استعادة الماضي إذكاء للوعي: مشاهد فارقة في معركة الرائدات لكسر القيود الذكورية على «مظهر» النساء المصريات
يعتبر شهر مارس واحدًا من أكثر الشهور التي سجّلت أحداثًا مهمة في تاريخ النساء المصريات عمومًا وفي مسيرة الحِراك النسوي خصوصًا، ولعل أبرزها هو خروج النساء في مظاهرات ثورة العام 1919 التي اندلعت شرارتها الأولى في التاسع من مارس، وكانت المشاركة الأولى لهن في الـ16 من الشهر، وهو اليوم الذي أضحى ذكرى خالدة تحتفل بها مصر رسميًا باعتبارها يومًا وطنيًا للنساء، كما شهد شهر مارس تأسيس الاتحاد النسائي المصري الذي ترأسته الرائدة النسوية هدى شعراوي، وذلك بعد اجتماع عقدته مع مجموعة من النساء في منزلها مساء الـ16 من مارس في العام 1923، ليصبح أول جمعية نسائية لا يقتصر نشاطها على تقديم الخدمات الإنسانية للنساء، وإنما يتوجه بالمطالب النسوية إلى الحكومة ويشتبك مع السياسيين من أجل حقوقهن، فضلًا عن تنظيمه لمؤتمرات نسوية وطنية وإقليمية ومشاركته في مؤتمرات دولية.
كما حفظت ذاكرة التاريخ قيام تسع سيدات في مقدمتهن الناشطة النسوية والصحافية درية شفيق بالإضراب عن الطعام في مارس من العام 1954، احتجاجًا على استبعاد النساء المصريات من اللجنة الموكل إليها مهمة إعداد أول دستور مصري بعد ثورة\حركة يوليو في العام 1952، حيث اعتصمن داخل نقابة الصحافيين للضغط على السلطات من أجل الاعتراف دستوريًا بحقوق النساء السياسية.
بعد ذلك، عاد مارس في العام 1956 ومعه القانون رقم 73 لسنة 1956، الخاص بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية، الذي نص لأول مرة على حق النساء في الترشح والانتخاب، وبموجب هذا القانون صارت مصر أول دولة بين الدول العربية، تدخل نساؤها إلى المجلس التشريعي في العام 1957.
تستدعي هذه المشاهد مزيدًا من القصائص التي وقعت في شهور أخرى غير شهر مارس وفي سنوات متفرقة، ومع كل قصيصة من تلك التي يزخر بها نضال المصريات من أجل مزاحمة الرجال في المجال العام الذي تعمدوا تنحيتهن عنه، تنبثق كثير من المشاهد التي تؤرخ لحربهن الحامية في سبيل التحرر.
في السطور التالية نستعيد مجموعة من المشاهد التي توّثق معركة النساء المصريات، في سبيل كسر القيود التي فرضها الرجال على مظهرهن الخارجي، بهدف إحاطتهن بأسوار شاهقة تحول دون تحررهن، بما يحمي ذكوريتهم من أي تهديد.
الحداثة الذكورية ودعوات «السفور»
زادت دعوات الكتاب والصحافيين الرجال في مصر إلى خلع البرقع أو النقاب، خلال العقدين الأول والثاني في القرن العشرين، ثم امتدت دعواتهم إلى نزع الحجاب كاملًا، فيما عُرِف وقتها باسم الدعوة إلى السفور، وقد انبرى هؤلاء للكتابة عن حق من حقوق النساء انطلاقًا من قناعة ذكورية بأن للرجال الوصاية الكاملة على النساء وأنهم من يملك ويحق له تحريرها. كما تبنى معظم هؤلاء خطابًا ذكوريًا يُحمّل النساء مسؤولية التخلف الاجتماعي والفكري الذي يسيطر على البلاد، ومنهم من ذهب إلى أنهن السبب في تمديد الخضوع إلى الاحتلال الإنجليزي، بزعم أنهن المسؤولات عن تنشئة أجيال تألف الذل والاستكانة.
وفي خضم هذه الموجة الذكورية، ظهرت جريدة تحمل اسم «السفور»، أصدرها الكاتب عبد الحميد حمدي في العام 1915، وما يسترعي الانتباه ليس الاسم في حد ذاته، وإنما اختياره الذي بدا استغلالًا للرواج الذي يحيط بالقضية، لأن الصحيفة لم تكن متخصصة في قضايا المرأة، إذ جاء في افتتاحيتها «للسفور معنى أشمل مما يتبادر إلى الذهن عند سماع هذه الكلمة التى جرت بها أقلام الباحثين فى مسألة المرأة المصرية، ليست المرأة وحدها هى المحجبة في مصر، ولكنها محجبة نزعاتنا وفضائلنا وكفاءاتنا ومعارفنا وأمانينا. كل شيء عندنا يبدو على غير حقيقته. فنحن أمة محجبة، حقيقتها بادية، منها ظواهر كاذبة لا تتفق مع ما فطرت عليه الأمة في شيء».
لم يكن الحجاب في تلك الحقبة الزمنية أمرًا تختاره النساء أو يرفضنه، وإنما يُفرَض عليهن فرضًا، وكان أقرب إلى نظام متكامل لا يقتصر على تغطية أجسادهن، وإنما يتصل بشكل وثيق بعزلهن عن الرجال، وحبسهن في المنازل، وحرمانهن من الحق في التعليم والعمل وإبداء الرأي في أي شأن عام أو حتى خاص، وكان التباري بين الرجال في الكتابة حول هذه القضية في ظاهره معركة بين الحداثة والرجعية، إلا أن جوهره لم يكن كذلك، لأن الجدال كان يحصر المرأة في نطاق ضيق يهيمن عليه الذكر.
وكنتيجة طبيعية لتصور راسخ في أذهان المحافظين والتقدميين على حد سواء، بأن الرجل هو صاحب الحقيقة وحارسها، كان السجال الدائر وقتها شكلًا من أشكال الخلاف الذكوري حول ما يصدّق الرجل «المُفكّر والمُطّلع» أنه يصلح للمرأة وما لا يعتقد أنه يصلح لها.
في إطار محدود، اشتبكت النسويات الأوليات بالكتابة مع هذه القضية، ومنهن باحثة البادية ملك حفني ناصف التي اتفقت مع خلع البرقع من دون نزع غطاء الرأس، واللافت أن تدخلاتها وصفت بالرجعية في وقتها وبعد ذلك، على الرغم من أن موقفها لا يختلف كثيرًا عن ما عبّر عنه قاسم أمين الذي لقّبوه برائد حركة تحرير المرأة، إذ قال في كتابه الذي يحمل اسم «تحرير المرأة» والصادر في العام 1899 «ربما يتوهم ناظر أنني أرى الآن رفع الحجاب بالمرة، لكن الحقيقة غير ذلك، فإنني لا أزال أدافع عن الحجاب واعتبره أصلًا من أصول الآداب التي يلزم التمسك بها، غير أني أطلب أن يكون منطبقًا على ما جاء في الشريعة الإسلامية.. والذي أراه في هذا الموضوع هو أن الغربيين قد غلوا في إباحة التكشف للنساء إلى درجة يصعب معها أن تتصوَّن المرأة من التعرض لمثارات الشهوة، ولا ترضاه عاطفة الحياء، …»
لكن بعد قيام ثورة العام 1919 وشروع المصريات في التحرر من المكبلات التي تعوق ولوجهن إلى المجال العام، حلّ التحرر من البرقع والحجاب ضمن قضايا النضال الرئيسة، وكان لانتصارهن في هذه المعركة صلة قوية وتبعات واضحة، تمظهرت في إنجازات كثيرة جعلتهن مصدر إلهام للنساء في العالم العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين.
اختيار المواجهة المباشرة: زلزال يهز أرجاء العالم الذكوري
نقلت المناضلة النسوية درية شفيق في كتابها «المرأة المصرية.. من الفراعنة إلى اليوم» عن هدى شعراوي، مؤسسة الاتحاد النسائي المصري، روايتها عن اليوم الذي قررت فيه خلع النقاب أو البرقع أمام العوام في مصر، وكان مقدمة لخلعها غطاء الرأس أو الحجاب بعد ذلك. إذ قالت هدى شعراوي «ورفعنا النقاب أنا وسكرتيرتي سيزا نبراوى، وقرأنا الفاتحة، ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتي الوجه، وتلفتنا لنرى تأثير الوجه الذى يبدو سافرًا لأول مرة بين الجموع، فلم نجد له تأثيرًا أبدًا، لأن كل الناس كانوا متوجهين نحو سعد متشوقين إلى طلعته.»
يعود هذا المشهد إلى العام 1923، عند عودة سعد زغلول إلى مصر من منفاه الثاني في جزيرة سيشيل، بعد أن استقر في فرنسا لفترة بغرض الاستشفاء، وتصادف وجود هدى شعراوي وسيزا نبراوي على الباخرة نفسها التي كانت تقله. وقد استعادت سيزا نبراوي هذا المشهد مع رفعت السعيد الرئيس الأسبق لحزب التجمع، الذي وثقه في سلسلة مقالاته «مصر والمرأة في مواجهة التأسلم»، حيث قالت «وأذكر يوم عودة سعد وفي المظاهرة الهائلة التي استقبلته، بدأت هدي هانم بما اتفقنا عليه فهتفت يسقط الحجاب وخلعته وألقت به أرضًا وداست عليه، وفعلت مثلها وكذلك عدد محدود من النساء، وقد أحدث ذلك ضجيجًا واسعًا ورفضًا حتى من بعض الوفديين المحافظين.»
في الظاهر، يبدو كما لو كان هناك اختلاف بين الروايتين فيما يتعلق بردود الأفعال، إلا أن ما تحدثت عنه شعراوي هو رد الفعل اللحظي عند وقوع الحدث، بينما تطرقت سيزا نبراوي إلى ردود الأفعال التي صدرت في أعقابه، وهو ما أكدت عليه أيضًا درية شفيق في كتابها إذ قالت «ولكن هدى هانم دفعت بعد ذلك ثمن جرأتها وشجاعتها، فاحتملت كثيرًا من التعليقات السمجة التي كانت تُقابل بها هي وزميلاتها من الرائدات للنهضة النسائية كلما سرن في الطريق، فكانت الملاحظات السخيفة والعبارات النابية في بعض الأحيان تؤذي أسماعهن، ولكنهن مضين إلى النهاية.»
أشارت أيضًا الكاتبة اللبنانية وداد السكاكيني إلى هذا المشهد في دراسة بعنوان «نساء شهيرات من الشرق والغرب»، جاء فيها «لما عادت هدى شعراوي للمرة الأولى من الغرب كانت تفكر في هذه التقاليد الموروثة التي لا تسمح لها بالظهور سافرة في بلادها، فثارت عليها وما كادت تطل على الإسكندرية، حتى ألقت الحجاب جانبًا، ودخلت مصر مع صديقتها سيزا نبراوي بدون نقاب، فلقيتا جراء هذا السبق بالسفور لغطًا وتعنتًا من المتزمتين.»
وتجدر الإشارة إلى أن هذا المشهد يوثق خلع شعراوي ونبراوي للنقاب في مصر، إلا أنهما سبق أن خلعتاه في روما أثناء حضورهما المؤتمر النسائي الدولي في شهر مايو من العام نفسه (العام 1923)، وقد ظهرتا في صورة نشرتها الصحف كاشفتي الوجه.
وكانت رئيسة الاتحاد النسائي المصري قد أشارت إلى إعجاب سعد زغلول بما أقدمت عليه، إذ قالت في مذكراتها «وقد بدأ يهنئني على توفيقي في الوصول إلى رفع الحجاب وكيفية عمل الحجاب الشرعي الذي أرتديه، وقال إنه قد سر عندما رأى صورتي بهذا الزي الجديد في منفاه، ثم طلب من السيدة حرمه أن تقلدني، فوعدت بذلك.»
في كتابها الصادر في العام 1955، وصفت درية شفيق ما قامت به هدى شعراوي وسيزا نبراوي، بالمكسب الأكبر للمرأة بعد ثورة العام 1919، وفضلًا عن تأثير هذه الخطوة في الداخل، فقد كان لها صدى في البلدان المجاورة، إذ حاول عدد من النسويات في المنطقة العربية أن يقتفين أثر الرائدتين المصريتين، مثل نازك العابد في سوريا إلا أنها لم تستطع أن تحدث الأثر نفسه، وبعضهن بدا مؤيدًا للخطوة إلا أنه لم يقم بها، مثل نظيرة زين الدين في لبنان التي أصدرت في العام 1928 كتاب «السفور والحجاب»، الذي أيدت فيه أن يكون السفور اختيارًا شخصيًا للمرأة، مستندةً إلى أدلة وتفسيرات للآيات القرآنية التي تخص الحجاب في محاولة منها لإثبات أن الدين الإسلامي لم يشرّعه. لكنها رغم ذلك لم تستطع أن تنزع الغطاء عن رأسها، وقد قالت في كتابها «نستفظع اليوم ما صنع الأولون بنسائهم وكانوا يحسبونه بمقتضى العادة الظالمة عدلًا، وسيستفظع أحفادنا ما يصنع رجال اليوم بأمهاتهم وبناتهم وزوجاتهم وأخواتهم.»
في المقابل، تجرأت النساء في مصر على خلع النقاب والحجاب وشاع الأمر بينهن، وفي غضون سنوات قليلة كان السواد الأعظم منهن قد تحرر من البرقع وغطاء الرأس، وفي حوار أجرته جريدة الهلال مع منيرة ثابت إحدى رائدات الحركة النسوية، في أكتوبر من العام 1925، قالت ردًا على سؤال عن الحجاب «ليس في مصر حجاب الآن، المصريات كلهن سافرات»، لكنها عادت في الحوار نفسه وقالت إنه لا يزال يوجد بعض النساء اللاتي ما زلن يرتدين الحجاب.
الانتصار الملهم: المصريات يحسمن المعركة لصالحهن
كالسفينة المنطلقة بأقصى سرعة عبر الضباب، استمر تآكل الحجاب والبرقع في مصر، وفي العام 1927 ظهرت صفية زغلول على غلاف العدد 64 لمجلة «كل شيء»، الصادر في الـ31 من يناير من ذلك العام، بصورة من دون حجاب احتلت الغلاف كاملًا.
وبالعودة إلى مذكرات هدى شعراوي، يتضح أن نزع صفية زغلول للحجاب لم يكن ليأتي إلا بعد أن تستشعر نوعًا من القبول بين المصريين تجاه ذلك، إذ تروي شعراوي أنه عند وصول الباخرة التي كانت عليها مع سعد زغلول وزوجته، إلى الإسكندرية في العام 1923، وجدت صفية زغلول ما زالت ترتدي البرقع والملاءة، رغم أنها وعدت زوجها بأن تحذو حذو شعراوي وتتخلى عنهما، وبحسب ما جاء في المذكرات فقد بررت صفية زغلول موقفها قائلة «أنا ليس لي زوج واحد.. واصف باشا غالي (الذي أضحى لاحقًا وزيرًا للخارجية في حكومة سعد زغلول) استحسن ألا أغير زيي حتى لا أحدث تأثيرا سيئًا في المستقبلين.»
أما التحاق الفتيات بالجامعات المصرية الذي بدأ في العام 1929، مع انضمام أول دفعة للطالبات بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن)، فقد دفع بقوة نحو التحرر شبه نهائيًا من الحجاب في الثلاثينيات.
على الجانب الآخر، كانت دمشق تحتضن أول مؤتمر نسوي في الشام في شهر يوليو من العام 1930، وإحدى توصياته «نزع الحجاب تدريجيًا مع مراعاة المستوى التهذيبي»، بينما ظل الحجاب سائدًا في تونس حتى نهاية الخمسينيات، إذ لم ينكمش انتشاره إلا بعد أن أقدم الرئيس التونسي آنئذ الحبيب بورقيبة، على نزع الحجاب عن رؤوس بعض النساء أثناء أحد الاحتفالات الرسمية في اليوم الثالث من شهر أغسطس في العام 1957.
وتكشّفت مساحات أخرى للتحرر
برزت تبعات هذا التحرر في إنجازات كبيرة حققتها المصريات في هذه الحقبة، ومنها على سبيل المثال حصول لطفية النادي على إجازة الطيران، لتكون أول كابتن طيارة في إفريقيا والعالم العربي في العام 1933، وتأسيس أول فريق كرة سلة نسائي في الثلاثينيات على يد نفيسة الغمراوي، وتعيين أول معيدة بالجامعة في العام 1933 وهي سهير القلماوي، ودخول كوكب حفني ناصف إلى غرفة العمليات الجراحية كأول جراحة مصرية وذلك في الثلاثينيات أيضًا. كما أسست المرأة المصرية نقابة في العام 1937، حيث دشنت السينمائية والموسيقية بهيجة حافظ أول نقابة عمالية للموسيقيين، وبعد سنوات قليلة صارت المرأة المصرية نقيبة، حينما اعتلت المنصب المطربة أم كلثوم في العام 1942 عقب تأسيس نقابة ثالثة للموسيقيين.
بالإضافة إلى ذلك، عرفت الثلاثينيات نهضة سينمائية بسببها تفرّدت مصر بصناعة سينما قوية تستقطب جمهورًا عريضًا من جميع البلدان الناطقة بالعربية، وذلك بفضل مجموعة من النساء قمن بأغلب أدوار الصناعة المعروفة في ذلك الوقت، كالكتابة والإخراج والإنتاج والتوزيع والتمثيل والمونتاج، وكان على رأسهن عزيزة أمير التي أنتجت وأخرجت وشاركت في تأليف أول فيلم روائي مصري، وهو «ليلى» الذي استقبلته دور العرض السينمائي في العام 1927.
بالطبع هذه الإنجازات وغيرها الكثير مما تحقق في تلك الفترة وما تلاها، لا يمكن عزله أو فصله عن تحرر المرأة من الزي الذي فرض عليها في إطار منظومة متكاملة تعمد إلى السيطرة عليها وتكبيل إرادتها وعزلها في كهف الأبوية السلطوية.
لكن حتى الآن، تظل هذه المنظومة عتيدة وتعيد إنتاج نفسها بأشكال وصور مختلفة، ولذا فإن ما فعلته الرائدات كان معركة في حرب طويلة معاركها متجددة، ولكل جيل وموجة معارك، والأكيد أن المقاومة تجلب الانتصار حتى إن تأخر.