«خيانة عهد» وترسيخ المتخيل الجماعي: إذا أصبحن مُحرِكات لا مُحرَكات.. سيغرق العالم في بحر الغواية والمكر
كتبت: شهد مصطفى
بعد غيابها عن موسم الدراما الرمضانية الماضي، وتغييب مسلسلها «لدينا أقوال أخرى» عن القنوات المصرية خلال موسم العام 2018، وعرضه على قناة سعودية فقط، تعود الممثلة يسرا للمشاركة في الموسم الحالي بمسلسل «خيانة عهد» للمخرج سامح عبد العزيز.
حضور يسرا بين الممثلات والممثلين الذين ينافسون بأعمالهم في مواسم الدراما الرمضانية، أشبه بطقس اعتاد عليه الجمهور المصري والعربي منذ تسعينيات القرن الماضي، ومن الأمور اللافتة أن هذه الممثلة التي يقترب عدد أعمالها السينمائية والتلفزيونية من 150 عملًا، لا تسجل مشاركة شرفية في الدراما الرمضانية رغم مرور كل هذه السنوات وصعود أجيال جديدة، بل تظل أعمالها في قلب المنافسة وتلقى إقبالًا ملحوظًا من المشاهدات والمشاهدين.
يرتكز مسلسل «خيانة عهد» على حبكة «الانتقام بين الأقارب – Vengeance Taken for Kin Upon Kin»، وهي واحدة من الحبكات الدرامية الـ36 التي وضعها الكاتب والباحث الفرنسي جورج بولتي، إذ تدور أحداث المسلسل حول عهد التي تجسد شخصيتها يسرا، وهي سيدة أعمال ناجحة تمتلك مصنعًا للملابس، وأم تتولى مسؤولية ابنها منفردةً بعد مقتل زوجها، وهي أيضًا المرأة القوية بين أفراد عائلتها، التي تمثل مصدر الدعم المادي والمعنوي لهم كبارًا وصغارًا، ولكن مع تصاعد الأحداث تتكشف خيوط مؤامرة تحاك ضدها بأيدي أخوتها أنفسهم.
الصراعات المتشابكة داخل عائلة كبيرة هي ثيمة عامة تفضلها يسرا في أعمالها التلفزيونية التي يميل ميزان القوى في صناعتها لصالحها، وقد ظهرت هذه الثيمة في عدد لافت من مسلسلاتها ومنها على سبيل المثال؛ «الحساب يجمع» الذي عُرِض خلال الموسم الرمضاني للعام 2017 و«شربات لوز» الذي شاركت به في الموسم الرمضاني للعام 2012، و«لقاء على الهوا» الذي عرض خلال شهر رمضان في العام 2004، وقبل ذلك مسلسل «أين قلبي» الذي عرض خلال شهر رمضان في العام 2002. وتتلاقى هذه الثيمة مع تلك التي يحبذ المخرج سامح عبد العزيز أن تتشكل أعماله في إطارها، حيث تتزاحم شخصيات مليئة بالتناقضات تحرّكها رغبات وشهوات، ينجو بعضها ويسقط البعض الآخر، ويظهر ذلك في مسلسل «رمضان كريم» الذي عرض في الموسم الرمضاني للعام 2017، ومسلسل «بين السرايات» الذي عُرِض خلال شهر رمضان في العام 2015، بالإضافة إلى عدد من أفلامه السينمائية.
يحدث التمازج بين الثيمتين في مسلسل «خيانة عهد»، إذ تظهر العائلة بصراعاتها كما لو كانت عالمًا متكاملًا مظلته هي الخيانة، والانتقام هو هدف السواد الأعظم من الموجودين داخله، وتتعدد وجوه الموجودين في هذا العالم، وتنجلي تناقضاتهم كلما تصاعدت الأحداث وتشابكت الخيوط الدرامية.
الحضور النسائي: هيمنة أمام الكاميرا وانحسار خلفها
تدخل يسرا إلى هذا الموسم بمسلسل ذي حضور نسائي قوي على الشاشة، إذ تشاركها بطولته حلا شيحة التي تجسد شخصية فرح أختها غير الشقيقة، وعبير صبري التي تجسد شخصية نادية زوجة الأخ غير الشقيق، وجومانا مراد التي تؤدي دور شيرين التي تخادع ابنها وتوهمه بالحب لتورطه في إدمان المخدرات، وسلوى عثمان التي تجسد شخصية آمال الصديقة المقربة لها، كما تؤدي هنادي مهنا دور سارة ابنة الأخ غير الشقيق.
في المقابل، تنكمش مشاركة النساء في صناعة هذا العمل خلف الكاميرا، ويغبن تمامًا عن الأدوار الرئيسة، فالإخراج – كما أشرنا- لسامح عبد العزيز، والكتابة للمؤلف أحمد عادل، والسيناريو والحوار لأمين جمال ووليد أبو المجد ومحمد أبو السعد، والإنتاج لجمال العدل (العدل جروب)، وإدارة التصوير ليوسف بارود.
يقتصر حضور النساء خلف الكاميرا في أدوار المساعدين والمواقع المعروفة مسبقًا بزيادة نسبة النساء العاملات بها، إذ تشارك سالي الشامي ورحاب عبد الغني وياسمين كامل كمهندسات ديكور مساعدات، وتشارك إسراء الشرقاوي كـPost Producer ، وشيرويت عز العرب وجوزفين سمير ونهاد سامي كمونتيرات مساعدات، بينما تنفذ رشا نبيل سكريبت الإكسسوار، وندا منير سكريبت الحركة، ويحضر اسم الستايليست مي جلال.
النساء يحركن الأحداث بكل ما يوصمن به
في «خيانة عهد»، الشخصيات النسائية هي الفاعلة في تحريك الأحداث وتحديد المسارات، ولكن مهما زادت الضغوط عليها وانجلت طبائعها الخفية، تظل في الحيز الذي خلقه المتخيل الذكوري للنساء، حيث يلتصق بهن الوصم الأبدي بالغواية، والكيد، والطمع، وإثارة الشر في النفوس؛ فالشخصيات النسائية في هذا المسلسل عدا استثناءات معدودة، تدبر المكائد وتخطط للانتقام من بعضها البعض من ناحية، ومن الرجال من ناحية أخرى عن طريق الدفع بنساء أخريات لإغوائهم في مقابل مال يحتجنه أو يسعين وراءه. وكل شخصية من هؤلاء تترك وراءها ضحايا، معظمهم من الذكور.
في هذا العالم، تضع والدة عهد بقسوتها البذرة الأولى للانتقام بين الأخوة، وتنمو هذه البذرة داخل فرح، تؤدي دورها حلا شيحة، التي تتشبع بالشر والحقد وتتملكها رغبة جامحة في الانتقام من عهد، بسبب ماضٍ برزت بعض زواياه بشكل مبتور، وبدت فيه علاقتها وأخيها مروان بعهد شبه منقطعة، بسبب إزدراء أمها لهما ورفضها أن يكون لهما وجود في حياتها. هذا الماضي تلخصه فرح في كلمات كالذل والحرمان، وهو ما تتكئ عليه كمبرر لأفعالها الانتقامية، وعلى الرغم من أن فرح ومروان يريدان الانتقام من عهد للسبب نفسه، فإنه أقرب إلى أن يكون تابعًا لها، وفي أوقات كثيرة يقتصر دوره على تنفيذ ما تقرره وتخطط له.
وفي سبيل الانتقام من عهد، تستغل فرح امرأة أخرى تدعى شيرين لتحقق لها مآربها، تعمل مصممة للأزياء، وتعيش في عزلة اختيارية، تدمن الكوكايين للهروب من مكدرات الحياة، إذ يتبين أنها قد عاشت أيامًا عصيبة مع أسرتها التي تعيش في ظروف فقر مدقع، فانفصلت عنهم لتتخلص من ضغوط يبدو أنها لا تقتصر على الفقر وإن لم يكن المسلسل قد أفاض في التعريف بها إلا أنها قابلة للتوّقع. وفي إطار مساومة تقليدية، تقبل أسرة شيرين وفي صدارتها الأب والأخ بأن تعيش حياة لا تتسق وقيمهما الأبوية، طالما أنها تعطيهم مالًا في مقابل ذلك التغاضي، وما دام أمرها غير معروف للمحيطين بهم.
لكن عندما يتم تسريب مقطع مصوّر لها عبر موقع فيسبوك، تظهر خلاله في حالة عدم اتزان وهي تحاول إغواء هشام ابن عهد وفي يدها كيس كوكايين، تتبدى إزدواجية ذكور العائلة، إذ يذهب إليها شقيقها ليخبرها بأن أسرتها قد قررت أن تنقطع علاقتهم بها نهائيًا، وأن والدها لا يريدها حتى أن تحضر إلى جنازته عندما يموت.
هذا الوضع تبدو فرح على علم جيد به، وقد قررت استغلاله لتجعل شيرين أحد أدواتها، في سبيل تنفيذ خطتها للانتقام من عهد، حيث تتفق معها أن تدخل إلى حياة هشام، يؤدي دوره خالد أنور، لتلعب دور الغاوية وتوقع به، ثم تقوده إلى إدمان المخدرات، وكل ذلك في مقابل دفعات متواصلة من الأموال.
تتضافر العناصر الدرامية لتجعل الشاب الصغير في عيون المشاهدين ضحية امرأتين، الأولى خالته فرح التي زجت بامرأة «غاوية» في طريقه، ودست له المخدر في المحاليل، ثم قتلته بعد ذلك، والثانية هي شيرين التي تلاعبت بشاب في مقتبل العمر، لتستدرجه إلى تعاطي المخدرات ثم اشتركت في قتله. وبالإضافة إليهما، تظهر في خلفية الأزمة امرأة ثالثة تتحمل جزءًا منها، وهي أمه التي حمل حديثه عنها مع الطبيب الذي يشرف على علاجه من الإدمان، خطابًا يضع على عاتقها مسؤولية سقوطه في هوة الإدمان، إذ وصفها بالتشدد في التعامل معه، وعدم الثقة فيه على عكس والده الذي كان يشجعه ويتعامل معه بحكمة أكبر.
علاقة أخرى أكثر اضطرابًا بين أم وابنها، هما نادية زوجة مروان الأخ غير الشقيق لعهد، تؤدي دورها عبير صبري، وعلي الذي يؤدي دوره تيام مصطفى قمر، حيث يعاني الأخير من الإهمال الأسري، وينعكس ذلك في شعوره بالهزيمة الشخصية وفقدان الثقة بالنفس، وهو ما يحاول أن يعوّضه بالوسيلة التي يعتقد أنها مصدر التفوّق وهي القضيب، استنادًا إلى التصوّر الذكوري الذي يجعل القضيب مصدر الاعتزاز النرجسي لأي رجل، وبه يستطيع أن يجذب إليه النساء ويخضعهن.
انطلاقًا من هذه القناعة، يتبادل علي الحديث مع فتيات لا يعرفهن عبر الإنترنت، ويرسل لهن صورًا لقضيبه، إلا أنه سرعان ما يقع فريسة للابتزاز الإلكتروني، فيلجأ إلى عمته عهد حتى تخرجه من هذا المأزق باعتبارها مصدر الدعم الوحيد في العائلة، إلا أن هذه القناعة الذكورية لا يزعزعها شيء، إذ يحاول علي مرة أخرى استعادة الثقة المفقودة بالقوة المتخيلة للقضيب، ولكن هذه المرة عن طريق الزواج عرفيًا بصديقة شقيقته، ومثلما تم توظيف العناصر المختلفة ليظهر هشام في صورة ضحية المكايدة والغواية النسائية، يصبح علي أيضًا ضحية فتاة «منحلة».
المحاباة للنمط التقليدي للأم
بنيت شخصية نادية، والدة علي وسارة، على نحو يناقض الصورة النمطية للأم التي تتمثل بشكل كبير وليس كاملًا في شخصية عهد، ومع ترابط الأحداث أكثر فأكثر وتتابعها، تنعقد موازنة مستترة بين الشخصيتين من خلال المظهر وردود الأفعال إزاء المواقف التي يتعرض لها الأبناء، وترجح الموازنة صورة الأم عهد التي توجه اهتمامها الأكبر إلى ابنها، وتظل مصدر الحنان والعطاء غير المشروطين، ويتمثل فيها الالتزام بالواجبات «الفطرية» كما هي مترسخة في الذهنية الذكورية. ويتأكد هذا الترجيح مع تفضيل ابني نادية التواجد إلى جوار عهد التي تجيد التعامل معهما على عكسها، ويصبح هذا الترجيح لازمًا مع حصر نادية في قالب الشخصية الأنانية والطمّاعة والمُكايدة، التي تخون زوجها مع شريكه في العمل من دون إفساح مجال لإبراز الدوافع النفسية التي تقف وراء قيامها بذلك، فضلًا عن اتباعها النهج الذي تسير عليه فرح، إذ يتبين أنها قد استأجرت امرأة لإغواء زوجها والإيقاع به، وذلك في خطة وضعتها لتستحوذ على أمواله.
الأمومة وإشكاليتها تبرز أيضًا مع شخصية فرح التي تظهر رغبتها في الانتقام من عهد عن طريق ابنها هشام، غير منعزلة عن عدم قدرتها على الإنجاب بسبب عملية إجهاض أدت إلى استئصال الرحم، فضلًا عن استغلال درامي «منحاز للرجل» لحالة الاكتئاب التي تمر بها النساء بعد الإجهاض لخلق خيط يجعل عزت الزوج المحب، يؤدي دوره مصطفى درويش، ضحية أخرى من ضحايا فرح، فهو الذي يتمسك بها رغم ضياع حلم الأبوة، ويتجاوز عن إهاناتها وإهمالها له، ويتحمل غضبها الفج حتى ينوء كاهله بكل هذه القسوة، فتتحول معاناته تلك إلى جواز عبور إلى امرأة أخرى أكثر خضوعًا، وهو الحلم الذي سعت أمه إلى تحقيقه ودفعت باتجاه تحويله إلى أمر واقع بمكر رسخت الدراما المصرية طويلًا لكونه خصلة أصيلة في الحموات.
هذا ما رأيناه بعد أسبوعين من عرض مسلسل «خيانة عهد»، ونعلم أن ثمة خيوط أخرى ستتعقد وجوانب أخرى للشخصيات وتحديدًا عهد ستظهر، نظرًا لتصاعد الأحداث المستمر والسريع. ولكن ما توصلنا إليه هو أنه رغم احتضان العمل لشخصيات نسائية فاعلة ومُحرّكة للأحداث، فإن هذه الحركة ما انفكت مدفوعة بكل التصوّرات النمطية عنهن وعلى رأسها «كيدهن العظيم».