في إطار اهتمامنا وحرصنا على دعم النساء في المجالات التي يسيطر عليها الذكور وتلك التي ما زال المجتمع يرفض ولوج النساء إليها، فإننا ننقب بين الفينة والأخرى في هذه العوالم، لنبرز إنجازات النساء فيها ونتعرف أكثر إلى مسيرة الرائدات منهن.

في صناعة السينما، واحدة من أهم الخطوات في صناعة الفيلم هي مونتاج «النيجاتيف – Negative» الذي انتهى العمل به نهائيًا في العام 2011 بعد ظهور التصوير السينمائي الرقمي (Digital Cinematography) واختفاء شريط الفيلم التقليدي. وفي هذا المجال طويل العمر تفوقت امرأة على كثيرين اَخرين، وقامت بأعمال مونتاج النيجاتيف لمئات الأفلام المصرية. هذه السيدة هي ليلى فهمي اَخر مونتيرة نيجاتيف في مصر.

انتهاء عصر «النيجاتيف» لم ولن يمحو اسم ليلى فهمي الذي رافق تترات ما يقترب من 300 فيلم، على مدار نصف قرن من تاريخ السينما المصرية، خلال الفترة من العام 1961 وحتى العام 2011. وقد شاركت خلال مسيرتها في حزمة من أهم الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية مثل: «شيء من الخوف» للمخرج حسين كمال، و«غرام في الكرنك» من إخراج علي رضا، و«خلي بالك من زوزو» للمخرج حسن الإمام، و«أحلام هند وكاميليا» للمخرج محمد خان، و«الهروب» للمخرج عاطف الطيب، و«الكيت كات» للمخرج داوود عبد السيد، و«أيس كريم في جليم» للمخرج خيري بشارة.

«عندما كنت أدخل إلى غرفتها في الاستديو، كنت أشعر كأنني دخلت إلى غرفة العناية المركزة، حيث ترتدي البالطو الأبيض وتهتم بنظافة المكان بشدة، وتطمئن مدير التصوير على جودة النيجاتيف والصورة،» هكذا تحدث عنها مدير التصوير سمير فرج الذي راَها طبيبة متخصصة في علاج نيجاتيف الأفلام.

حاورنا مونتيرة النيجاتيف البارزة ليلى فهمي، وتحدثنا معها عن الرحلة والمعوّقات وتمكين النساء في صناعة السينما.

في البداية . كيف بدأت علاقتك بعالم المونتاج والسينما؟

بدأت علاقتي بفن المونتاج مبكرًا، وتحديدًا عندما كنت في الثانية عشرة. كنت أذهب مع والدي المونتير كمال فهمي في أيام الإجازة، إلى استديو ناصيبيان في رمسيس واستديو الأهرام واستديو مصر، وقد فُتِنتُ بهذا العالم وتفاصيله، بداية من ارتداء والدي للقفازات وطريقة العمل الدقيقة مع النيجاتيف، والكولاجات والتقطيع، وكنت استمتع بالمهام الصغيرة التي كان يكلفني بها والدي، مثل كتابة أرقام على علب الأفلام السينمائية ولف النيجاتيف. انتابني شعور عميق بالرغبة في الاستمرار في هذا العالم الساحر وقد فعلت.

أن تدخل فتاة إلى عالم صناعة الأفلام هو أمر عادةً ما لا يلقى قبولًا بسهولة في مجتمعنا، فكيف تعاملت أسرتك مع رغبتك هذه؟  

لقد حدث ذلك بالفعل. أمي كانت لديها المخاوف الشائعة بشأن عمل الفتاة في المجال السينمائي، ولكن في الوقت نفسه كانت تتوفر مساحة من الثقة والمسؤولية، أما والدي فقد أسعده قراري بشدة، وكان يشعر بأن ابنته ستكون امتدادًا له في هذا المجال. ما زلت أتذكر كيف كان أبي يتابعني بدقة لساعات طويلة ويلاحظ حركة أناملي دون ضجر.

وكيف كانت البداية؟

بعد أن اكتسبت خبرة عملية نتيجة العمل مع والدي في الاستديوهات، انخرطت في سوق العمل مباشرة بعد الثانوية العامة، وشغلت موقع مساعدة المونتير مع والدي المونتير كمال فهمي في عدد من الأفلام، حتى توليت مسؤولية أول فيلم كامل بمفردي وهو «اَه من حواء» للمخرج فطين عبد الوهاب ومن إنتاج العام 1961.

كيف كانت تجربة الفيلم الأول؟

لقد كانت ورطة بالفعل. إبان الإعداد لفيلم «اَه من حواء»، سافر والدي إلى لبنان بينما كان المخرج وجهة الإنتاج يريدان الانتهاء من الفيلم في أسرع وقت ممكن، فوجدت نفسي أمام مسؤولية القيام بأعمال المونتاج كاملة لأول مرة بدون مساعدة والدي. وأتذكر أنني ارتكبت خطئًا في منتجة إحدى اللقطات الخاصة ببطل الفيلم رشدي أباظة، وللاَسف تبينت لهم بعد طبع خمس نسخ من الفيلم، مما أدى إلى خصم ربع قيمة الأجر الكامل الذي كان حينذاك 100 جنيه. وحينها انزعجت من نفسي واستغرقت ساعات في البكاء، وعلى الرغم من توسط الممثل رشدي أباظة والمخرج فطين عبد الوهاب لدى المنتج للتراجع عن الخصم فقد رفض الأخير قائلًا إن ليلى ستتعلم من هذا الموقف وستتذكره دائمًا لأنه سيجعلها أقوى مونتيرة نيجاتيف في مصر. وبعد سنوات أدركت التأثير الإيجابي لما فعله معي.

لماذا برأيك أشهر العاملين بمجال مونتاج النيجاتيف من النساء؟

لأنها مهنة تحتاج إلى الصبر والتأمل والدقة فى التفاصيل، وهذه صفات تتميز بها المرأة، المونتاج عمل مرهق جدًا، يستغرق ساعات طويلة من العمل ويعتمد على قوة الملاحظة والعقل الحاضر والذاكرة. وأنا فضَلت البقاء كمونتيرة نيجاتيف رغم إلحاح الأستاذة رشيدة عبد السلام من أجل العمل معها في مجال مونتاج «البوزيتف – Positive»، لأنه يتناسب مع طبيعتي التى تميل إلى الهدوء والتركيز، إلا أن مونتاج «البوزتيف – Positive» كان يتطلب عملي بشكل مباشر مع المخرج ومؤلف الموسيقى، بينما كانت حجرة النيجاتيف هي مملكتي الصغيرة.

مونتير النيجاتيف يتعامل مع مدير التصوير أكثر من المخرج، إذ يحصل منه على الخام (خام السينما) بعد التصوير ويطمئنه على جودة الصورة، ويتعاون معه في معالجة الأخطاء إن ظهرت بسبب المعمل كدرجات حرارة الأحماض أو نقصها، أو إذا ما كان هناك ضرورة لإعادة تصوير عدد من اللقطات.

قبل التصوير السينمائي الرقمي، كان يتم تحميض نيجاتيف الفيلم في المعمل، ثم يحذف مونتير أو مونتيرة النيجانيف اللقطات غير المطلوب طبعها بشكل يدوي علي جهاز اللف Rewinder ، وبعد طبع نيجاتيف اللقطات المطلوب طبعها على شرائط نسخة العمل Working Copy، يجري تنفيذ مونتاج البوزتيف، وفي النهاية يعود الشريط إلى مونتير أو مونتيرة النيجاتيف ليقسمه بشكل يدوي إلى لقطات بالترتيب المحدد لها.

في بداية مشوارك، هل واجهت تمييزًا أم دعمًا؟

لقد وجدت دعمًا واحتواء من الزملاء بالمهنة، وعملت مع عمالقة فن المونتاج في ثلاثة أجيال، بدايةً من ألبير نجيب وسعيد الشيخ وحسن عفيفي وحسين أحمد وأحمد عبدالعزيز وفكري رستم وفتحي قاسم ورشيدة عبدالسلام. كان المخرجون والفنانون يشعرون بالفخر تجاهى نظرًا لصغر سني وحماسي في العمل.

ما الأفلام التي نفذتِ لها المونتاج وتتوقفين أمامها حتى الاَن؟

فيلم خلي بالك من زوزو للمخرج حسن الإمام ومن بطولة سعاد حسني، وفيلم زوجة رجل مهم للمخرج محمد خان، وفيلم شيء من الخوف للمخرج حسين كمال.

النساء على الشاشة، كيف كانت علاقتك بهن؟

لقد ربطتني علاقات صداقة بالعديد منهن، أتذكر المطربة والممثلة مها صبري، والفنانة مديحة كامل التي كنت السبب في إقناعها بقبول أداء شخصية عبلة في فيلم «الصعود إلى الهاوية» رغم تخوفاتها الشديدة، وهو الدور الذي أراه أهم محطاتها الفنية. كما جمعتني صداقة قوية بالممثلة سعاد حسني.

هل ترين أن المخرجات الجدد (جيل الألفية الجديدة) نجحن فى معالجة قضايا المرأة سينمائيًا وتلفزيونيًا؟

أعتقد في صحة ذلك، وعلى سبيل المثال فقد أعجبني بشدة مسلسل «سجن النساء» للمخرجة كاملة أبو ذكري، لأنها طرحت من خلاله قضايا واقعية بطريقة جذابة. وأنا ممن يعتقدون في أن المؤلفة والمخرجة أكثر قدرة على التعبير عن النساء وهمومهن أكثر من الرجل، وأنا متفاءلة بهذا الجيل ومن بينهن؛ هالة خليل وهالة جلال وساندرا نشأت.

حصدت تكريمًا خاصًا من مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في دورته الأخيرة، فكيف تعاملت معه؟

لقد انشرح قلبي وكنت سعيدة جدًا، أحمد الله على تكريمي وأنا على قيد الحياة، فكثيرون تنال أسماؤهم التكريم بعد الوفاة.

كرم مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة مونتيرة النيجاتيف ليلى فهمي، خلال دورته الثالثة التي انعقدت في فبراير الماضي، إذ اختارتها إدارة المهرجان إلى جانب أربع من النساء صاحبات البصمات في مجال صناعة الأفلام، وهن: مصممة التترات الشهيرة نوال، وخبيرات ترجمة الأفلام عايدة أنيس عبيد وعزة أنيس عبيد وعبلة أنيس عبيد.

من المعروف أن أفلام الحروب منهكة، وتحتاج جهدًا أكبر في كل مراحل صناعتها، وأنت قمت بأعمال المونتاج لعدد من الأفلام التي تناولت حرب السادس من أكتوبر، كيف كانت تجربتك في هذا الصدد ولماذا تغيب هذه النوعية الاَن؟

أنا فخورة جدًا بمشاركتي في عدد من الأفلام التي توثق حرب السادس من أكتوبر، مثل: «أغنية على الممر» و«يوم الكرامة» للمخرج على عبد الخالق، وفيلم «أبناء الصمت» للمخرج محمد راضي، و«حائط البطولات» للمخرج نفسه، وأعتقد أن غياب إنتاج أفلام من هذا النوع في الوقت الراهن يعتبر جزءًا من أزمة السينما بصفة عامة، التى يعتمد إنقاذها على عودة دور الدولة فى الإنتاج وتعاونها مع منتجين محترمين، ولا أفهم لماذا لا يذهب منتجو المسلسلات للسينما ويدعموها.

لو مسيرتك شريط فيلم وطلبت عمل مونتاج لأحد المراحل، ماذا ستكون؟

لن أختار شيئًا على الإطلاق، ولولا توقف العمل بالنيجاتيف في السينما والتحول إلى التصوير الرقمي، لما توقفت يومًا عن العمل.

هل حاولت تطوير أدواتك مع التكنولوجيا الحديثة؟

لم يكن سهلًا بعد هذا العمر أن أبدأ في تعلم تقنيات جديدة لم أعهدها.

أخيرًا، من وجهة نظرك، على مستوى الصورة السينمائية أيهما أفضل النيجاتيف أم التصوير الرقمى؟

لو سألت أي مخرجة أو مخرج سيقول لك بلا شك النيجاتيف، لأنه يخلق صورة ساحرة للسينما، على مستوى تصحيح الألوان. أما التصوير الرقمى جعل صورة السينما مثل صورة المسلسل التليفزيوني.