محمد أبو الشباب يكتــب: الشر السائل.. كيف يخدعنا الذكوريون؟
أحد كتاب منصة «ولها وجوه أخرى»
ناشط في مجال الدفاع عن حقوق النساء
عضو لجنة خبراء بمؤسسة خريطة التحرش الجنسي
تهبط حالة حادة من العمى الأخلاقي في وقائع الاعتداء الجنسي، طيف من الناس يتهاون ويستهتر بقيمة الواقعة أو يكذب إدعاءات الاعتداءات الجنسية والاغتصاب مسبقًا، قبل حتى أن تتضح أي تفاصيل تقود إلى معرفة الحقيقة. الشر السائل يرتدى ثوب الخير والحب على عكس ما يمكن أن نسميه الشر الصلب، تلك الأنواع من الشر لا ترتكز على رؤية اجتماعية، ترى الأمور من خلال اللونين الأبيض والأسود، ما يُمكننا بسهولة من معرفة وتحديد ماهية الشر في واقعنا الاجتماعي، وبالتضاد نستطيع إدراك الواقع، الحق والباطل، الجنة والنار ، الخيال والواقع، الذكورية والأمومية، إلخ.
الشر السائل يستعرض نفسه باعتباره تقدم طبيعي للحياة، بما ينطوي عليه من نسيان وفقدان للذاكرة الأخلاقية، فإنه يرتدى عباءة غياب البدائل وامتناعها ويظهر كأمر واقع، ويصبح المواطن مُستهلكًا مشوشًا، نتيجة ظهور هؤلاء الأشخاص الذين يُفرَضون عليه، وتكون الفرصة متاحة – للأشخاص والكيانات – حتى يظهروا بمظهر المؤمن، أو الداعم لقيم الحرية والمساواة والعدل وحقوق الإنسان وحرية الاجتماع والحراك الاجتماعي، بالإضافة إلى قيم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ويبذلون أقصى جهد للحفاظ على تلك الهالة وتضخيمها، على الرغم من زيفها، الذي ينكشف مع أصغر اختبارات الحياة الاجتماعية. إنه الشر السائل الذي نقع ضحايا له، لأنه يظهر بمظهر يدعوك لعدم استهلاك طاقتك في التعامل بنفس القدر من الحرص اليومي، باعتبار أن هذا الشخص/الكيان مصدرًا للأمان والثقة، عكس الشر الصلب عندما يتم إدراك وجوده، توضع لا إراديًا إجراءات احترازية، وينعدم الانخراط وتقل فرص التعامل مع المنتسبين إلى الشر الصلب، فالذكوري الداعم أو المبرر لممارسات العنف الجنسي أو اللا مساواة، أو غير المؤمن بمفاهيم العدالة الاجتماعية، فهو سواء كان شخصًا أو كيانًا، يتسق مع مبادئه اللأخلاقية ويعلنها ويعبر عنها، فيسهل تجنبه طالما كان ذلك متاحًا، أما الكيانات/الأشخاص الذين يرتدون عباءة الشر السائل فلا يمكن معرفتهم، إلا عندما يتم اختبار مبادئهم المزيفة، وهؤلاء ضررهم أكبر وأعمق، فعند ظهور جزء من حقيقتهم الخفية، يحدث صدمة وانقسام ويُحدِث ذلك صدعًا فى الأوساط المحيطة بهم، فجزء يصاب بالتشوش والارتباك ويفضلون الحياد، وجزء يصيبهم عدم الإدراك والاستيعاب لمدى الشر الخفي، الذي يدفعهم أحيانًا إلى توظيف أنفسهم كمدافعين عن هؤلاء، فتخرج سلوكياتهم من حيز إدانة الفعل، ويظل دائمًا هناك إنكار أو عذر أو تبرير، ولذلك فإن هؤلاء ضررهم أكبر عند اكتشاف حقيقتهم.
مع انتشار التكنولوجيا وأدوات التعبير الرقمي، صار ممكنًا للناجيات من العنف الجنسي أن يكشفن الأحداث الخفية، التي طالما أُخفيت بسبب نفوذ فاعليها أو بسبب السلطة الأدبية الممنوحة لهم، بسبب مكانتهم الاجتماعية أو السياسية أو الحقوقية أو غيرها، فتكون هذه الأدوات بمثابة معول يهدم الأصنام واحدًا تلو الآخر، سواء كانوا أشخاص أو كيانات أو مؤسسات عاملة بالفعل أو تحت التأسيس. إن المماطلة في وضع حد لتلك الممارسات وعدم الشفافية والوضوح مع الرأى العام، يكاد يقترب من فعل التستر، فإن الناس تتعلم ولا تقبل بأن يستمر هذا الوضع كثيرًا، ومن الممكن للعشرات أو المئات من المؤمنين بمناهضة العنف الجنسي، أن ينصبوا الخيام الافتراضية في مواقع التواصل الاجتماعي – على أقل تقدير – لأسابيع وشهور، دون كلل أو ملل من أجل تحقيق مكاسب فيما يتعلق بالحد من العنف الجنسي والوقوف فى صف الناجيات. لحظات الاحتجاج وإن كانت افتراضية في الوقت الراهن، لكنها تخبرنا بالقليل عن الغضب المكتوم من البلادة في التعامل مع الأحداث، وغياب الإرادة لرفع الظلم أو تجفيف منابعه، علاوة على المقت تجاه ممثلينا المزعومين، وإنه بنفس القدر من الثقة الممنوحة لهؤلاء الأشخاص/الكيانات، في السابق سيكون رد الفعل، وبذلك فإنهم يخرجون القوى الساكنة من غيبوبتها، لدفعها إلى إحداث التغيير من الداخل. الشر بشكله الحالي الخفي، أصبح رفيقًا دائمًا للبشر، لكن أشكاله وتجلياته وخصوصًا، في صورته الحالية الخاضعة لحالة السيولة، إنما هي ظواهر جديدة تستحق معالجة خاصة، لأنه من طبيعة السوائل، أنها لا تستقر على حال بل تتحول باستمرار من حال إلى حال، وكذلك من لديه بعض من الشر السائل، على الرغم من تباين ردود الأفعال لكنها تظل قضيتنا؛ قضية المؤمنين بالقضية وسنخرج منها بمكاسب وانتصارات، حتى إن كانت صغيرة في ملف العنف الجنسي المسكوت عنه، وإن كان التغيير المرجو سيحدث بعد زمن وليس الآن، ولنا في وقائع التحرش الجنسى في هوليوود مثال، لأنها ليست ببعيدة وكشفت كثير من الخفايا.
الاستسلام ليس ضمن الخيارات المتاحة، ولا يمكن لفرد، مهما كانت قوته أن ينير الطريق إلى الاَخرين وحده، لكن ما أراه أن النسوية لديها من المحاربين المتكاتفين، والمتشابكين القادرين على خلق التغيير والتأثير وخلق حراك اجتماعي، بل وتحقيق الانتصار فى هذه القضايا المصيرية .