أصدرت ألبومها الثاني بعنوان «وحداني» الذي كتبت كلمات معظم أغانيه.
أجرت «ولها وجوه أخرى» حوارًا مع الفنانة كريمة نايت، للحديث عن الطابع النسوي الذي تتسم به كثير من أغانيها، وعن تأثير المجتمع وظروف صناعة الموسيقى على خطواتها.
«نورا» أغنية تضامن مع النساء اللاتي يقاومن السلطوية الدينية والذكورية
المرأة الجزائرية قاومت الإسلاميين أكثر من الرجال خلال العشرية السوداء
أمي تعرضت للاعتقال أثناء الاستعمار وترك ذلك بصمته على هويتي الفنية
النظرة السلبية للمرأة المغنية والراقصة في الجزائر آخذة في التراجع
كيف أثرت نشأتك وسط أسرة ثورية ناضلت ضد الاستعمار الفرنسي على هويتك الفنية؟
كان لها تأثير كبير جدًا، وألبوم «وحداني» هو إهداء إلى والدي الذي علمني كيف أحب وطني الجزائر بحرية. لقد استشهد جدي وعمي وابنه خلال مقاومتهم للاستعمار، واعتُقِلَت أمي وهي في الـ16 من عمرها، وأنا شببت في خضم الإرهاب عندما كان الدم والتطرف يملئان شوارع الجزائر. (تُعرَف هذه الفترة في الجزائر باسم العشرية السوداء، وهي صراع مسلح نشأ بين النظام الجزائري ممثلًا في الجيش من ناحية وجماعات إسلامية مسلحة من ناحية أخرى، وقد استمر القتال الذي أسقط عشرات الآلاف لعشر سنوات فيما بين العامين 1992 و2002)
كل هذه الأحداث مطبوعة في ذاكرتي، ولها نصيب من تدويناتي في كراستي الخاصة. كما ساهم سفري إلى عدة بلدان عربية على رأسها مصر، في تكوين مخزون كبير تجسّد في الأغاني التي كتبتها، مثل أغنية «نضال» التي استوحيت كلماتها من غزو العراق، وأغنية «هراجة» التي تعرضت فيها إلى هجرة الشباب العربي عبر البحار أو ما يسمّى بالهجرة غير الشرعية، بالإضافة إلى أغنية «داري» التي كتبتها عن فلسطين.
تنتمي كريمة نايت إلى مجتمع القبائل الكبرى في الجزائر، وفي المجتمعات القبائلية تعاني النساء بسبب التقاليد والأعراف التي تبرر انتهاك حقوقهن وتسوّغ العنف ضدهن على أيدي الذكور.
أنتِ ابنة لمجاهدين من القبائل الكبرى في الجزائر، هل كان من الصعب عليك إقناعهم بدراسة الرقص والغناء؟
رغم أنها عائلة تنتمي إلى قبيلة، فقد كانت منفتحة وتعشق الفن، إذ كان الاستماع إلى أغاني أم كلثوم وإديث بياف مألوفًا في منزلنا، ومشاهدة الأفلام المصرية الموسيقية البديعة أمرًا اعتياديًا، وكان شرط العائلة الوحيد هو استكمال دراستي الأساسية وبالفعل حصلت على شهادة في الهندسة. لكن هذه الفرصة لم تكن متاحة للفتيات اللاتي يعشن في القرى النائية، حيث كانت النظرة السلبية للمرأة المغنية أو الراقصة شائعة بين العائلات، وهذا نتيجة طبيعية لسنوات التطرف الديني التي عاشتها الجزائر، مما أدى إلى رفع قطاعات واسعة من الشعب إلى شعار الحلال والحرام، إلا أن هذه النظرة تتغير مؤخرًا بشكل لافت، وصار هناك تشجيع من العائلات لأبنائهم على دراسة الفن والاشتغال به.
يضم ألبوم «وحداني» أحدث ألبومات كريمة نايت، تسع أغنيات منها أغنية «نورا» التي تقول في مطلعها: حكولي عليك أنتِ يا بنية .. شابة رزينة صغيرة رزينة وقوية.. ستاشر سنة نورا هي انتيا الدنيا باهية وفي قلبك مبلية ..على من نلوم هداك اليوم دخلوا بهادي الوحشية.. فاتت الحدود قالوا حطوا عليها بالموت ولت مرمية .. وهادي منا منا ليك برية … وتحت التراب نورا ماكي منسية
«نورا» أغنية تناقش بجرأة معاناة المرأة العربية لا سيما الجزائرية.. هل شهدتِ بنفسك على القصة المروية فيها؟
«نورا» هي أغنية تضامن مع كل النساء العربيات اللائي يقاومن السلطوية الدينية والذكورية، وقد استلهمت قصتها من أحداث العشرية السوداء في الجزائر خلال التسعينيات، وهي عن فتاة رفضت أن ترتدي الحجاب الذي كانت تفرضه قسرًا الجماعات الإسلامية المتشددة، فتعرضت للاغتصاب والذبح مثل آلاف الفتيات التي وقفن ببسالة في وجه التطرف آنذاك، وأتذكر حتى الآن المظاهرة التى خرجت للتضامن مع أسرة الفتاة، وقد تحدثت مع الموسيقار فتحي سلامة عن هذه الواقعة، وقررنا تحويلها إلى أغنية لنقول: كلنا نورا.
أغنية Tu Goul Pas تتسم أيضًا بطابع نسوي.. حدثينا عنها؟
هذه الأغنية تتعرض لمعاناة كثير من الفتيات العربيات اللاتي يعشن في العالم الغربي مع أسرهن، وقد قصدت أن تكون في قالب كوميدي، أحكي من خلاله عن صراع فتاة عربية مع أسرتها التي تعاني من الإزدواجية مثل كثير من الأسر العربية المهاجرة، فالأب يسافر بعائلته إلى بلد تختلف فيه القيم وطبائع الحياة، وتأثرًا بالمناخ المنفتح في هذا المجتمع، تتنامى لدى الابنة الطموحات والرغبة في الاستقلال عن أسرتها، إلا أنها تجد الأب رافضًا لهذا التحرر ويريد تزويجها، والأم تحذرها من كلام الجيران كما لو كانوا ما زالوا في بلدهم، بينما هم يعيشون في باريس.
تعكس أغانيك اهتمامًا عميقًا بقضايا النساء.. فكيف ترين وضع المرأة الجزائرية في الوقت الحالي؟
الجزائر جزء من العالم العربي الذي تأثر بصعود موجة التشدد الإسلامي في نهاية السبعينيات، ورغم التأثير السلبي وما شهدته الجزائر من إرهاب أسود، فإن المرأة الجزائرية كانت وما زالت ترفض وتمانع بقوة تنحيتها عن المشهد، وتصدّت للجماعات الإسلامية المتشددة أكثر من الرجال، وفرضت توغلها في مختلف ميادين الحياة. ولكن تظل مشاكل النساء الجزائريات هي نفسها التي تعاني منها بقية النساء العربيات، وفي مقدمتها العنف الأسري الذي ترتفع معدلاته، والتحرش الجنسي رغم وجود تشريع يجرّمه، فضلًا عن استمرار تزويج القاصرات في بعض المناطق، وقد كتبت أغنية بعنوان «بنتي» لتعبر عن أزمة حقوق الفتيات والنساء المهدرة في المنطقة العربية.
أجريت تعديلات على قانون العقوبات الجزائري في العام 2015، لتشديد العقوبة ضد مرتكبي جريمة التحرش الجنسي، وباتت تنص مادته رقم (341 مكرر) على «يعد مرتكبًا لجريمة التحرش الجنسي ويعاقب بالحبس من شهرين إلى خمس سنوات وبغرامة 50.000 دينار جزائري (يعادل 390 دولارًا) إلى 100.000 دينار جزائري (يعادل 780 دولارًا)، كل شخص يستغل سلطة وظيفته أو مهنته عن طريق إصدار أوامر للغير أو بالتهديد أو الإكراه أو بممارسة ضغوط عليه قصد إجباره على الاستجابة لرغباته الجنسية»، إلا أن التعديلات لم توّسع الاعتراف القانوني بجريمة التحرش الجنسي ليشمل الجرائم الواقعة خارج الإطار الوظيفي والمهني.
«وحداني» ألبوم طال انتظاره.. حدثينا عن كواليس الإعداد له قبل أن يخرج إلى النور في العام 2019؟
ألبوم «وحداني» هو مشروع عمره 15 سنة، بدأ بعد انضمامي إلى فرقة «شرقيات» في العام 2004، التي أسسها ويقودها الموسيقار المصري فتحي سلامة، وقد لمست أنا وهو وقتها تفاعلًا جماهيريًا ملحوظًا مع الأغاني التي تمزج بين اللهجة الجزائرية وموسيقاه، فولدت فكرة تقديمنا لمشروع مشترك من إنتاجه وتلحينه وتوزيعه، وبدأ المشوار بالفعل في العام 2007 إلا أنه تعثر طويلًا لأسباب إنتاجية، ولكنني سعيدة بصدور الألبوم رغم كل هذا التأخير.
على ذكر المشكلات الإنتاجية، هل تظنين أن المنتجين يتخوّفون من طبيعة الموضوعات التي تطرحينها في أغانيك، خاصة أن النجاح عادةً ما يكون من نصيب الأغاني الرومانسية؟
لست أول أو آخر فنانة تتناول القضايا الاجتماعية أو السياسية في أغانيها، ولا أرى في ذلك عيبًا طالما لا أقدمها بشكل خطابي، وأعتقد أن الفنان يجب أن يكون صاحب رأي وموقف. أعلم أن الناس تميل إلى الاستماع للأغاني الرومانسية، ولكن لا أستطيع كتابة هذا النوع حاليًا. أنا أكتب ما أشعر به وأعبر عنه في أغنياتي.
كانت كريمة نايت واحدة من أبطال الفيلم المصري المستقل «إيثاكي» للمخرج إبراهيم البطوط، الذي صدر في العام 2005، وتدور أحداثه حول مخرج مصري يعود إلى وطنه بعد سنوات من الاغتراب عنه وقد عقد العزم على تصوير أول فيلم روائي طويل له، ليبدأ التفاعل بينه وبين عدد من أصدقائه، وتتكشف المصاعب والصراعات التي مر بها كل منهم، وكيف يحاولون ترميم أحلامهم والتعايش مع الواقع بسلام.
شاركتِ في عدد من الأفلام المصرية والجزائرية .. لماذا ابتعدت مؤخرًا عن السينما؟
لم أبتعد ومتحمسة للتمثيل، وبعد انتقالي إلى باريس درسته أكاديميًا، وأنا سعيدة بتجربتي مع المخرج المصري الموهوب إبراهيم البطوط في فيلم «إيثاكي»، وأتمنى تكرار التجربة. أما حضوري في السينما مؤخرًا فقد صار عبر الغناء، إذ قدمت أغنية «بنتي» لفيلم «وجدة» السعودي الذي أخرجته هيفاء المنصور.
تحكي أغنية «بنتي» قصة أم تبكي فراق ابنتها التي هربت من المنزل بسبب العنف الأسري الناجم عن التقاليد الذكورية، وتقول كلماتها: بنتي اتوحشتك.. هذاك نهار صار يا ريته ما صار.. ريحتك علي حيوط الدار.. تجري في دمي لي ولا نار.. دمعتي تدعي يحميك الخالق الجبار.. رمشة عيوني نلقاك في حضني قبل ما تزوريني في قبري
ما الذي تطمحين إليه في مسيرتك الموسيقية؟
أشعر حتى الآن بأنني لم أحقق الانتشار الذي كنت أتمناه في العالم العربي، ولا أقصد الشهرة والنجومية، ولكنني أشعر بالحزن عندما أحظى بحفاوة استقبال في دول مثل السويد، والنرويج، وأيسلندا، بينما لا أجد ذلك في العالم العربي. أي فنان مهما كانت شهرته في الخارج يحب أن يجد ذلك في وطنه.
أعلم أن لي جمهور في العالم العربي، أجده في حفلات دار الأوبرا في مصر وغيرها، ولكن ما زال هناك عائق بيني وبينهم وهو قيود الصناعة الحالية والإنتاج الذي لا يفسح المجال أمام الفنانين المختلفين عن التيار السائد. يجب أن يدرك المنتجون أن السوق تغير والعالم أصبح بلا حدود بفضل الإنترنت، فلماذا يصّرون على الاقتصار على طيف واحد من الغناء؟