إن كنتم داخل قاعة عرض سينمائي، أو أمام شاشة التلفاز، تشاهدون أحد الأفلام المصرية، الذي تظهر إحدى شخصياته النسائية وقد فقدت عذريتها، سواء عن رضا عبر علاقة اختيارية أو انتهاكًا عبر اغتصاب، فلا بد أنكم توقعتم نهاية من اثنتين لمصيرها، وهما على الأرجح ما تنتهي إليهما الأفلام التي تتناول هذه القضية؛ إما الموت قتلًا على يد الأوصياء، أو العزلة والعيش وحيدةً بعد أن لفظها المجتمع، وإن كنتم من المتفائلين بشدة، فربما ظننتم أن النهاية ستكون شبكة دعم تشكلت حولها. غلبة النهاية الأولى تحديدًا، ليست بسبب تفضيل مخرج أو كاتب فحسب، وإنما لأنها ما يفضله المجتمع، الذي يكشر عن أنيابه، كلما رفضت امرأة من نسائه وصايته على جسدها، أو حتى في حالات أولئك اللاتي اخترن الانصياع للوصاية، فلا يقف المجتمع في صفهن، عندما ينتهك رجالاته أجسادهن.

رغم مظاهر الحداثة التي تبدو عليها مصر منذ عقود، والصورة المنفتحة التي صدّرتها أفلام سينمائية كثيرة، لا سيما فيما يتعلق بالمظهر الخارجي للنساء وانخراطهن في الحياة العامة، فإن ذلك لم ينف أبدًا سطوة عذرية المرأة على مفاهيم العفة والشرف في المجتمع المصري، وقدمت السينما نصوصًا تبرز تلك الإشكالية، وكثير من هذه المنتجات السينمائية، كان بمثابة احتجاج على ملازمة القتل كرد فعل مقبول مجتمعيًا تجاه فقدان العذرية، وكونه تعضيدًا وترسيخًا لتقديسها.

دعاء الكروان: دائرة مفرغة.. عذرية مقدسة وذكورية متوحشة

فيلم «دعاء الكروان» من إنتاج 1959، ومأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للأديب الكبير «طه حسين» صدرت في العام 1934، وهو واحد من أوائل الأفلام التي تناولت بجرأة فكرة الشرف كمفهوم مجتمعي يقابله عذرية الأنثى، التي إن فرَّطت فيها يتوجب حينها قتلها، لأنها بذلك ضيعت شرفها وشرف أسرتها وعائلتها وقريتها، وشرف الرجال أجمعين، وتمثل شخصية «هنادي» التي تؤدي دورها «زهرة العلا»، نموذجًا للإناث اللاتي تُدهَس أرواحهن تحت رحى الذكورية التي تختزل المرأة في «فرج».

عقاب «هنادي» بالقتل وإبرازها كضحية، استغلها «مهندس الري» الذي يؤدي دوره «أحمد مظهر»، لم يكن نافيًا لفكرة وقوعها في «الخطيئة»، فلم يتسامح معها أحد حتى نفسها، وعندما واجهت «اَمنة» وتؤدي دورها «فاتن حمامة»، المهندس بأنها شقيقة المغدور بها، استخدمت تعبير «العرض»، لوصف العلاقة الجنسية التي جمعته بـ«هنادي»، قائلةً «هنادي خدامة، حياتها رخيصة وعرضها مالوش تمن.»

الفيلم وفي الأصل الرواية، يقدمان من خلال ثلاثة شخصيات نسائية رئيسة، مواجهة النساء لمجتمع ذكوري يحترف قمعهن، بداية من سوء أخلاق الأب، الذي كان سببًا في قتله، ومن ثم طرد الأم التي تؤدي دورها «أمينة رزق» وابنتيها «اَمنة» و«هنادي» من القرية، ثم خدمة الفتاتين في المنازل لتوفير قوت اليوم. تتعرض «هنادي» للاستغلال جسديًا وجنسيًا على يد المخدوم وهو «مهندس الري»، ثم يتبين أن هذا النوع من الاستغلال للعاملات في منازل «العزاب» أمر شائع، وهو ما يكشفه الحوار الذي يدور «المهندس» وبين حكيم الصحة، إذ يقول الأخير له «شكرًا على الهدية.. سكينة» في إشارة للعاملة في منزله بعد «هنادي».

عالج فيلم المخرج «هنري بركات» جريمة الشرف، كاشفًا مدى توحش الذكورية، فالقتل يتبعه استسلام الأم لجريمة أخيها بحق ابنتها ورضوخها التام لتجبره، خوفًا من خسارة ابنتها الأخرى على يد رجل يسهل عليه القتل، في مجتمع يكفل له هذا كحق ذكوري، لينتهي بها الحال مجذوبةً، تسير هائمة على وجهها، تبحث عن ابنتيها اللتين فقدتهما، الأولى مقتولة والثانية هاربة للانتقام لشقيقتها، ولا يتوانى الخال عن الإقدام على ارتكاب الجريمة نفسها بحق «اَمنة» أيضًا، بسبب شكوكه بشأن علاقتها بـ«المهندس» بعد أن ذهبت للعمل في بيته عقب هروبها، لتبقى عذرية المرأة هي سبب اكتسابها حق الحياة، وهي أيضًا سبب نزع هذا الحق عنها، لكن القدر هذه المرة أنقذ «اَمنة» من القتل، ليموت «المهندس»، بعد أن اختار التضحية بنفسه من أجلها، لتبدو نهاية مستحقة بعد أن كان سببًا في قتل «هنادي»، وتختلف هذه النهاية عن نهاية الرواية، التي تؤثر فيها «اَمنة» الابتعاد عن «المهندس» بعد أن تيقنت من حبها له، وتدافعت المشاعر المضطربة داخلها تجاه علاقتهما، ولأسباب عديدة تظل نهاية الفيلم أفضل، وفي مقدمتها ملائمتها للعمل السينمائي وجمهوره، الذي عادةً ما ينتظر عقابًا صريحًا لمرتكب الجرم.

الأكيد أن خنجر الذكورية هو الذي قتل «هنادي»، فالاستغلال والخذلان يمكن تجاوزهما، إن كانت هناك فرصة للحياة، لكن طالما كان الفعلان ذكوريين، فهناك من سيمنع كتابة فصول أخرى في حكاية الأنثى.

فيلم «دعاء الكروان»

البوسطجي: أرواح النساء وأجسادهن قربان للذكورية

صدر فيلم «البوسطجي» في العام 1968، عن قصة للأديب «يحيي حقي»، ضمن القصص التي ضمتها مجموعته «دماء وطين»، الصادرة في العام 1955، وقد بنى الخط الرئيس فيها، استنادًا إلى قصة واقعية عن فتاة قتلها والدها، بعد علمه بحملها من شاب رفض تزويجها له، وتظهر جريمة القتل لأجل «الشرف» المزعوم، في نهاية فيلم المخرج «حسين كمال» عندما يقتل الأب المعلم «سلامة» ابنته «جميلة»، بعد أن كشفت بطنها السر، الذي حاولت أن تخفيه.

أحبت «جميلة»  الصعيدية، ذات الـ16 عامًا، ابنة قرية «كوم النخل» الصعيدية، الشاب «خليل» شقيق صديقتها، ومارست معه الجنس طواعيةً، ومضت الأمور وكل منهما يدرك حتمية التعجيل بالزواج للخروج من مأزق «الفضيحة»، ولحماية الفتاة من مجتمع لن يرحمها، لأنه لا يؤمن بأحقيتها في الاختيار والتصرف بجسدها، ولا يعترف سوى بتبعيتها للواصي الذكر. لكن الأب رفض الزواج، معتبرًا أن معرفة «خليل» بابنته قبل الزواج أمر مرفوض وفق الأعراف والتقاليد، والغريب أن هذا الرجل الذي بدا متمسكًا بالأفكار الصعيدية المتزمتة، يناقض نفسه، فهو من سبق وأيد انتقال الابنة إلى مدينة أسيوط، والدراسة بمدرسة أمريكية داخلية، بالمخالفة للقواعد والتقاليد الصعيدية، كما بدا داعمًا لفكرة عملها بعد اتمام الدراسة، وهو ما كان مُستغربًا من عمدة القرية، وهذا السبب الذي كان مبرر الأب لرفض الزيجة، هو الذي وضعه السيناريست «صبري موسى» بالإشتراك مع «دنيا البابا»، بينما السبب في القصة الأصلية، وهو اختلاف «الطائفة»، إذ أن الفتاة والشاب في القصة مسيحيين، لكن كل منهما ينتمي إلى طائفة مختلفة، فهي أرثوذكسية وهو بروستنتي، وربما تخلى صناع الفيلم عن هذا السبب لأسباب اجتماعية أو تخوفًا من ممانعات رقابية.

تظل شخصية الأب أو المعلم «سلامة»، ويؤدي دوره «صلاح منصور»، متناقضة ومتشبعة بالأفكار الذكورية، حتى إن كان متقبلًا لتعليم الفتاة وعملها، فقد أقدم على اغتصاب «مريم» العاملة في منزله، ليكون عاملًا رئيسًا في وقوع «جريمة شرف» أخرى، لم تظهر بوضوح في الفيلم، لكن المقدمات أشارت إليها، فبعد أن رأته زوجته يلحق بــ«مريم» عندما كانت في برج الحمام، اَثرت الصمت في تلك اللحظة حتى تنتقم منها لاحقًا، ووشت لأسرتها بأن ابنتهم على علاقة بشخص مجهول، ليأتي شقيقها وخالها، لينتقما لشرفهما المزعوم.

دلالات كثيرة يحملها، مشهد اقتياد «مريم» إلى خارج منزل مخدوميها، على يد الخال والأخ، وهي تصرخ مرددة «أنا مليش ذنب»، بينما تقف زوجة المعلم «سلامة» متفرجة، وقد انتشت بعد أن تيقنت من أن الفتاة ستلاقي أجلها المحتوم، ومن بين هذه الدلالات، قلة حيلة العاملات في المنازل، اللاتي يجبرهن العوز على القبول بالانتهاكات في صمت، لأن أي رد فعل غير ذلك نهايته الموت، وشيء اَخر تكشفه ردة فعل الزوجة، فقد اختارت الانتقام من العاملة المغلوب على أمرها، لأنها الحلقة الأضعف، بينما لم تستطع أن تخبر زوجها على الأقل بعلمها بفعلته وكأنه تواطؤ غير معلن بينهما، وقد يكون خوفًا من الزوج أو قناعة بأن الرجل له ما يحلو له والغضب لا ينصب إلا على امرأة مثلها.

مشهد النهاية، يتجرد فيه الأب من أي مشاعر إنسانية، كالذئب الذي تأهب لاصطياد فريسته، فأضحى في كامل قوته وهي في أوج ضعفها. تركض الفتاة في محاولة للهروب منه، بعد أن عقد العزم على قتلها، فيلحقها في كل مكان، لتسقط بين يديه، فيغمد سكينه في صدرها، وبعد القتل يباهي بجريمته، فيحمل جثتها ويطوف بها وكأنه يقدم قربانًا للذكورية التي استطونت العقول والنفوس، بينما يحيطه أهل القريةوقد تجمع بعضهم بعد أن دوت صرخة «جميلة»، والبعض الاَخر يتبعه في سيره فيما أشبه بالمشهد الجنائزي، وتظهر الأم تلطم وجهها، وتهيل التراب على رأسها.

تتردد في خلفية النهاية كلمتا «مملكة تانية»، بصوت «جميلة»، وهما ما تبقى من حوار سابق بينها وبين «خليل»، عندما كان يحكي لها، عن أميرة أحبت أحدًا، وعندما رفض الملك زواجهما، قررا الهروب إلى مملكة أخرى، ليتزوجا ويعيش الحب. المملكة التي نشأت فيها «جميلة»، يحكمها المقت والذكورية، وقتل الأنثى فيها نهاية حتمية، إذا أخلت بقواعدها، ويبدو أنه لا أمل في التخلص مما ضرب بجذوره فيها، والحل هو «مملكة ثانية».

فيلم «البوسطجي»

الطوق والإسورة: التلاعب بـمفهوم «الشرف» حتى تحيا الذكورية

كما هو الحال في الفيلمين السابقين، يأتي فيلم «الطوق والأسورة»، المُنتَج في العام 1986، عن قصة لأديب مصري، وهو «يحيي الطاهر عبد الله»، بينما كتب السناريو والحوار يحيي عزمي بالاشتراك مع الشاعر «عبد الرحمن الأبنودي»، وأخرج الفيلم «خيري بشارة»، وعلاوة على أن الأفلام الثلاثة هي إعادة كتابة بصرية لروايات أو قصص، فإنها مستوحاة من قصص واقعية.

في «الطوق والإسورة»، يبرز الجهل وقد سيطر على عقول أهل قرية الكرنك في الأقصر خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، فبات يكبلهن بأغلاله ويطوقهن بأساوره الحديدية، وكنتيجة طبيعية، تقودهم الخرافة والشعوذة التي طُوّعت لخدمة القيم الذكورية.

يستعرض الفيلم حال مجتمع غارق في الأفضلية الذكورية، فهو الابن المنتظر، والمولود المرتقب، والرجل الذي لا يعيبه أي شيء، حتى إن ارتكب جريمة قتل، طالما كان المقتول أنثى.

تظهر جريمة القتل من أجل الشرف بحق «فرحانة» وتؤدي دورها «شريهان»، وقد اشترك فيها أكثر من شخص، أولهن الجدة حزينة وتؤدي دورها «فردوس عبد الحميد»، التي علمت بأن الفتاة تحمل بين أحشائها طفلًا، نتاج علاقة برجل غير معلوم، بعد أن قالت لها الداية واصفة حال الحفيدة بـــ «طبق مكسور»، فسارعت بإخبار «مصطفى» خال «فرحانة» ويؤدي دوره «عزت العلايلي»، لينتقم لشرفه وشرف العائلة، لكن الخال لم يقتلها وإنما اكتفى بتعذيبها، فحفر حفرة ودفن جسدها فيها، باستثناء رأسها، وحرمها وجدتها من شربة مياه، ليأتي «سعد» ابن عمتها الذي يحبها، لينتقم منها بعد أن فضلت غيره عليه، ويجهز عليها.

الشرف الذي انتفضت من أجله الجدة، وشاركت في قتل حفيدتها حمايةً له، هو نفسه الذي تلاعبت به من قبل، وفرضت على ابنتها «فهيمة»، أم «فرحانة»، أن تعاشر رجلًا غير زوجها، تطبيقًا لهرطقات وبدع تستبطن قيمًا ذكورية، فالأمل في مولود ذكر، هو ما تعيش لأجله الجدة، وابنتها وزوجها «الحداد» ويؤدي دوره «أحمد عبد العزيز».

عقر الرجل، أمر لا يعترف به، ويعد من عمل السحرة والمشعوذين، ولا يفك إلا بحسر مقابل، فتذهب الجدة بابنتها إلى المعبد، حتى يأتي الحل على يد حارسه الذي تحمل منه، وعندما تأتي المولودة «فرحانة» تُنسَب إلى الزوج، رغم علمه بعجزه، فيبقى الأمر سرًا بين الجدة والابنة وزوجها، ولا يملك الأخير الاعتراف به إلا لأخته لاحقًا.

ما هو أبعد من استعراض مظاهر الذكورية والجهل، التي تنتهك أجساد النساء، هو تجسيد حالة الثبات التي يعيش عليها هذا المجتمع، من الأم إلى الابنة إلى الحفيدة، فلا شيء يتغير من جيل لجيل. الجهل قائم والشعوذة أسلوب حياة وكل شيء ينبطح أمام الذكورية.

مشهد من فيلم «الطوق والإسورة»