مرت مقاومة التحرش الجنسي في مصر بمراحل عديدة، يمكن تتبعها منذ منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، عندما قاد عدد من منظمات المجتمع المدني حملة تطالب بتجريمه وقوبل الأمر بتجاهل على المستويين الشعبي والرسمي، وسببه حالة إنكار للظاهرة وقناعة بأن الوقائع الجماعية الشهيرة كالتي وقعت في إستاد القاهرة خلال بطولة كأس الأمم الإفريقية في العام 2006 أو في منطقة وسط البلد خلال عيد الفطر في العام نفسه، ما هي إلا استثناءات وخروج محدود عن القاعدة.

خلال تلك المرحلة، تحولت واحدة من الحوادث الفردية إلى قضية رأي عام وذلك نتيجة اتخاذ صاحبة الشأن وهي مخرجة الأفلام الوثائقية نهى رشدي موقفًا ضد المتحرش، إذ تمسكت بالمسار القانوني حتى صدر حكم ضده، ومع ذلك فقد تعامل الإعلام وقطاع واسع من عموم الناس بالمنطق – المستمر حتى الاَن  -القائل إنها المسؤولة عن ما تعرضت له وفضحت نفسها بالإعلان عما حدث بينما الأكرم لها كان التزام الصمت عن ما حدث.

بعد العام 2011 ومع ارتفاع وتيرة حوادث التحرش الجنسي الجماعي في ضوء ما شهدته مصر من مظاهرات وتجمعات سياسية في أرجاء مختلفة، بات الاعتراف بانتشار الظاهرة حتميًا وتلاشى عدم الاعتراف بشيوعها، لكن ظل تحميل الناجيات مسؤولية ما يتعرضن له هو السبيل للحفاظ على الهيمنة الذكورية.

وبحسب دراسة أجرتها مؤسسة جسر لأبحاث المسوح (صدرت في 2017)، فإن 71 في المئة من المصريين يعتبرون أن الفتاة هي المسؤولة عن تعرضها للتحرش الجنسي بسبب ملابسها.

الكاميرا في مواجهة التحرش

مؤخرًا ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تسجيل وتوثيق وقائع التحرش وأضحت سلاحًا بيد الفتيات والسيدات لفضح المتحرشين، لكن مع كل مرة ينتشر فيها مقطع من هذا النوع يتجدد الخلاف بين أطراف تستميت لتبرير وقوع الفعل وتحمل النساء مسؤولية وقوعه عليهن، وأطراف أخرى تبحث عن محاسبة على الأقل مجتمعية لمرتكبي الجرم، وهذا ما تكرر بعد أن نشرت فتاة قبل أيام قليلة مقطعًا مصورًا عنونته بــ«في التجمع وبيحصل كده!!»، توثق من خلاله ملاحقتها من قبل شاب يدعوها إلى شرب القهوة في أحد المقاهي القريبة في منطقة التجمع الخامس، ومن بعده نشرت مقطعًا اَخر لشخص يتعقبها بسيارته ومن ثم يتوجه إليها ويتحرش بها لفظيًا.

حاز المقطع الأول عقب نشره على ما يزيد عن 500 ألف مشاهدة خلال ساعات، وتباينت ردود الأفعال كالعادة ما بين مؤيد لكون الشاب متحرشًا يستحق الفضح عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهو أسلوب باتت الفتيات يستخدمنه خلال السنوات السبع الأخيرة كوسيلة لدرع المتحرشين، بينما رأى البعض الاَخر أن الشاب لم يرتكب فعل التحرش وأن الأمر لم يتعد كونه عرض مواعدة بلياقة، خاصة أنه اعتذر لها بعد أن رفضت التحدث إليه. في المقابل اقتحم اَخرون حسابها الشخصي وشرعوا في تداول صورها الشخصية والإساءة إليها، مدعين أن ملابسها تستدعي تعرضها لأي مضايقة من أي نوع ولا يحق لها اتخاذ أي رد فعل.

من جانبها، تقول جيهان أبو زيد رئيسة مجلس أمناء مؤسسة سالمة لتنمية النساء، إن التفاصيل التي سردتها منى جبران صاحبة المقطع بشأن ملاحقة ذلك الشاب لها قبل تصويرها له وهو يعرض عليها الجلوس سويًا لاحتساء القهوة، تؤكد أن ما فعله هو تحرش صريح.

انتبهن: نحن نرجع بقوة إلى الخلف

يعتقد البعض أن الواقعة بما صاحبها من زخم كشفت أن التعامل مع التحرش الجنسي لا يتقدم بل يرتد إلى الوراء، فلم يعد الأمر متوقفًا عند حد إلقاء اللوم على الناجيات بسبب الملابس، وإنما بات جانب من مدعي التحرر يلومون على الفتاة أنها حولت عرض المواعدة «المهذب» إلى تحرش بما يمثل افتراءً على الشاب، والأكثر سوءًا هو استغلال الحادثة في الترويج للمقاهي الموجودة في منطقة التجمع الخامس وخاصة المقهى الذي جاء ذكر اسمه على لسان المتحرش في المقطع.

لا تعتقد جيهان أبوزيد أن ردود الأفعال هذه تعني أن الجهود النسوية في مواجهة التحرش الجنسي ذهبت هباءً، مؤكدةً أن المشكلة ترجع إلى أن أغلب هذه الجهود كانت تبذلها منظمات المجتمع المدني وليس الأجهزة والمؤسسات الرسمية التي باستطاعتها أن تُحدث تأثيرًا أكبر، مستشهدةً بحملة تنظيم الأسرة التي أطلقتها الحكومة قبل سنوات وتمكنت من خلالها أن تصل إلى قطاعات مختلفة في المجتمع المصري، أما التحرش فمشكلته في رأي أبو زيد أن الأجهزة الرسمية لا تعتبره أزمة تحتاج إلى مواجهة بنفس الأساليب.

وفي السياق ذاته، تؤكد نيرة حشمت العضوة المؤسسة بمجموعة براح اَمن، أن جهود الحركة النسوية لم تذهب جفاءً، خاصةً أن أحد أهم أهداف معركة النسويات كان إصدار قانون يجرم التحرش الجنسي وهو ما تحقق بالفعل في العام 2014، عندما أصدر رئيس الجمهورية وقتذاك قرارًا بإدخال تعديلات على قانون العقوبات ونصت المادة 306 مكررا (أ) على: يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من تعرض للغير فى مكان عام أو خاص أو مطروق بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية سواء بالإشارة أو بالقول أو بالفعل بأي وسيلة بما في ذلك وسائل الاتصالات السلكية أو اللاسلكية. وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن خمسة ألاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا تكرر الفعل من الجانى من خلال الملاحقة والتتبع للمجنى عليه، وفى حالة العود تضاعف عقوبتا الحبس والغرامة فـي حديهما الأدنى والأقصى.

وفي رأي حشمت فإن ردود الأفعال تجاه الواقعة كشفت أن تعامل المجتمع مع ظاهرة التحرش الجنسي لم يتغير كثيرًا، مشيرةً إلى أن التغيير الذي أحدثته وقائع التحرش الجنسي الجماعي في أعقاب يناير 2011 يتمثل في خروج النساء إلى وسائل الإعلام المختلفة ورواية ما يتعرضن له، وهو ما فرض استخدام مصطلح التحرش توصيفًا لمثل هذه الانتهاكات بعد أن كانت الوصف يقتصر على المعاكسة، وترجع حشمت الفضل في ذلك إلى المجموعات النسوية التي ظهرت حينذاك.

وكانت 10 منظمات ومجموعات نسوية وحقوقية قد أصدرت بيانًا مشتركًا يوم الثلاثاء الماضي (الموافق 21 أغسطس الجاري)، أعلنت فيه تضامنها الكامل مع صاحبة المقطع، مؤكدةً أن ما أظهره الفيديو هو تحرش جنسي مكتمل الأركان ولا لبس في توصيفه على هذا النحو.

ومن بين أبرز الجهات الموقعة على البيان: مركز تدوين لأبحاث النوع الاجتماعي، ومؤسسة المرأة الجديدة، ومؤسسة قضايا المرأة، ومبادرة المحاميات المصريات، ومركز المرأة للإرشاد والتوعية القانونية، ومركز القاهرة للتنمية والقانون، ومركز هردو لدعم التعبير الرقمي، ومبادرة الحب ثقافة، ومؤسسة سالمة لتنمية النساء.

عن دفاع بعض النساء عن المتحرشين، وهو ما حدث في هذه الواقعة، تقول جيهان أبو زيد رئيسة مجلس أمناء مؤسسة سالمة لتنمية النساء، إن هذه الظاهرة يمكن تفسيرها من خلال نظرية شهيرة في علم النفس  تقول «كلما زاد القهر وقسوته، فإن المقهور يتبني فلسفة قاهره»، بينما تعتقد نيرة حشمت العضوة بمجموعة براح اَمن، أن السبب في ذلك هو تربية المجتمع لهؤلاء النسوة وفق المنظومة الذكورية، ومن ثم دفاعهن أو تبريرهن  لهذه المواقف هو جزء من الدفاع عن النفس لكي يتواجدن في قلب المنظومة.

ومن الناحية القانونية، تقول المحامية جواهر الطاهر والعضوة بمؤسسة قضايا المرأة المصرية، إن الواقعة التي نقلتها الفتاة من خلال المقطع المصور الذي نشرته عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وفيه يظهر الشاب وهو يدعوها لاحتساء القهوة معه في أحد المقاهي، لا تعتبر بموجب مواد قانون العقوبات تحرشًا جنسيًا. أما الواقعة التي وثقتها في المقطع الثاني وفيه يظهر شاب اَخر داخل سيارة يدعوها لاستقلال السيارة معه من أجل توصيلها إلى حيث تريد ثم ينزل ويتوجه إليها ليسألها عن شارع وهمي، فتؤكد الطاهر أنها بحسب ما جاء في القانون توصف باعتبارها تحرشًا لفظيًا.

إلى متى يظل المتحرش في أمان؟

التشهير بالمتحرش مسألة أثارت الجدل وهذه ليست المرة الأولى التي يثار فيها مثل هذا الجدل، وترى حشمت أن سلبية المواطنين في الشارع تجاه حوادث التحرش يقابلها رد فعل من الفتيات أنفسهن المتعرضات للجرم، سواء بمواجهة العنف بعنف أو تصوير المجرم لرصد الفعل، وتقول «المشكلة أن تصوير المتحرش قد يفقد الفتاة حقوقها القانونية، وهو أمر مُستغرَب فهل تصوير السارق أثناء جريمته ينفي وقوع الجريمة أو يعتبر تشهيرًا به؟!»، وتؤكد حشمت أن وجود آليات واضحة وسهلة لتطبيق وإنفاذ القانون ستمنع أي ممارسات قد يرفضها البعض أو يرى فيها تشهيرًا.

من ناحية أخرى تنتقد جيهان أبوزيد رئيسة مجلس أمناء مؤسسة سالمة لتنمية النساء التعامل الإعلامي مع الواقعة الذي يكاد يكون احتفاء بالمتحرش على حد وصفها.

وفي هذا السياق، يقول الكاتب الصحافي والمدرب الإعلامي محمد الهواري إن مواقع التواصل الاجتماعي تشهد حالة أشبه بالسعار وأحكام الأفراد تتأرجح ما بين التأييد المطلق أو الرفض المطلق، وهو ما أصبح ينطبق أيضًا على تناول الإعلام للقضايا المختلفة فانحرف إلى التوجيه إلى مواقف بعينها.

وحول استغلال الواقعة في الترويج لبعض المقاهي أو المطاعم في منطقة التجمع الخامس، يصف الهواري ذلك بأنه جزء من ثقافة جديدة في مصر،  إذ يستغل العاملون في مجالي الدعاية والتسويق ما يعرف بـــ«التريند» للترويج إلى منتجاتهم، بغض النظر عن تفاصيل الواقعة وتأثيرها واَثارها، وذلك فقط بهدف إشباع رغبة الاستهلاك لدى الجمهور دون النظر في مسألة القيم والمعايير.