«اَسيا داغر» غادة الصحراء التي عشقت السينما.. وسيدة الإنتاج السينمائي في العالم العربي
بدأ ظهور و إزدهار السينما فى مصر في أوائل القرن الـــ20 على يد رواد عظام، وكان للنساء فى هذه المرحلة دور جليل وشديد الأثر لا يمكن تجاهله، فقد سبقت المرأة المصرية نساء العالم فى الدفع باتجاه تقدم ورواج السينما، لذلك كان بمصر من لقبت بأم السينما “عزيزة أمير” أول مخرجة ومنتجة فى العالم بأسره عام 1926، عندما قدمت فيلم “ليلى” وكان فيلمًا صامتًا.
تبع “عزيزة أمير” عدد من النساء اللواتى تسلمن الراية وحاول جاهدات الحفاظ على رونق وجمال وخصوصية السينما المصرية مثل؛ بهيجة حافظ، وماري كويني والمنتجة الأهم فى تاريخ السينما، اَسيا داغر.
الهجرة إلى هوليود الشرق عشقًا في السينما
يتعامل كثيرون مع “اَسيا داغر”، كونها مصرية المنشأ والجنسية، والحقيقة أنها لبنانية الأصل، وعاشت في لبنان فترة من العمر وأدركت هناك عشقها للفن والسينما، لكنها لم تجد في أرض الأرز ما تحلم به، وكانت تتطلع للوصول إلى هوليود الشرق، القاهرة، فجاءت مصر عام 1923، لتبدأ رحلةً طويلة في عشق السينما.
أتت “اَسيا” إلى مصر مع شقيقتها “ماري” وابنة شقيقتها “ماري كويني”، وأقمن في البداية لدى ابن عمها “أسعد داغر” الكاتب بجريدة الأهرام، وبمرور الوقت تمكنت أن تخطو أولى خطواتها فى مشوارها الفني عام 1927، عندما مثلت أول فيلم صامت وهو “ليلى” من إنتاج أم السينما المصرية “عزيزة أمير”.
تؤسس شركة “لوتس” للانتاج السينمائي وتنال لقب “ثانى منتجة عربية”
أسست “آسيا” شركة “لوتس فيلم للإنتاج السينمائي” في عام 1928 وكانت من أول خمس شركات إنتاج سينمائي في العالم العربي، ولم تكتفِ “اَسيا” بكونها منتجة سينمائية، بل راودتها موهبتها الأصيلة فى التمثيل، فقامت ببطولة عدد من الأفلام التى انتجتها، وبدأتها عام 1929 بفيلم “غادة الصحراء” إخراج وتأليف المخرج التركي”وداد عرفي”.
وبعدها تعاونت مع الفنان “إبراهيم لاما”، الذي أخرج لها فيلم “وخز الضمير” عام 1931، إلا أن بدايتها الحقيقية كممثلة ومنتجة، كانت حينما التقت بالمخرج السينمائي والصحفي “أحمد جلال”، فكونت معه ثلاثيًا فنيًا بالاشتراك مع ابنة شقيقتها “ماري كويني”، وأثمر هذا التعاون بينهم عن فيلمي “عندما تحب امرأة” و”عيون ساحرة” وأول فيلم تاريخي في السينما المصرية “شجرة الدر”، تأليف وإخراج “أحمد جلال”، وبطولة؛ “اَسيا” و”عبد الرحمن رشدي” و”أحمد جلال”.
غادة الصحراء
“غادة الصحراء” هو أول فيلم تقوم بتمثيله وانتاجه معًا، من تأليف وإخراج “وداد عرفي”، وكتبت مجلة “المصور” في إعلانها عن الفيلم “وضع وداد بك عرفي المؤلف والمخرج السينمائي المعروف رواية سينماتوغرافية جديدة أسماها غادة الصحراء، وقد انتهى أخيرًا من تصوير مناظرها بالاشتراك مع جماعة من معاونيه من هواة السينما البارعين، وسيمثّل الدور الأول في هذه الرواية السيدة آسيا، وهي أول سيدة سورية تظهر على اللوحة الفضية في رواية سينماتوغرافية.”
استأجرت “آسيا” دار عرض سينما “متروبول” لتعرض فيها فيلمها الأول، ثم سافرت به إلى دمشق، حيث لاقى نجاحًا كبيرًا، وكان الفيلم أول شريط مصري يُعرض في سوريا ولبنان، وقد سارعت الحكومة السورية إلى تكريم منتجته، فقلدتها وسام الاستحقاق، ومنحتها مئة ليرة ذهبية مع ميدالية نُقش عليها صورتها.
فيلمها الذى كشف خوف الرقابة من رجال الدين
انتجت “اَسيا” أول فيلم من فئة الخيال العلمي في مصر والعالم العربي عام 1954، وجاء باسم “عيون ساحرة”، وقد رفضته الرقابة في البداية بسبب تعرضه لفكرة إحياء الموتى، واعتبرت الرقابة وقتذاك أن الفيلم سيخلق مشكلة كبيرة في المجتمع وسيثير حفيظة رجال الدين، لأن الدين الإسلامي لا يعترف بحق إحياء الموتى لغير الله سبحانه تعالى.
إلا أن “آسيا” رفضت المنع وسببه، وقالت: “كل ما هنالك هو أن التنويم المغناطيسي يجعل الأحياء يغفون ثم يوقظهم”، وظل الصراع قائمًا لفترة بينها وبين الرقابة حتى تدخل رئيس الوزراء حينها وصرح بعرض الفيلم.
مكتشفة الكبار .. بركات وشاهين وصباح
في عام 1942، تعرفت على “هنري بركات” الذي لم يكن يتجاوز وقتذاك الـ28، ليخرج لها فيلم “الشريد”، لتكون هى مكتشفة أحد أهم مخرجى السينما المصرية، كما كان هو مخرج اَخر فيلم مثلته وهو فيلم “الهانم”، بعدها اعتزلت “اَسيا” التمثيل وتفرغت للانتاج، وقدمت أفلامًا مهمة في تاريخ السينما المصرية قاربت على 70 فيلمًا، وخلال مشوارها الفني، اكتشفت العديد من النجوم والمخرجين.
في مجال التمثيل، اكتشفت المطربة “صباح” كممثلة سينمائية، وأحمد مظهر و عز الدين ذو الفقار؛ وفي مجال الإخراج اكتشفت أسماء كثيرة، أبرزها؛ “حسن الإمام”، و”حلمي رفلة”، و”كمال الشيخ”،و” أحمد جلال”، والمخرج العالمى “يوسف شاهين”.
منتجة الفيلم المصري ” الناصر صلاح الدين”
تعد “اَسيا” أول منتجة تغامر وتقامر بمالها من أجل انتاج فيلم تاريخي على درجة عالية من التقدمية والكفاءة خاصة على الصعيد البصري، وقد نجحت فى ذلك مع المخرج العبقري “يوسف شاهين”، فى فيلم “الناصر صلاح الدين” والذى يعد ثالث فيلم تاريخي تنتجه “اَسيا” بعد “أمير الانتقام” و”شجرة الدر”.
بلغت تكلفة فيلم “الناصر صلاح الدين” اَنذاك 200 ألف جنيهًا وتعد هذه التكلفة الأعلى لفيلم سينمائي فى هذا التوقيت، وقد استغرق الإعداد له 5 سنوات تقريبًا، اضطرت خلالهم إلى بيع أثاث منزلها للإنفاق على انتاجه، وخروجه بشكل استثنائي، فيلم ملون بتقنية سكوب، تنفيذ المعارك بدرجة عالية من الكفاءة، عدد كبير من النجوم.
وعلى الرغم من أن كل العوامل كانت تصب بصالح نجاح الفيلم، إلا أن الواقع لم يحقق التمنيات والتطلعات التى نسجتها “اَسيا”، وخسرت بسببه خسارة فادحة، تعثرت على إثرها، وانتهى الأمر بإفلاسها والحجز على بيتها.
على الجانب الاَخر، اعتبرت وزارة الثقافة الفيلم نقطة تحول كبيرة فى تاريخ السينما المصرية والعربية، وكرمها لذلك وزير الثقافة “عبد القادر حاتم” وأهداها مبلغ 3 اَلاف جنيهًا دعمًا لها.
حتى “اللقاء الثانى” لم يمنع نزولها من درجة منتج لمنتج منفذ
حاولت “عميدة المنتجين” أن تستفيق من الكابوس الذى غرقت فيه بعد “الناصر صلاح الدين”، عادت للانتاج فى عام 1967 بفيلم ” اللقاء الثانى”، الذى قام ببطولته؛ “أحمد مظهر” و”سعاد حسني”، وأخرجه “حسن الصيفي”، إلا أن الأمر لم يدر عائدًا كبيرًا وحقق الفيلم إيرادات أقرب للضعيفة.
ومن بعد هذا الفيلم، تولت “آسيا” مهمة المنتج لحساب “المؤسسة العامة للسينما” التي أنشأتها وزارة الثقافة في الستينيات، وقدمت كمنتج منفذ ثلاثة أفلام هم “يوميات نائب في الأرياف” و”أوهام الحب” و”الشيطان والخريف”، ليكون الأخير هو ما يتذيل قائمة الأفلام التى وقعت عليها سيدة الانتاج فى زمن الفن الجميل.
ورحلت سيدة الانتاج الرفيع.. ولم يأت بعدها من ينافس اسمها على اللقب
نالت “اَسيا داغر” لقب سيدة الانتاج الرفيع، وظل يلازمها طوال حياتها وحتى بعد توقفها عن الانتاج، هذا إلى جانب تلقيبها بــ”عميدة المنتجين”، وهما لقبان لم تستطع سيدة أخرى أن تنازعها عليهما لا فى حياتها ولا بعد وفاتها منذ عام 1986، عندما رحلت فى الـ78 من العمر.
“اَسيا” لم تكن فقط رمزًا من رموز السينما العربية، وإنما كانت رمزًا للنساء المصريات المناضلات بحق، فقد صارعت الأمواج العاتية واقتحمت مجالًا مفعمًا بالمصاعب والخسارات، والحروب، وتحملت كل صعب وواجهت كل مشقة وحتى الخسارة التى كلفتها كل ما تملك، لتضرب لنا نموذجًا لامرأة ناضلت من أجل قضيتها الكبرى “السينما” التى كانت عشقها الأول والأخير، الذى دفعت لأجله كل غالٍ وثمين من عمر ومال وصحة وفكر ووقت.