رغم ما نسمعه في أحاديث المسؤولين الحكوميين، وأصحاب الشركات، ورواد الأعمال، في شتى الدول عن تمكين النساء في مجالات العمل جميعها، واعتلائهن المواقع القيادية في أماكن العمل المختلفة، وزيادة نسب شغلهن للمناصب العليا حتى السياسية منها، فإن ذلك لا يوجد له صدى ملموس على أرض الواقع إلا في حدود ضيقة، وهو ما تدلل عليه الدراسات والأرقام التي تعلنها الجهات البحثية، الحكومية والمستقلة على حد سواء.

تكشف قائمة مجلة فورتشن (Fortune) للعام 2018، بشأن أكبر 500 شركة حول العالم، أن عددًا قليلًا من النساء يشغلن موقع “الرئيس التنفيذي” في هذه الشركات، إذ تشغل 24 امرأة فقط هذا المنصب أي ما يمثل 4.8 في المئة فقط. ومجلة فورتشن (Fortune)، هي مجلة دولية تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية منذ العام 1930، وتعد واحدة من المجلات الرائدة في صحافة المال والأعمال.

كما يشير التقرير السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي للعام 2017، أن الفجوة في الأجور بين الجنسين اَخذة في الاتساع، بما يحد من نسب مشاركة النساء في القوى العاملة، وقد أورد التقرير أن متوسط الدخل السنوي العالمي للنساء 12 ألف دولار، بينما يصل إلى 21 ألف دولار للرجال.

علاوة على ذلك، تكشف الأرقام الدولية رسمية وغير رسمية أن النساء غير ممكنات – سوى بقدر ضئيل – من المواقع القيادية ليس في مجال الأعمال فحسب، وإنما في المجالات الأكاديمية والصحية والإعلامية أيضًا.

ويشير التقرير السنوي لمركز دراسة المرأة في التلفزيون والسينما في جامعة ولاية سان ديجو، إلى أن حضور النساء في الأدوار الرئيسة خلف الكاميرا كالإخراج، والتأليف، والإنتاج والإنتاج التنفيذي، والمونتاج، والتصوير، في الـ250 فيلمًا الأكثر حصدًا للإيرادات في 2018، لم يتجاوز الــ20 في المئة.

وفي الإعلام، يمثل الرجال 81 في المئة من الخبراء الذين تتم استضافتهم في الصحافة الإخبارية لاستطلاع اَرائهم سواء عبر محطات الراديو أو شاشات التلفاز أو منتجات الصحافة المطبوعة، بينما تقتصر نسبة النساء الخبيرات اللاتي تستقبلهن الصحافة الإخبارية على 19 في المئة فقط، وهذا وفقًا للمشروع العالمي لرصد النوع الاجتماعي الذي يحلل الاتجاهات الإعلامية في أكثر من 100 بلد.

ما تؤكده الأرقام من تمييز ملحوظ ضد النساء في مجالات العمل المختلفة، بما يحد من مشاركتهن ويعيق ارتقاءهن إلى المواقع القيادية، يقف خلفه تصوّرات تأصلت في الثقافة المجتمعية، بما يجعل تفضيل الرجال في مهن ومناصب بعينها أمرًا ذا مقبولية اجتماعية وتحبيذ ثقافي، حتى إن لم يكن ذلك معلنًا بلوائح أو قرارات علنية.

هذه الحالة التي لا يصاحبها إعلان واضح تشبه الحاجز غير المرئي الذي يقف حائلًا دون وصول النساء إلى حقوقهن، إلا أنه ليس حديديًا أو خشبيًا يظهر للعيان بسهولة، بل هو حاجز زجاجي لا يمكن رؤيته.

السقف الزجاجي (Glass Ceiling)

وتعرّف وزارة العمل في الولايات المتحدة الأمريكية، السقف الزجاجي بأنه سقف غير مرئي ولا يمكن الوصول إليه، لكنه يعوق صعود النساء والأقليات إلى الدرجات الأعلى في السلم الوظيفي بغض النظر عن مؤهلاتهم وإنجازاتهم.

وترجع بداية استخدام مصطلح السقف الزجاجي إلى مايو من العام 1978،  عندما أطلقته مارلين لودن خلال كلمتها أثناء جلسة نقاشية عقدت في مدينة نيويورك، عن طموحات المرأة ومعوّقات الوصول إلى أهدافهن.

وبحسب مقالة نشرتها لودن العام الماضي (2018)، فإن ما دفعها إلى استخدام هذا المصطلح، هو كلمات النساء المشاركات في الجلسة اللاتي تحدثن عن العقبات الاجتماعية، والتنشئة التي تدفع النساء إلى الشعور بدونيتهن، مما يعطل تقدمهن في مجالات العمل المتباينة. أدركت لودن أن العائق ثقافي وليس شخصيًا، بينما يحاول المجتمع أن يقنع النساء بافتقارهن إلى الكفاءة التي تجعلهن أحق بفرص الترقي والتقدم.

لكن مصادر أخرى، تزعم أن الاستخدام الأول للمصطلح كان على لسان السيدة كاثرين لورانس  في العام 1979، التي أضحت لاحقًا مؤسسة ومديرة إحدى الشركات الهندسية في ولاية كولورادو الأمريكية، عندما أشارت إلى “السقف الزجاجي” في المؤتمر السنوي لمركز المرأة لحرية الصحافة في واشنطن، حيث قالت أن الشركات الأمريكية تدعي أن السماء هي حدودها، لكن في حقيقة الأمر هذه السماء لها سقف زجاجي غير مرئي يحد تقدم المرأة.

ظهر المصطلح مرة أخرى بشكل مكتوب في حوار للكاتبة والصحافية الإنجليزية غاي براينت في مارس من العام 1984، نشرته مجلة أدويك (Adweek) الأمريكية، وحينها قالت براينت إن النساء يصلن إلى درجة محددة في سلم الارتقاء الوظيفي، ويتوقفن عندها دون أن يكون ظاهرًا السبب في ذلك، لأن الحائل أشبه بالسقف غير المرئي.

الانتشار الأوسع للمصطلح جاء بعد أن ورد في تقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال (Wall Street Journal)، في الـ24 من مارس في العام 1986. التقرير الذي أعدته كارل هيمويتز بالتعاون مع تيموثي دي شيلهردت، جاء تحت عنوان “السقف الزجاجي: لماذا لا يمكن للنساء أن يكسرن الحاجز غير المرئي الذي يحجبهن عن الوظائف العليا؟”، وتناول المعوّقات غير المحسوسة التي تواجهها النساء في المؤسسات والشركات، وتؤثر بشكل أسوأ من التمييز المعلن.

في العام 1991، توقف الكونغرس الأمريكي أمام حقيقة دخول مزيد من النساء إلى سوق العمل، إلا أن تمثيلهن في المناصب القيادية ما زال محدودًا، ولذلك قرر الكونغرس تطبيقًا لنص المادة الثانية من قانون الحقوق المدنية الصادر في 1964 في الولايات المتحدة، تدشين لجنة للسقف الزجاجي، للوقوف على ماهية الأسباب التي تمنع النساء والأقليات من الصعود إلى المراتب العليا.

وينص الباب الثاني في قانون الحقوق المدنية على حظر ممارسة التمييز بين المواطنين الأمريكيين بسبب العرق أو اللون أو الدين أو الأصل القومي.

تشكلت لجنة “السقف الزجاجي” من 21 عضوًا برئاسة وزير العمل، وخلص تقريرها الذي صدر في العام 1995، إلى أن ضعف البيانات المتعلقة بالعمالة في الشركات ومدى تحقق التنوع بين الملحقين بها، يؤدي بالتبعية إلى ضاَلة نسبة تمكين النساء من المناصب القيادية، وفي هذا التقرير استشهدت اللجنة بما كشفته مجلة فورتشن (Fortune) في تقريرها السنوي حينذاك عن أن نسبة النساء في جميع المناصب الإدارية في الشركات الـ500 الكبرى، يراوح بين 3 و5 في المئة فقط.

زاد انتشار المصطلح، وتحول إلى نظرية تُدرَس وتُدرَّس وتفرع إلى عدد من السقوف الأخرى التي تدلل على التمييز “غير المعلن” ضد فئات بعينها، مثل “سقف بامبو” الذي يحد خطوات الأمريكيين من أصول اَسيوية، و”سقف سيلوليويد” الذي يحول دون تمكين النساء في هوليوود، والسقف الرخامي الذي يقلل فرص النساء داخل الحكومات.

بعد أن عُرِفَ السبب.. هل تراجع التمييز ضد النساء؟

في العام 2012، أصدرت مجموعة بوستن الاستشارية (The Boston Consulting Group) التي تمتلك مكاتب في 42 دولة، دراسة تحليلية بعنوان “اختراق حاجز السقف الزجاجي: نظرة تحليلية حول سبل الارتقاء بالمرأة وتمكينها من شغل مناصب قيادية”، وقد شملت نحو 100 مديرًا ومديرة للموارد البشرية في 44 شركة عالمية، وركزت الدراسة على استعراض الحواجز المؤسسية والشخصية التي تمنع المرأة من شغل المناصب القيادية، كما قدمت أسلوب عمل منهجي لتعزيز دور المرأة في الإدارة.

وقد توصلّت الدراسة إلى أن التحدي الأكبر الذي يواجه المؤسسات والشركات، ليس نقص الوعي حول مسألة التنوع، بل غياب القدرة على تحديد السقف الزجاجي الخاص بكل شركة.

وأفادت الدراسة بأن ثمة صلة قوية تجمع  بين نجاح المؤسسة ونسبة التنوع بين موظفيها، وهو ما تعترف به 85 في المئة من المؤسسات الرائدة التي أكدت أن التنوع بين الجنسين يأتي كأولوية قصوى بين أشكال التنوع الأخرى. ومع ذلك فإن الواقع يخالف ذلك، إذ أن واحدة فقط من بين كل خمس شركات تطبق استراتيجية استقطاب تستهدف النساء ذوات الكفاءة.

الواقع يجافي ما يُقَال، هذا ما تؤكده نتائج “مؤشر السقف الزجاجي” السادس الذي تصدره مجلة الإيكونوميست (The Economist)، والخاص ببيئة عمل المرأة للعام 2017 في 29 دولة، هي الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وقد نشرته خلال الربع الأول من العام 2018، لينجلي معه أن متوسط تمثيل النساء في مجالس الإدارات يظل منخفضًا للغاية، إذ لم يتجاوز الـ21.8 في المئة.

أما المؤشر الخامس والمتعلق بالعام 2016، فقد أكد حالة أقرب إلى الركود، إذ أن مشاركة النساء في العمل في العام 2005 التي قُدِّرت وقتذاك بـ60 في المئة، زادت بـ3 في المئة فقط حتى العام 2016 وأصبحت 63 في المئة.

ويعتمد المؤشر الذي أطلقته الـإيكونوميست (The Economist) لأول مرة في العام 2013، على عدد من البيانات مثل: التحصيل العلمي ، الالتحاق بسوق العمل، والأجور، وحقوق الأمومة والأبوة، وتطبيقات إدارة الأعمال والتمثيل في الوظائف العليا (في المناصب الإدارية، وفي مجالس الشركات والبرلمان).

السقف الزجاجي في العالم العربي

لم تقم أي من الدول العربية بتخصيص لجان كالتي شكلّها الكونغرس الأمريكي لمراقبة السقف الزجاجي والعمل على تكسيره، باستثناء دولة الإمارات التي دشنت حكومتها في العام 2015، هيئةً حملت اسم “مجلس التوازن بين الجنسين” وأحد أهدافه المعلنة هي كسر الحاجز الزجاجي أمام المرأة في مجال العمل.

كما لم تتبن أي مؤسسة محلية أو إقليمية فكرة إطلاق مؤشر مثل الذي أطلقته مجلة الإيكونوميست (The Economist)، فضلًا عن أنه كمصطلح ليس منتشرًا في خطابات رواد الأعمال والحكوميين.

وفي الحقيقة الأمر، فإن الوضع أسوأ في المنطقة العربية، لأن ما لا تعلنه المؤسسات في الدول الغربية، يعلنه صراحةً نظراؤها في الدول العربية.

وفي مصر، يمكننا بسهولة ويسر أن نجد إعلانات الوظائف في مؤسسات خاصة وحكومية، تشترط أن يكون المتقدم ذكرًا، فعلى سبيل المثال ما زال مجلس الدولة يستخدم في إعلانه السنوي عن وظيفة “مندوب مساعد”، لفظ “خريجي كليات الحقوق والشريعة و….”، وفي كل عام يؤكد أنه لا حق “للخريجات” في هذه الوظيفة، وفي فبراير من العام 2018، نشرت مؤسسة بنك مصر لتنمية المجتمع (المنبثقة عن بنك مصر، أحد أكبر البنوك الحكومية في مصر) عبر صفحتها الرسمية على موقع فيسبوك، إعلان شغور وظيفة «متابع مشروعات وتقييم»، وذكر الإعلان نصًا أنها للذكور فقط، ولذلك فإن الحرب من أجل تكسير الحاجز الزجاجي يتقدمها النساء وحدهن، بينما تغيب الإجراءات المؤسسية والرقابة الحكومية التي من شأنها تحقيق التوازن وإزالة هذه العوائق.