على كف عفريت: في مجتمعنا العربي.. استباحة أجساد النساء ثمن بخس في مقابل «الاستقرار»
يبدو أن الجرائم ليست مجرد حوادث عابرة تمر أمام عيون المخرجة التونسية كوثر بن هنية دون توقف وتدبر، خاصة عندما ترتبط هذه الجرائم بالنساء، فهي تراها بعين نسوية ثاقبة فتقدم من خلالها قراءة فنية وسينمائية كاشفة وفاحصة لنظرة المجتمع التونسي للمرأة، وهو ما تثبته منتجاتها السينمائية بداية من فيلمها الطويل الأول “شلاط تونس” وهو تسجيلي خيالي من إنتاج العام 2013، استلهمت أحداثه من وقائع حقيقية تعود إلى العام 2003، بطلها شخص مجهول كان يجوب شوارع تونس على دراجة نارية ليخدش أرداف النساء بشفرة أو آلة حادة كعقاب لهن بسبب ملابسهن “المثيرة”، وخلال رحلة البحث عن ذلك الــ”شلاط”، ترصد بن هنية قصصًا أخرى فرعية محورها أجساد النساء والسلطة الذكورية التي تسعى دائمًا إلى إخضاع هذه الأجساد وامتلاكها وانتزاع حق صاحباتها فيها.
الفيلم الثالث في مسيرة كوثر بن هنية السينمائية هو “على كف عفريت” صدر في العام 2017 أي بعد عام من إنتاج فيلمها الثاني “زينب تكره الثلج”، وقد قوبل بإشادة نقدية واسعة عربيًا وعالميًا بعد عرضه في قسم “نظرة ما” في مهرجان كان السينمائي في اَخر دوراته التي انعقدت في مايو الماضي، كما حصد الفيلم جائزة لجنة التحكيم الخاصة للدورة الــ17 من مهرجان السينما المتوسطية ببروكسيل، كما حصلت الممثلة مريم الفرجاني على جائزة أفضل ممثلة في الدورة الثانية لجوائز النقاد السنوية التي ينظمها مركز السينما العربية، ويضاف إلى نجاحات الفيلم اختياره لتمثيل تونس في النسخة المقبلة لمسابقات الأوسكار، ضمن الأفلام المرشحة لفئة أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية.
استلهمت بن هنية قصة “على كف عفريت” أو “الجميلة والكلاب” كما اختارت أن تكون ترجمته، من حادثة حقيقية تعود إلى العام 2012، عندما تعرضت طالبة جامعية للاغتصاب على يد رجلي أمن، وتدور أحداث الفيلم في يوم واحد حول مريم وتؤدي دورها مريم الفرجاني وهي طالبة تدرس بالجامعة في تونس العاصمة، تذهب مع أصدقائها إلى حفل ساهر، وخلاله تلتقي بشاب يدعى يوسف تقرر الخروج معه من صالة الحفل وقضاء بعض الوقت بمفردهما، إلا أن دورية شرطة تقل ثلاثة من أفراد الأمن تتربص بهما، ويبتز أحدهم يوسف ليبعده عنها، بينما يتناوب الاَخران على اغتصابها داخل سيارة الشرطة.
تبدأ مريم رحلة البحث عن سبيل لإثبات الجريمة واستعادة حقها بمعاونة صديقها في ليلة طويلة، تتلاحق العقبات في طريقها لتقديم شكوى والحصول على تقرير طبي يثبت وقوع الاغتصاب، بل وتواجه تهمة المجاهرة بما يخدش الحياء العام، لأنها كانت برفقة شاب لا تربطها به صلة في وضع “حميم” لتتحول من مجني عليه إلى جاني.
وكانت الناجية الحقيقية التي نسبت إلى نفسها اسمًا مستعارًا وهو مريم بن محمد، قد وثقت تجربتها الأليمة في كتاب بعنوان “مذنبة بأنني اغتُصبت” صدر باللغة الفرنسية في العام 2013، وهو المصدر الرئيس الذي اعتمدت عليه المخرجة التونسية في بناء وصياغة سيناريو فيلمها. وتجدر الإشارة إلى أن بن هنية هي مؤلفة الأفلام الثلاث الطويلة التي أخرجتها.
الاغتصاب هو أبشع جريمة تندرج ضمن أشكال العنف ضد المرأة، خاصة في مجتمعاتنا العربية الأبوية التي دائمًا ما تُلقي بالمسؤولية على النساء وتحولهن إلى متهمات بدلًا من ناجيات يتعرضن لانتهاكات يومية. وتشهد تونس أزمة كبرى في ظل ارتفاع معدلات جرائم الاغتصاب خلال السنوات الأخيرة، وبحسب إحصائيات حديثة أعلنتها وزارة العدل التونسية في فبراير من العام 2018، فقد بلغ عدد القضايا التي تم فصلها في جرائم الاغتصاب خلال السنة القضائية 2015-2016، نحو 101 قضية اغتصاب أي بمعدل 8.4 قضية شهريًا. وقد تراوحت الأحكام في هذه القضايا ما بين السجن المؤبد والإعدام علمًا بأن الناجين من الجنسين.
جدير بالذكر أن الفقرة الأولى في الفصل 227 من المجلة الجزائية التونسية تنص على “يُعاقَب بالإعدام كل من واقع أنثى غصبًا، باستعمال العنف أو السلاح أو التهديد به.”
ومن المؤكد أن الظروف السياسية التى تمر بها تونس بعد ثورة الياسمين التي اندلعت في الرابع عشر من يناير في العام 2011، لعبت دورًا مهمًا في خروج هذا الفيلم للنور، وهو ما أكدته المخرجة والبطلة على حد سواء، حيث اتفقتا على أن الفيلم لم يكن ليُعرَض في عهد الرئيس المطاح به زين العابدين بن علي، الذى كان من المستحيل انتقاد المؤسسة الأمنية خلال فترة حكمه أو الكشف عن جرائمها بحق أفراد الشعب.
اعتمدت المخرجة في تصوير الفيلم على تقنية اللقطة الطويلة ليُصبح الفيلم مكوّنًا من تسعة مشاهد، كل واحد منها بمثابة فصل في القصة، وهو ما يتطلب تركيزًا ومجهودًا كبيرين من صناع العمل سواء خلف الكاميرا أو أمامها.
وبشأن الحضور النسائي خلف الشاشة، فإلى جانب دور كوثر بن الهنية كتابة وإخراجًا، يبرز اسم نادية بن رشيد مونتيرة الفيلم التي أجادت في الانتقال بسلاسة وتشويق بين فصول الفيلم بما منحه حسًا واقعيًا، بالإضافة إلى اسم مصممة الملابس نادية قريبع التي تميزت في اختيار فستان البطلة الأنثوى المناسب للأجواء والذي كان له دلالته ورمزيته، خاصة بعد أن تحول في إحدى مراحل الفيلم كدليل اتهام ضد الفتاة، يستخدمه الاَخرون كمبرر لوقوع الجريمة ودليل اتهام ضدها، كما يأتي اسم الكوافيرة هاجر بو حرانة.
على الرغم من أن الفيلم محور أحداثه هو جريمة الاغتصاب، فقد خلا من المشهد الذي يجسد الجريمة، وقد يحسب ذلك للمخرجة باعتباره خيارًا ذكيًا، إذ أبعدت نفسها عن الطريقة التقليدية والنمطية التي يقع فيها المخرجين في تصوير مثل هذه الحوادث على الشاشة، وفى الوقت ذاته فقد كثفت تركيزها على ما حدث بعد الحادثة، حيث المعاناة التي تخوض غمارها البطلة من أجل تقديم الشكوى ضد هؤلاء الذين ينتمون إلى جهاز سيادي مهم كالشرطة.
وقد نجحت المخرجة في تجسيد مدى بشاعة الجريمة وتأثيراتها من خلال التركيز على انفعالات مريم وملامح وجهها ولغة جسدها التي تغيرت تمامًا في الفصل الثاني من الفيلم، لتصبح خطواتها مهزوزة تعكس حالتها النفسية المأزومة على خلفية الجريمة الوحشية التي ارتكبها بحقها من يُناط بهم حمايتها في هذا البلد. غابت إشراقة وجه مريم واختفت ضحكتها المنطلقة وتعثرت مشيتها، لتظهر كشخصية أخرى تركض في حالة رعب وتتعثر خُطاها بينما تحاول الهروب، فتسقط على الأرض وتدوي صرخاتها بمجرد سماع صافرة إنذار سيارة شرطة ورؤيتها تمر بجانبها في الشارع نفسه.
المغالاة في تنزيه الذكر “الثائر”
يسيطر يوسف ويؤدي دوره الممثل غانم الزرلي على مسار الأحداث وتصاعدها خاصة في القسم الأول منه. وتثيرة علاقته بمريم الاستنكار لما تتسم به من نمطية ترسخ للتبعية والاعتمادية، فهو من يرفض استسلامها ويقاوم رغبتها في الرضا بالأمر الواقع مع تنامي الخوف داخلها في ظل تتابع المعوقات، ويرفض حتى سماعها تقول “الله يسامحهم”.
ويقوي هذا التصور الشكل الذي أرادت المخرجة أن تُظهِر عليه شخصية يوسف كثائر يقود تحركات مريم من أجل فضح النظام وانتهاكاته بحق مواطنيه؛ فهو الشاب الذي يتذكر الشرطي أنه التقاه أثناء اعتصام القصبة خلال الثورة ولذلك يكرهه، وهو صوت الضمير الذي يبث في أذني مريم شعارات الحق والعدالة والمساواة، وهو الباحث عن الحق والمحارب من أجله بعض النظر عن ما إذا كان هذا الحق يخص المرأة أو الرجل، وكل ذلك يصب باتجاه خلق تصور ملائكي عن الشاب الثائر، عمدت المخرجة إلى التصديق عليه طوال الفيلم.
المرأة عدوة أيضًا
نجحت كوثر بن هنية في أن تعكس لنا أن نصف معاناة مريم في رحلة بحثها عن حقها كان وراءها ثلاث نساء، رغم أن جميعهن يشغلن وظائف خدمية ورسمية تستلزم القيام بواجبهن المهني وتطبيق القانون، ومع ذلك فإن نظرتهن المجتمعية ومعتقداتهن وانحيازتهن الشخصية كانت هي المحرك في عرقلة مريم والحيلولة دون إثبات الجريمة.
وخلال ثلاث مشاهد يتضح الانتهاك المعنوي الذي تعرضت له مريم بعد جريمة الاغتصاب، فالسيدات الثلاث ينظرن إليها، وكأنها عاملة بالجنس التجاري وما لأمثالها من الحق في أن يتقدمن بشكوى.
يبدأ المشهد الأول بين الثلاثة، برفض الممرضة الأربعينية في المستشفى الخاص السماح لمريم بمقابلة الطبيب والحصول على شهادة طبيبة تثبت تعرضها للاغتصاب، لأنها لا تملك أوراق هوية، بينما يؤكد لها يوسف أكثر من مرة أنها فقدتها في سيارة المغتصبين، لينتهي المشهد بالممرضة تنهرهما مشككةً في رواية مريم، من منطلق نظرة تراها مذنبة جاءت لتحصل على شهادة طبية، بهدف تلفيق القضية لشخص ما. بدت الممرضة امرأة بعقلية ذكورية تنحاز إلى المجتمع الأبوي بأفكاره وتسعى إلى حمايتها ربما أكثر من الذكور أنفسهم.
أما المشهد الثانى فتتصدره ممرضة في مستشفى حكومي، ترتدي الحجاب وتبدو عليها إمارات التحفظ، حيث تتفحص فستان مريم باستنكار ونظراتها تكشف عن قناعة شخصية بأن ما حدث لمريم مبرر بسبب ملابسها، بما يعيد إلى الأذهان بعض العبارات التي تكررت على المسامح في مصر مع ارتفاع وتيرة وقائع التحرش والاغتصاب: ايه اللى وداها هناك؟ وهي كانت لابسة ايه؟
تندهش هذه الممرضة بطلب مريم الحصول على شهادة طبية لتقديم شكوى قانونية ضد مغتصبيها، وكأن الطبيعي أن تتعرض الفتاة للاغتصاب وتلتزم الصمت لأنها المسؤولة أولًا وأخيرًا.
“عاهرة” بهذه الكلمة نعتت ضابطة الشرطة الحامل وتؤدي دورها الممثلة أنيسة داود البطلة، وتجسد هذه السيدة رؤية المجتمع للفتاة المغتصبة الذي لا يراها ناجية من جريمة بشعة بل يُصدق في كونها مذنبة، سواء بسبب لباسها أو خروجها مع صديقها في وقت متأخر في مجتمع محافظ. وعندما يخرج هذا الوصف من أحد الأفراد العاملين بالجهاز الأمني المُخول له حماية المواطنين، فإن هذا التوجه يعكس رؤية مؤسسية تتعامل مع أجساد النساء باعتبارها مباحة ومستباحة ويحق للرجال العبث بها، وإن فعلوا فسيحظون بالحماية الكاملة.
نحن “الدولة” لا نغتصب
نجحت المخرجة في تصوير الحالة السيئة لأماكن الاحتجاز وإبراز عدم جاهزيتها لاستقبال الناجيات من العنف بما لا يراعي الوضع النفسي والسلامة الجسدية لهن، كما سلطت الضوء على العنف الذي تتعرض له الفتاة على يد المحققين بقسم الشرطة وطريقة الاستجواب المُهينة، بداية من السخرية من حديثها والإصرار على نفي الاتهام عن رجال الشرطة للحفاظ على سمعة الجهاز، وصولًا إلى تحميلها مسؤولية ما حدث لها بسبب فستانها “العاري”. وقد وجاءت زوايا التصوير والكادرات المختارة مُعبِّرة عن حالة السيطرة والهيمنة التي يمارسها الضابط على مريم، سواء من خلال حركته الدائرية حولها ثم جلوسه فوق المكتب، بينما تتكوم بجسدها الصغير في الكرسي، لتُظهِرَ زاوية الكاميرا حالة التسلط والقهر التي تحيط بالفتاة.
تضمن الفيلم مشهدين جاء تصويرهما بصريًا بطريقة نسوية وعبرا عن معاناة الناجية في أماكن الاحتجاز والكشف؛ وأولهما هو مشهد فحص الطبيب الشرعي لها وهو المشهد الذي أثار الكثير من الجدل وخرجت مطالبات بحذفه من الفيلم بزعم أنه “مثير جنسيًا” و”خادش للحياء”، على الرغم من أنه كان واقعيًا في تفاصيله وكاشفًا لما يحدث بالفعل للناجيات، وقد اختارت المخرجة أن تصوره من زاويتين إحداهما واسعة تكشف معاناة الناجيات عند الخضوع للكشف الطبي، في ظل افتقاد أماكن الكشف للتجهيز المراعي لخصوصية الناجيات وغياب الطبيبات وقيام طبيب بالفحص، والزاوية الأخرى كانت قريبة من وجه الفتاة، توضح الاَلم النفسي والرهبة من خلال الانفعالات والدموع التي غمرت عينيها.
أما المشهد الثاني فهو مشهد استجواب البطلة من جانب ضابطة الشرطة في القسم، عندما طلبت منها خلع سروالها الداخلي حتى ترفقه ضمن محضر التحقيق، وهو مشهد يزيد التأكيد على عدم إعداد المحققين للتعامل مع الناجيات، حيث أظهرت الضابطة جمودًا وصلابة فضلًا عن استهتار بمشاعر الناجية.
البلاد على كف عفريت وأنت تحب تشكي؟
فى ختام الفيلم في الفصل التاسع، يصرخ الضابط في وجه مريم بهذه الكلمات، بما يعكس علاقة السلطة بحقوق النساء والقناعة الراسخة لدى منفذي القانون بأن انتهاك أجساد النساء “عادي” ويجب عليهن أن يصمتن عنه من أجل الحفاظ على استقرار الدولة، كما تنجلي مقبولية المساومة على حقوق النساء دائمًا من الجميع، حتى إن كانت سلطة أو قوى مدنية تدعي إيمانها بحقوق النساء، وهي في حقيقة الأمر لا ترى هذه الحقوق إلا على الهامش.
وسطعت شمس النهار بعد ليل طويل
ينتهي الفيلم بخروج مريم من مكان الاحتجاز بعد أن رفضت التنازل عن المحضر رغم التهديد والمساومة، فتفتح الباب بقوة وقد عادت خطواتها إلى الانتظام، وبعد أن كانت تستخدم قطعة قماش بيضاء لتغطي بها شعرها والجزء العلوي من جسدها أثناء تنقلها بين غرفة التحقيق والكشف الطبي، لتحمي نفسها من العيون الناظرة إليها بريبة واتهام، ربطتها حول عنقها كما لو كانت ملابس المرأة الخارق (Super Women) لتخرج إلى النور بعد ليلة ظلماء، وهي تنظر حولها في تحدٍ بدلًا عن الخوف الذي تملك نظراتها للمكان نفسه في الليلة السابقة.