من قال أن الفن يمكن أن ينفصل عن الحرية، أو ينعزل عن الشارع بمعاناته واَلامه. الفنان حر العقل والروح، الثورة تعتمل داخله فى كل اَنٍ، تمرده يدفعه لكسر كل قيد يحول دون تحليق خياله فى الأعالي، وهذا ما ينطبق نصًا على “إنجى أفلاطون”، الفنانة التشكيلية التى خلعت عباءة الأرستقراطية وانخرطت فى حياة العامة، ومضت فى دروب السياسة تحارب من أجل العدالة، وسعيًا لتحقيق المساواة حاربت القمع الموجه ضد النساء.
عاشت فنانة استثنائية، تمزج المشاعر والأفكار، عبر الألوان لتخلق عالمًا موازيًا، نرى من خلاله ما لا تلتقطه أعيننا فى زحام الحياة.
ويلخص الكاتب الكبير “أحمد بهاء الدين” سيرة “إنجى أفلاطون” فى قوله:
“وهل يمكن حقًا أن نفهم فنها معزولًا عن نضالها؟ إننى لا أعنى اختيارها لموضوعات لوحاتها فحسب وإنما أعنى أسلوبها فى التعبير كذلك .. هذا الوهج الذى تشى به ألوان لوحاتها الأولى ، وهذا الحزن الخفيف على الوجوه والعيون ذات النظرة المتطلعة إلى بعيد ثم هذه النمنمة التى شاعت فى لوحاتها الأخيرة وكأنها نوع من الإدراك بأن الطريق طويل، ثم هذا الاحتفال بالمرأة الشعبية المصرية فى لوحاتها وكأنه جزء من وعيها بالظلم المزدوج على تلك المرأة فى مجتمعنا .”

رحلة طويلة ..عنوانها الفن والحرية
على الرغم من أن “إنجى أفلاطون” نشأت فى أسرة ميسورة الحال (فى الـ16 من إبريل 1924) بالقاهرة، وتربت تربية ذات طابع أوروبي بين أسرة تعود جذورها إلى تركيا، إلا أنها لم تستسيغ القيود التى تُفرَض عليها باسم تقاليد الطبقة الأرستقراطية، ولم تتقبل فكرة جذبها بعيدًا عن مصريتها من خلال تعاليم المدرسة الكاثوليكية المخصصة لبنات الطبقة العليا، فتمردت الصغيرة على الوضع المفروض عليها، وزاد عنادها أمام إدارة المدرسة ومعلماتها، حتى أخرجها والدها من المدرسة للسيطرة على تمردها الزائد، وأرسلها لمدرسة ليسيه الحرية الفرنسية.

ثانى محطة فى رحلة البحث عن الحرية فى حياة “أفلاطون”، كانت الفن، حيث بدأت تتحرر من قيودها عبر ألوانها، وقد ظهرت أول بوادر موهبتها عندما كانت بمدرسة الليسيه، من خلال لوحات رسمتها بتلقائية ونشرها خالها فى مجلة باللغة الفرنسية، كان يصدرها وقتذاك (منتصف الثلاثينيات).
وكان للفنان المشهور محمود سعيد، دور محورى فى دخولها عالم الفن التشكيلي بشكل احترافي، بعد أن أتمت الـ15 من العمر، عندما كان فى زيارة لأسرتها، وعلم بموهبتها فأوصى الفنان كمال التلمسانى، بتبني موهبتها، وتعريفها بالأسلوب السريالي والتكعيبي في فن الرسم، إلا أن السريالية على وجه التحديد، أثرت في أعمال “إنجي أفلاطون” الفنية أكثر من غيرها.
بعد فترة وجيزة، عرفها “التلمسانى” على جماعة “الفن والحرية” الشهيرة اَنذاك، فشاركت معهم في العديد من المعارض الطلائعية.
“الفن والحرية”، فرقة تستخدم الفن وسيلة لتحرر الفكر والأمة، وهو ما تأثرت به شديد الأثر “إنجى أفلاطون”، فازداد وعيها السياسي، وتبنت الفكر الاشتراكي الذى ساهم “التلمسانى” بدرجة كبيرة فى زرع بذرته الأولى داخلها، من خلال حكاياته عن الفلاحين ومعاركهم، وكفاحهم المستمر، فتمخض الوعى السياسي، بفن ذى طعم مختلف.

“عندما شاركت ( إنجى أفلاطون ) للمرة الأولى فى المعرض الثالث لمجموعة ( الفن والحرية ) عام 1942 كانت أصغر عضو ( 17 عامًا ) وقد انقضت سنتان منذ أن أكتشفها لأول مرة وعلمها ( كامل التلمسانى ) وكان هذا كافيًا كى تنطلق كفنانة حرة خلال مراحلها الفنية المختلفة، وأقامت أول معرض خاص لها فى القاهرة مارس 1952 ثم تبعته عدة معارض خاصة حتى عام 1985 عندما أقامت معرضها الشامل للأعمال المنفذة خلال الأربعين عامًا السابقة وساهمت واشتركت فى أهم بيناليات الفنون الخاصة فى العالم وفى الصالون المستقل فى باريس 1966 بالإضافة إلى هذا أقامت معارضها الخاصة فى عدة عواصم أوروبية وفى الهند.”
كمال زهيرى – صحافى مصري – 1985

الفن ثورة من أجل الكادحين

صنعت “أفلاطون” لفنها رسالة عليا وهى التعبير عن الكادحين، ورسمت بالألوان اَلامهم، أحلامهم، معاناتهم، بهجتهم.
فخلقت لنفسها خطًا مغايرًا عن كثير من فنانين هذا العصر، وتحدثت هى عن ذلك قائلة “كانت أمنيتي الرئيسة في ذلك العصر التعبير عن الواقعية وأحلام العامل الذي يكدح تحت ظروف عمل مزعجة من دون قانون يحميه.”
ولأن شاغلها الشاغل، كان التعبير عن الطبقات المهمشة، لم تقف عن تأدية هذا الدور عبر الفن وحده، فوسعت دائرة الدور، وانضمت لحركة إسكرا الشيوعية (عام 1944).

“إن كلمة فلاح تعنى الشىء الكثير وهى تشمل مختلف أنواع العمل والملامح الشخصية للفلاحين المصريين وإنجى أفلاطون أستاذة كبيرة فى فن البورتريه.
إن فرشتها السريعة تمسك وتلتقط فى الحال بكل ما هو مهم ونمطى بدون الانتباه إلى التفاصيل فالبستانى وصياد السمك حاملًا شبكة الصيد وصانع الخزف يعمل بعشق وحب وراعية غنم تعتنى بعنزاتها كل هذا ما هى إلا صورة متماسكة فنية وهى فى الوقت نفسه صور عامة أبدعتها وأثرتها برؤية إبداعية .. إنها تكرس عملها لكفاح الشعب العزلى من أجل الحرية والاستقلال”
جورج حنين – أديب وناقد فنى وصحافى مصري

الثورة من أجل النساء أيضًا..
سرعان ما اتسعت رؤية “إنجى أفلاطون”، للكادحين، فادرجت تحت المسمى العام، النساء من الطبقات الفقيرة، وتكون لديها رأى أن النسوية والاشتراكية مكملان لبعضهما البعض أو وجهان لعملة واحدة.
وقالت فى مذكراتها، “الحل لم يكن في التخلي عن مظاهر الأرستقراطية، ولكن بطرح مطالب وقضايا المرأة العاملة والفقيرة كأولوية وليس فقط بالتركيز على هموم وحقوق المرأة بشكل عام، فتصبح النتيجة هي الدفاع عن حقوق تخص فقط المرأة البرجوازية وميسورة الحال كالحريات وحق الاقتراع.”

988426625495777

أضحت “أفلاطون” واحدة من هؤلاء اللواتى يملكن إيمان بالأفكار النسوية ممتزجة بالشيوعية، وأبرزهن لطيفة الزيات، وكان الإيمان الراسخ لدى هؤلاء أن النظام والفساد السياسي سبب الظلم والقهر لكافة المهمشين نساءً ورجالًا على حد سواء.
التقت “إنجى أفلاطون”، بـ”سيزا نبراوى” رئيس الاتحاد النسائي المصري ” – ترأسته بعد وفاة مؤسسته هدى شعراوى- فى حفل أقيم بمقر هيئة الأمم المتحدة فى الخمسينيات، وبدأت الأفكار تتلاقى، فأسستا سويًا لجنة الشابات بالاتحاد.
وخلال تلك الفترة، كانت تكتب “أفلاطون”، عمودًا فى جريدة المصري – الوفدية – واختارت اسم العامود “المرأة نصف المجتمع”، ويقال أنها أول من استخدم ذلك الشعار.
كتبت منشورين هامين فى هذا الصدد، هما” ٨٠ مليون امرأة معنا” عام 1948 والذى كتب مقدمته عميد الأدب العربي”طه حسين” و”نحن النساء المصريات” عام 1950 وهما تحليلين لقمع النساء والأمة معًا.

سجن النساء .. معتقل سياسي حولته بريشتها إلى مرسم فنى
فى عام 1959 أودعت سجن النساء بالقناطر الخيرية مثلها مثل عدد من الرموز السياسية طالهم الاعتقال السري، كان السجن بمثابة ضريبة اشتغالها بالقضايا الوطنية وخاصة أنها كانت جزءًا من الحركة الشيوعية التى كانت مصدر إزعاج للرئيس جمال عبد الناصر، قضت “أفلاطون” نحو 4 سنوات فى السجن، احتمت خلالهم بالألوان والفرش ومسطحات الرسم، وألهمها وضع السجينات وراء القضبان بقيمة الحرية ومعاناة البشر أى كانت طبيعة سجونهم مادية أو نفسية.

828135756775737وقالت هى عن تلك الفترة” عندما دخلت السجن شعرت برغبة جامحة فى الرسم وعدم الاستسلام للواقع.”
رسمت السجينات فى عنابر النوم وطوابير الطعام وحصص الوعظ ومشاغل التأهيل المهنى .. ورسمت الطبيعة الخلابة للنيل وأشرعة المراكب المنطلقة والحقول والفلاحين، التى كانت تراها من نافذتها.

مثلت السنوات التى قضتها بالسجن، ميلادًا جديدًا، لها كفنانة، فقد بدأت لأول مرة ترسم مباشرة فوق أرضية اللوحة دون تحضير، وعمدت إلى إحلال الألوان المضيئة المشرقة محل الألوان القاتمة.

“أجمل لوحاتها لوحة صغيرة رسمتها من وراء قضبان الأشجار فى حديقة سجن النساء حاولت وحاول غيرى شراءها ولكنها آثرت دائما الاحتفاظ بها . لم أعرف مثلها لوحة تعبر عن الأمل المزدهر فى أسوأ الظروف.”
إحسان عبد القدوس

بعد الخروج من السجن فى عام 1963، عاشت إنجى أفلاطون 26 عامًا كرستهم للفن والدفاع عن حق الآخرين فى الحرية والحياة،إلى جانب إصدارها لكتب عن حقوق المرأة، واتجهت للعمل المدنى والمجتمعى بشكل ملحوظ.
توفيت “إنجى أفلاطون” فى نفس الشهر الذى ولدت فيه، لكن بعد 65 عامًا من الميلاد (إبريل 1924 -1989)، و تم افتتاح متحف باسمها بمركز الفنون المعاصرة فى عام 2002.

“لقد خسرنا برحيلها أعظم خسارة وكانت الخسارة مزدوجة لأصدقائها الشخصيين وأنا منهم ـ لكن إنجى أفلاطون كانت من هذا الجيل ـ جيلنا ـ الذى بدأ يجمع أوراقه استعدادا للرحيل، ويتطلع إلى الخلف متساءلًا إن كان قد أدى واجبه بما فيه الكفاية .”
أحمد بهاء الدين -17 إبريل 1989