النسخة 32 لأمم أفريقيا: خطاب إعلامي موجه للذكور.. ولاعبون وجمهور اجتمعوا على «حق المتحرش في فرص أخرى»
مثلما ارتبطت بطولة كأس أمم أفريقيا التي استضافتها مصر في العام 2006، بالفوز الذي حققه المنتخب المصري وحصوله على اللقب الخامس منذ أن انطلقت البطولة في العام 1957، التصقت أيضًا في الذاكرة بالتحرش الجنسي لفظًا وفعلًا. إذ ركزت الصحف والبرامج المتلفزة على نشر صور ومقاطع للفتيات والسيدات الحاضرات في الملاعب، مستخدمةً أوصاف من عينة «الجميلات» و«الفاتنات» إلى جانب عناوين تشجع على التحرش بهن، على الأقل عبر التعليقات على الأخبار والتقارير المنشورة، وقد ذهب بعض الصحافيين إلى عقد مقارنات بين المشجعات القادمات من مختلف البلدان الأفريقية على أساس الجمال الشكلي. علاوة على ذلك، فقد شهد استاد القاهرة الدولي وقوع حادثة تحرش جماعي، عقب فوز المنتخب المصري في المباراة النهائية، والتي تعد حتى يومنا هذا واحدة من الأحداث المفصلية في تاريخ الظاهرة ومقاومتها.
هذه المشاهد ظلت في ذاكرة كثيرين، إلا أن استعادتها بترقب وقلق ازداد قبل انطلاق النسخة الحالية من البطولة التي تستضيفها مصر. وعلى الرغم من تأكيدات الصحافة ومن قبلها الأجهزة الأمنية على التعامل بقوة وحزم ضد أي سلوكيات خارجة على القانون بما فيها التحرش الجنسي، فإنه لم يغب عن هذه البطولة ولم يختف أيضًا التعامل بمنطق التسليع مع النساء في الوسائل الإعلامية.
التحرش الجنسي لم يقع هذه المرة في الاستاد أو من قبل أحد الجماهير أو بعضهم، ولكنه وقع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقام به أحد لاعبي المنتخب المصري. أما دعم المتحرش والإساءة إلى الناجيات فالقائم به في كل مرة هو المجتمع.
عمرو وردة.. دعم حوّل المتحرش إلى ضحية وضاعف نجوميته
قبل ساعات من انطلاق ثاني مباريات المنتخب المصري، في إطار منافسات النسخة الـ32 لبطولة أمم أفريقيا، أعلن اتحاد الكرة في بيان رسمي استبعاد اللاعب عمرو وردة نهائيًا ومدى الحياة، على خلفية انتشار مقاطع وصور ضوئية من محادثات عبر الشبكات الاجتماعية، تثبت تحرشه بفتاة مكسيكية وعارضة أزياء مصرية.
قرار الاستبعاد قوبل برفض من جانب لاعبي المنتخب، وفي مقدمتهم اللاعب محمد صلاح، المحترف في نادي ليفربول الإنجليزي، الذي مارس وعدد من اللاعبين ضغطًا كبيرًا على الاتحاد المصري لكرة القدم، لإثنائه عن القرار، وقد نجحوا في ذلك. إذ أعلن اتحاد الكرة بعد أقل من 48 ساعة من إصدار قرار الاستبعاد، تخفيض العقوبة إلى المنع من المشاركة في مباريات المنتخب حتى نهاية الدور الأول فقط.
امتدت حالة الدعم من اللاعبين إلى قطاع من الجماهير عبروا عن تسامحهم مع ما فعله وردة وطالبوا بــ«تحري الستر» والتوقف عن فضح إنسان أخطأ مبررين ذلك بأن «الكل يخطئ ولا يوجد شخص معصوم»، ومنهم من لم ير في أفعال وردة أي جرم بل واتهم الفتاتين بسوء الخلق والرغبة في لفت الأنظار. هذه الحالة انتقلت من الفضاء الإلكتروني إلى أرض الواقع، بظهور عدد من المشجعين الذين حضروا إلى استاد القاهرة الدولي لمؤازرة المنتخب المصري في مباراته الأخيرة في الدور الأول التي لم يشارك فيها وردة بسبب العقوبة المخففة، وقد رفعوا لافتات وصور تعبر عن تأييدهم للاعب المتهم بالتحرش.
اللافت للنظر أن الداعمين لوردة تغاضوا عمدًا وغضوا الطرف قصدًا عن وقائع سابقة اتهم فيها اللاعب بالتحرش الجنسي، أولها في تونس إبان مشاركته في معسكر للمنتخب الوطني للشباب، عندما استبعده المدير الفني بعد تحرشه بفتاة فرنسية، ثم استبعدته إدارة فريق فيرنسي البرتغالي عقب تحرشه بعدد من زوجات زملائه في الفريق، ثم استبعده المدير الفني لنادي باوك اليوناني لأسباب أخلاقية، ورجحت تكهنات أن الأمر له علاقة بالتهمة التي تلاحق وردة أينما حل.
على الجانب الآخر، عبّرت منظمات نسوية عن غضبها إزاء الدعم الذي يتمتع بها اللاعب المتهم بالتحرش، واستنكرت عدم التحقيق معه وفق ما تنص عليه المادة 306 مكرر (ب) من قانون العقوبات المصري، وقد أصدرت هذه المنظمات بيانات رسمية تطالب اتحاد الكرة بعدم إعادة اللاعب إلى صفوف المنتخب والالتزام بقراره الأول، إلا أن المشهد العام لا ينبأ بأن ثمة استجابة في الطريق لهذه المطالب.
من أبرز هذه الكيانات: مركز تدوين لأبحاث النوع الاجتماعي، ومركز المرأة للإرشاد والقانون، والاتحاد العام لنساء مصر، وحركة بنت النيل، ومبادرة أمان.
وتنص المادة 306 مكرر (ب) على: يعد تحرشًا جنسيًا إذا ارتكبت الجريمة المنصوص عليها في المادة 306 مكرر (أ) من هذا القانون بقصد حصول الجانى من المجنى عليه على منفعة ذات طبيعة جنسية، ويعاقب الجاني بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.
وفي وقت البطولة.. تستفحل الذكورية في الإعلام
وعن التسليع واللغة الذكورية التي شاعت في الوسائل الإعلامية في العام 2006، فما زالت حية لم يغيرها شيء، وما برح عديد من المواقع الإخبارية يستخدم أوصافًا تمييزية ضد النساء الحاضرات في الملاعب لتشجيع المنتخبات العربية عمومًا وليس المنتخب المصري فقط. ومن هذه العناوين، عنوان ظهر على موقع «اليوم السابع» بتاريخ 21 يونيو بالتزامن مع انطلاق البطولة، ونصه: صور.. الجميلات تزين “استاد القاهرة الدولى”.. المشجعات تملأن الملعب رافعين أعلام مصر.. وتلتقطن الصور السلفى لتوثيق اللحظات الرائعة.. وترفعن شعار: تشجيع الكرة ليس قاصرا على الرجال. وبالتاريخ نفسه نشر موقع «سوبر كورة» خبرًا عنوانه: الوجه الحسن يخطف الأنظار فى ملعب استاد القاهرة، وبالتاريخ ذاته أيضًا، نشر موقع صحيفة «الفجر» قصاصة خبرية بعنوان: “الجميلات” حاضرات لتشجيع منتخب مصر أمام زيمبابوي.
وبتاريخ 23 يونيو، نشر موقع «هن» المنبثق عن موقع «الوطن» الإخباري، خبرًا بعنوان: بالأعلام وأحمر الشفاه.. تألق المغربيات في استاد السلام لدعم أسود الأطلس.
وفي سياق متصل، خرجت الأغاني الدعائية والتحفيزية التي صدرت قبيل انطلاق البطولة، تخاطب الذكور وتحتفي بــ«الرجولة»، ومنها أغنية «جايلك يا بطولة» التي أنتجتها شركة «سينرجي- Synergy»، وجاء في مدخلها «جايلك يا بطولة .. بلد الرجولة»، ولم تظهر النساء في الفيديو كليب سوى في لقطتين، حاضرات بين الجماهير في المدرجات.
من جانبها تقول الصحافية نانسي فارس “لا أفهم الأخبار التي تتصدر الصحف بعناوين تتحدث عن وصول مشجعات هذا البلد وذاك، مصحوبةً بصور للفتيات وهو أمر لا يحدث مع الجماهير الذكور.”
وتعتقد فارس أن القارئ لا يهمه مثل هذه العناوين، وتتساءل “إذا كانت هناك حاجة إلى مثل هذه الأخبار فلماذا التمييز بين الذكور والإناث؟”
وتستطرد فارس في تصريحات لــ «ولها وجوه أخرى» قائلة “كانت هذه الممارسات تقتصر على جرائد ومواقع الفرق والأندية مثل الأهلي والزمالك، إلا أنها باتت تظهر مؤخرًا في تعليقات مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر، وهذه اللغة الذكورية لا تنحصر في العالم العربي فحسب وإنما تنتشر في مختلف دول العالم.”
وعن الخطاب الإعلامي الموجه للذكور فقط وتحديدًا في المادة المرتبطة بكرة القدم، لا سيما البطولات ومنها بطولة كأس الأمم الأفريقية المقامة حاليًا، تقول عزة كامل، الناشطة النسوية ومديرة مركز ACT، إن هذه الحالة غير مفهومة وغير مبررة، وتتابع “كرة القدم كانت حكرًا على الرجال في السابق، عندما كان دور المرأة غير ظاهر على عكس الوضع في الوقت الراهن، خاصة مع صعود منتخبات نسائية في لعبة كرة القدم وفي ضوء حضور النساء بأعداد لافتة في الملاعب لمشاهدة المباريات وتشجيع الفرق، وبالتالي فإنه من المفترض أن يستوعب الخطاب الإعلامي هذه المتغيرات والمستجدات.”
وترجع كامل حالة إجحاف الإعلام الرياضي بحق النساء سواء على مستوى اللغة أو الاهتمام بالمنجزات الرياضية، إلى أن الفرق النسائية الرياضية قليلة ولم تحظ بنفس القدر من الرعاية والتغطية الإعلامية التي تتمتع بها فرق الرجال، وبالتالي فإن هذه الحالة انعكاس للسيطرة الذكورية على المجال الرياضي وتلقي بظلالها على الخطاب المرتبط بها.
لسنوات أولت المنظمات النسوية في مصر اهتمامًا لعملية الرصد الإعلامي لا سيما خلال الاستحقاقات السياسية أو خلال موسم الدراما الأهم والأكبر في شهر رمضان، بينما لا يأتي الإعلام الرياضي والفعاليات الرياضية ضمن اهتمامات الجهات النسوية رغم خطورة ما تبثه من رسائل وتعززه من خطاب.
وترى كامل أن السبب وراء غياب الرصد الاعلامي بمنظور نسوي لفعاليات مثل بطولة الأمم الأفريقية وما يصاحبها، هو أنها لا تتم سنويًا أو بشكل ثابت (في مصر)، إلا أنها تعتقد أن حالة اللغط التي صاحبت هذه البطولة سيأخذها المحللون والراصدون بعين الاعتبار، وستدفع باتجاه عمليات رصد من هذا النوع.
ومنهن من ترفض الذهاب إلى الاستاد
عادة ما تُسلّط كاميرات الإعلام عدساتها على الفتيات في مدرجات الملاعب، فتخرج الصور إما مصحوبة بعناوين ذكورية أو تُستهدَف بتعليقات متحرشة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأحيانًا يستخدمها البعض في ما يعرف بــ”الكوميكس” التي تنتشر على نطاق واسع عبر هذه المواقع وتكون دافعًا للسخرية أو ترفع درجة المتابعة والتواصل غير المرغوب معهن عبر حساباتهن الشخصية، وهو ما يثير تخوفات لدى بعض الفتيات من الذهاب إلى الملاعب، ومنهن سارة (27 عامًا) التي تؤكد على حبها وشغفها بكرة القدم، ولكنها تكتفي بمشاهدة المباريات في منزلها أو في الأماكن العامة مع الأصدقاء ولا تذهب إلى الملاعب للتشجيع.
امتناع سارة عن الذهاب إلى الاستاد ليس بسبب التخوف من التصوير والتعليقات فحسب، وإنما بسبب تعرض عدد من صديقاتها إلى التحرش الجنسي، وتقول “أعلم أن الأمن قد أصبح متعاونًا وكذلك المشجعين في الاستاد إلا أنني لا أفضل الذهاب إلى الاستاد بمفردي من باب الاحتياط.”
أما نيللي (32 عامًا)، فقد سبق أن حضرت مباريات للمنتخب المصري خلال بطولة العام 2006، وعلى الرغم من أنها لم تتعرض حينها للتحرش الجنسي، فإنها لا تفكر في القيام بالأمر نفسه خلال البطولة الحالية، وتقول”ليس الخوف من التحرش هو السبب لأنني أعلم بوجود تأمين على درجة عالية، ولكنني أرفض الذهاب لتشجيع منتخب يؤازر شخص اتهم بالتحرش والأدلة والوقائع السابقة تثبت صحة الاتهام.”
وتضيف “نحن أمام منتخب بالكامل دافع عن حق المتحرش في العودة إلى صفوفه؛ لم يخرج أحدهم ويتبرأ من فعلته، لم يكتف أحدهم بالصمت حتى لا يفقد احترامه، لم يخرج أحدهم على الأقل باعتذار للفتيات الواقع عليهن العنف. بمجرد رؤيتي لأي منهم على الشاشة، أشعر وكأنه يخرج لسانه لنا جميعًا كنساء.”
تم تغيير اسمي الفتاتين نزولًا عند رغبتهما