عندما بدأت «ولها وجوه أخرى» قبل أكثر من خمسة أعوام، كان التمرد على نمط سائد من الصحافة النسائية هو المحرك، فلم تنشغل طيلة هذه الفترة بصيحات الموضة وعروض الأزياء أو وصفات الطبخ ونصائح الحياة الزوجية السعيدة كما هو معهود في المنصات النسائية المصرية. ولذلك راَها البعض خروجًا استثنائيًا على القاعدة الأصلية في البلد الذي نشأت فيه، لكن بنظرة أوسع كان بالإمكان رؤيتها واحدة من قليل، وباتساع هذه النظرة أكثر، أتيحت الفرصة لالتقاط مشروعات تناظر «ولها وجوه أخرى» في بلدان أخرى، ومنها «Cheek Magazine» في فرنسا. وعلى الرغم من أن هذه التجربة نشأت في دولة تتمتع فيها النساء بتمكين في مجالات كثيرة وتدعمهن منظومة تشريعية مناصرة إلى حد كبير، فإن الرسالة تبقى واحدة، والأسلوب يتقارب، والأهداف تطابق، وحتى صور العداء تتشابه.

«Cheek Magazine» هي مجلة إلكترونية فرنسية تقدم محتواها الصحافي بتوجه نسوي، تأسست في أكتوبر من العام 2013، على يد ثلاث صحافيات فرنسيات مستقلات. قمنا بزيارة إلى مقر المجلة الموجود في العاصمة الفرنسية باريس، والتقينا هناك بواحدة من المؤسسات الثلاث وهي فاوستين كوبيجويسكي، وأجرينا معها هذا الحوار لنتعرف أكثر إلى هذه التجربة الباعثة للاهتمام، بالإضافة إلى التحديات التي تواجهها النساء عمومًا والصحافيات خصوصًا في فرنسا.

فاوستين كوبيجويسكي – 37 عامًا – تعمل بالمجال الصحافي منذ سنوات عديدة؛ كانت عضوة بفريق مجلة «Magic» الفنية، ثم انتقلت للعمل بإحدى المجلات النسائية وهي «Be»، حيث التقت بجوليا تيسيير ومريام ليفين، اللتين أصبحتا لاحقًا شريكتيها في تأسيس «Cheek Magazine» التي انطلقت قبل خمس سنوات.

هذه المنصة الفرنسية النسوية تقتصر على العمل الإلكتروني، وبحسب فاوستين فإن فريق التحرير لا يسعى إلى تحويلها إلى مجلة مطبوعة، وذلك إيمانًا منهن بأن الجيل الذي ينتمين إليه يطالع الصحف عبر الإنترنت وليس من خلال المطبوعات. لكنها أخبرتنا أيضًا أن «Cheek Magazine» سبق أن صدر لها مطبوعة وحيدة في العام 2017، بالتعاون مع « Les Inrockuptibles»، وهي مجلة ثقافية فرنسية، بدأ إصدارها في العام 1986.

قبل حوارنا مع فاوستين، تصفحنا الموقع الإلكتروني لــــ «Cheek Magazine» والمتوفر باللغة الفرنسية فقط، للإطلاع على أهدافها والقضايا التي تركز عليها، واستوقفنا بين سطور التعريف بالمجلة، جملة تحدد أحد أهدافها بــ«خلق مجلة نسائية مثالية»، فكانت هي مبعث السؤال الأول في حوارنا مع فاوستين كوبيجويسكي، مؤسسة «Cheek Magazine»، لتـأتي إجابتها بتشديد على أن الهدف الرئيس لمجلتها الإلكترونية هو تقديم صحافة معنية بالمرأة، ولكن ليست تلك التي تركز على الموضة وصيحات الجمال، وإنما صحافة ثقافية واجتماعية بمنظور نسوي.

بتنقلنا بين أبوابها وعدد من منشوراتها التي تتسم بالجرأة سواء في اختيار الموضوعات وتناولها أو في اللغة المستخدمة، بما يجعل هذه المجلة تطبيقًا عمليًا للصحافة النسوية أو الصحافة المناصرة للنساء، التي ما زالت غير منتشرة أو مقبولة سواء من قبل الصحافيين أو الناشرين، وهو الأمر الذي يثني كثير من الصحافيات عن خوض تجربة ستعتريها الصعوبات والمعوقات أكثر من غيرها، وبالتالي يظل عدد المنتجات الإعلامية النسوية محدودًا في شتى أنحاء العالم. لكن فاوستين وشريكتيها لم يعبأن بكل هذا وأقدمن على إطلاق «Cheek Magazine»، لتكون – كما وصفتها فاوستين – الإجابة عن سؤال الصحافة النسوية، ولتكون النقيض للمجلات النسائية التقليدية، التي يبقى هدفها اليومي هو الترويج لمستحضرات التجميل والحقائب النسائية، وعلى الرغم من أن «Cheek Magazine» تعتقد أن الموضة تخبر الأفراد بالكثير عن مجتمعاتهم، لكن فريقها اختار أن تختص المجلة بتقديم محتوى نسوي.

«نحن نريد أن نتحدث عن الموضوعات المحظورة، ونريد أن نُظهِر أجساد النساء التي لم يعتد القراء على رؤيتها في المجلات النسائية، وقبل كل ذلك نريد أن نتحدث عن ما تفعله النساء وليس كيف تبدو النساء، نحن لا نريد أن نخبر قراءنا بما يتعين عليهم ارتداؤه، لذلك قررنا أن نتخلى عن العواميد التقليدية التي تقدم نصائح الموضة،» تقول فاوستين.

تكشف مؤسِسة «Cheek Magazine» عن سبب اَخر جعل فريق المجلة، يتخصص في تقديم صحافة من منظور نسوي، ألا وهو الرغبة في مواجهة الصحافة المعلوماتية التي يهيمن عليها الرجال، ويستأثر بأغلفة مجلاتها الذكور فقط، وتضيف «لذلك، فإننا نعتمد النهج النسوي حتى وإن لم نكن قد استخدمنا كلمة النسوي في البداية.»

ما برح ربط النسوية بالصحافة، واستخدام مصطلح «الصحافة النسوية» مرفوضًا من جانب قطاع من الصحافيين، إذ ينظرون إلى هذا النوع من الصحافة بوصفه صحافة موجهة، لا تعرف المهنية ولا تلتزم بالحيادية، إلا أن هذه النظرة تراها فاوستين قاصرة ورجعية، وتفسر ذلك «نعم، نحن نتحدث عن النساء فقط ونختار موضوعاتنا بمنظور نسوي، لكن هذا يتم برؤية صحافية، لأننا ننفذ مهمتنا كصحافيين نستقصي الحقائق ونحكي القصص الحقيقية، ولا نسعى إلى إثارة ضجة أو صنع دعاية رخيصة.»

تكشف لنا فاوستين أن الدعم والقبول تجاه مجلتها، يتزايد بمرور الوقت «الدعم يتزايد ومجتمعنا النسوي يتسع، ولكن هذا يعني أيضًا أن رد الفعل العنيف يمكن أن يتضاعف، وكلما زاد عدد متابعينا على مواقع التواصل الاجتماعي، حاول عدد أكبر من أصحاب العقليات الذكورية إسكاتنا.»

في مايو من العام 2015، نشرت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية -اليومية، خطابًا مفتوحًا بعنوان «نحن صحافيات سياسيات وضحايا للتمييز الجنسي»، وقعت عليه 40 صحافية من وسائل إعلامية مختلفة. وقد عبرّن في هذه الرسالة عن خيبة أملهن من أن التمييز والعنف الجنسي الذين يمارسهما السياسيون الفرنسيون لم يتراجع إلا قليلًا، حتى بعد النقاش والجدل الذين أفرزتهما واقعة اعتقال دومنيك ستروس المرشح السابق للرئاسة الفرنسية، على خلفية اتهامه بالاعتداء جنسيًا على عاملة بأحد الفنادق.

التمييز الجنسي لا يستهدف الصحافيات المعنيات بالشأن السياسي فحسب في فرنسا. هذا ما تؤكده فاوستين، وتقول «كيف يمكن أن نظن أن شيئًا مختلفًا يحدث، إذا كانت أغلب الصحف مملوكة لأصحاب المليارات من رجال الأعمال والمصرفيين، كما أن التمييز ضد الصحافيات لا يحدث داخل مكاتب العمل فقط، وإنما يلاحقهن خارجها أيضًا، فعلى سبيل المثال تتعرض الصحافيات في أقسام الرياضة للعنف والتمييز من قبل الرياضيين أثناء مقابلاتهم، تمامًا مثلما تتعرض له العاملات بالأقسام السياسية على يد السياسيين أثناء اللقاءات، كما تواجه الصحافيات التمييز ضدهن عبر الشبكات الاجتماعية، لا سيما العاملات بالشبكات التلفزيونية لأنهن أكثر ظهورًا.»

ولم تنس فاوستين أن تؤكد أن الصحافيات في فرنسا يتعرضن للتمييز الذي تعاني منه النساء في المهن الأخرى، المتمثل في عدم المساواة في الأجور، وصعوبة الوصول إلى مناصب قيادية بمهام أكبر.

بحسب الأرقام الرسمية، فإن الرجال في فرنسا يحصلون على أجور أعلى من النساء بمتوسط 9 في المئة، رغم وجود قوانين تقر المساواة في الأجور بين الجنسين منذ نحو 45 عامًا، كما أن 80 في المئة من العمال الذين يحصلون على أجور متدنية في فرنسا هم من النساء.

الواقع الذي تتحدث عنه فاوستين وما تطرحه الموضوعات المنشورة عبر «Cheek Magazine»، يجافي الصورة الوردية التي يرسمها كثيرون في المنطقة العربية لفرنسا، وإن كانت بالقطع أكثر تقدمًا وأشد احترامًا وتمكينًا للنساء إذ ما قورنت بالدول العربية، لكن الهيمنة الأبوية الذكورية ما انفكت حاضرة، خاصة في ظل توفر القنوات الثقافية التي تسمح لها بإعادة إنتاج قوتها من حين لاَخر.

«أعتقد أن الفجوة بين الواقع والصورة المأخوذة عن وضع النساء الفرنسيات، السبب فيها هو الثورة الجنسية التي عرفها المجتمع فيما بين الستينيات والسبعينيات، وحينها اكتسبت النساء حقوقًا كالإجهاض وتوفير وسائل منع الحمل، وكان نضالهن حينذاك وانتصاراتهن واضحة للجميع في أنحاء العالم، وقد تكون هذه الصورة عن النساء المتحررات خاصة فيما يتعلق بالحرية الجنسية، هي الراسخة في الأذهان عن الفرنسيات، وللاَسف تختفي في المقابل أزمات ومشكلات أخرى ما زلن يناضلن من أجل تجاوزها، مثل؛ الفجوة في الأجور، والتحرش الجنسي في الشوارع، إلى جانب أزمة الثقافة المشجعة على الاغتصاب، حيث يقتنع الرجال بأن المرأة تقصد الموافقة، حتى إن أفصحت عن رفضها بـ”لا” تجاه عرض أو طلب جنسي.»

يذكر أن فرنسا أقرت في أغسطس الماضي، قانونًا ضد التحرش الجنسي في الشوارع، يقضي بفرض غرامات مالية فورية على المتحرش تصل قيمتها إلى 750 يورو، وقد طبقت السلطات أول عقوبة بموجب هذا القانون بعد شهر من إقراره، حيث فرضت على رجل فرنسي غرامة بقيمة 300 يورو بالإضافة إلى توقيع عقوبة الحبس لمدة ثلاثة أشهر، بسبب اعتدائه على امرأة بالصفع ووصفها له بـ «العاهرة».

في سياق العنف الجنسي أيضًا، كان مركز أودوكسا الفرنسي لاستطلاع الرأي، قد أصدر دراسة في أكتوبر من العام 2017، أبانت أن 53 في المئة من النساء الفرنسيات تعرضن للتحرش أو الاعتداء الجنسي، مرة واحدة على الأقل في حياتهن. وقد أعلن المركز عن هذه الأرقام، بعد أيام من انطلاق حركة #MeToo أو #أنا_أيضًا من الولايات المتحدة، عقب ما عُرِف عالميًا بــ «فضيحة منتج هوليوود الشهير هارفي وينستين»، الذي اتهمته نساء بالتحرش والاعتداء عليهن جنسيًا في أوقات مختلفة.

ومما لا شك فيه، فإن هذه الحركة امتد أثرها خارج الولايات المتحدة، وحركت الماء الراكد في بلدان أخرى، وشجعت الناجيات حول العالم على كسر حاجز الصمت. لكن عندما سألنا فاوستين عن تأثير #MeToo في فرنسا، لم تأت الإجابة إيجابية كما كنا نظن، مستهلةً إياها بــ «لقد أثارت هذه الحركة عددًا من التساؤلات بشأن البنية الذهنية للمجتمع الفرنسي.»

«بينما كانت الممثلات الشهيرات في هوليوود يساندن الحِراك ويرفعن أصواتهن عاليًا ضد العنف الجنسي، لم تتفوه أي من الممثلات الشهيرات هنا بكلمة في هذا الصدد، كما لو كان مجال صناعة الأفلام في فرنسا لا يعاني من المشكلة نفسها، بل إن الأسوأ من ذلك جاء مع ما فعلته الممثلة الفرنسية الشهيرة كاثرين دونوف ومعها مجموعة من النساء، عندما وقعن على خطاب نشرته جريدة لوموند الفرنسية، يعلن فيه معارضتهن ورفضهن لـ#MeToo، وقد كان هذا الموقف معبرًا للغاية عن مدى تجذر قبول العنف الجنسي ضد النساء في ثقافة مجتمعنا،» توضح فاوستين.

لكن بارقة أمل تشير إليها فاوستين مع هؤلاء النسوة – غير المعروفات – اللاتي رفعن أصواتهن محتجات على الوضع القائم في فرنسا، وتقول «أعتقد أن #MeToo  بأهدافها وجدت طريقها إلى عقولهن من دون حاجة إلى مساعدة من الشخصيات المعروفة.»

في القسم الأخير من حوارنا، حاولنا التعرف إلى «Cheek Magazine» من الداخل، فسألنا فاوستين عن القوالب الصحافية التي تفضل المجلة معالجة موضوعاتها من خلالها.

«نحن نولي اهتمامًا إلى التحقيقات، لأننا نفضل قول الحقائق والنقاش مع الخبراء بشأن ما تخبرنا به هذه الحقائق عن مجتمعنا وعن السبل المتاحة لتغيير الأشياء، كما نقدم حوارات كثيرة مع نساء نتيح لهن مساحة ليكن مسموعات، ونوفر أعمدة للنساء لكتابة مقالات رأي تعبر عنهن، فضلًا عن ذلك، فإن محتوى المجلة لا يقتصر على المكتوب فحسب، فنحن نقدم حلقات صوتية من خلال سلسلة “Flux”، التي يحاور من خلالها فريق المجلة ضيفًا أو ضيفة في كل حلقة. علاوة على ذلك، ننظم فعاليات تحت عنوان “Cheek Club”، ونقيم من خلالها مؤتمرات وعروض وحفلات موسيقية، ونروج لمفكرين وفنانين وكتاب نحن نؤمن بهم.»

عند الحديث عن السياسة التحريرية للمجلة، أوضحت فاوستين أنها لا تنص على محاذير أو تحظر تناول موضوعات محددة، إلا أنها وفريق العمل يحرصن بشدة في التعامل مع قضايا مثل الحجاب والجنس التجاري، وتبرر ذلك «لأن الموضوعين يؤديان إلى نقاشات ساخنة في فرنسا، وطالما كان المجتمع النسوي منقسمًا بشأنهما، وعندما يطرحهما الإعلام للنقاش فإنه عادةً ما يستخدم لهجة تستهدف الإثارة، بينما نحن نسعى إلى التعامل مع القضيتين بطريقة تحترم هؤلاء المعنيات بهما، ولذلك نُفضّل في مثل هذه القضايا أن نعتمد إما على الشهادات أو مقالات الرأي.»

قبل لملمة الأوراق وإنهاء الحوار، سألنا فاوستين عن ما تحقق لها على المستوى الشخصي بفضل «Cheek Magazine» وتعتقده النجاح الأكبر لها منذ أن أسستها وحتى الاَن، فكانت الإجابة ناضحة بالاعتزاز والفخر بالتجربة «على المستوى الشخصي، أنا سعيدة للغاية بكل ما تعلمته منذ إطلاق المجلة، وسعيدة بتحول نسويتي التي كانت غريزية إلى حد كبير في البداية إلى نسوية منظمة ومرتبة ولها سند أكاديمي. في حقيقة الأمر، أنا فخورة جدًا لأنني انفتحت على قضايا لم أكن على دراية بها، مثل النسوية التقاطعية والخزي الجسدي (الخزي والبدانة)، ولأنني أصبحت نسوية أكثر شمولية.»