قراءة في كتاب «لماذا تموت الكاتبات كمدًا؟» – (3): الهيمنة الذكورية على الثقافة وما فعلته بـ«مي زيادة» و«عائشة التيمورية»
في الحلقة الثالثة من سلسلة الحلقات، التي ننشرها في إطار قرائتنا لـكتاب «لماذا تموت الكتابات كمدًا؟»، للكاتب «شعبان يوسف»، الصادر عن دار «بتانة للنشر والتوزيع»، في العام 2016. ونتناول في هذه الحلقة، الفصلين الثالث والرابع، الذين يناقش فيهما الكاتب، تعامل المثقفين الذكور مع الكاتبتين «مي زيادة» و«عائشة التيمورية»، ويوثق حالة الاستعداء الذكوري للكاتبات عمومًا، من خلال هذين النموذجين، كما يرصد التبخيس المتعمد لجهود «مي زيادة» الفكرية والنقدية، واستبعاد النظر لها ككاتبة ذات توجه فكري وأدبي خاص، واختزالها في صورة امرأة عشقها الرجال، ثم أصابها الجنون في نهاية حياتها، ويحلل خطابات وكتابات الثناء والإطراء على «عائشة التيمورية»، التي تأسست على قناعات ذكورية في تقييم منتجها الشعري.
هذه المنظومة الثقافية والاجتماعية والفكرية، أثرت على حالة التأريخ الثقافي والأدبي والفكري، وقادت إلى تهميش الكاتبات وإقصائهن من التوثيق التاريخي
المثقفون ومي زيادة.. تدليل بيد وصفعة باليد الأخرى
يركز الكاتب في الفصل الثالث الذي اختار له عنوان «ومن الذي صنع مأساة مي زيادة؟»، على تعمد الكتاب إهدار القيمة الأدبية لـ«مي زيادة»، على الرغم من أنها كانت تنال قدرًا كبيرًا من التبجيل والإطراء والاحترام، من الأدباء والكتاب الذين اعتادوا حضور الندوة الأسبوعية، التي كانت تعقدها في ما عُرِف بــ«صالون مي زيادة»، ومنهم: «عباس محمود العقاد»، و«أحمد لطفي السيد»، و«أنطون جميل»، و«داوود بركات» و«مصطفى صادق الرافعي»، وغيرهم. لكن الكاتب يكشف إزدواجية المواقف لدى من «كالوا لها المديح تلو المديح»، خاصة أنهم تخلوا عنها، واعتبرها بعضهم بعد رحيلها، امرأة مجنونة وغير متزنة، بينما اختزلها البعض الاَخر في «سيدة الصالون»، الجميلة، اللبقة، المتحدثة، سيدة المجتمع.
الإطار الذي عمد كثيرون إلى وضع «مي زيادة» فيه طوال الوقت، كان العشق والهيام، واختزال تاريخها في الصالون والمراسلات التي كانت بينها وبين «جبران خليل جبران»
حروب مستمرة ضد إبداعها الأدبي
في بداية هذا الفصل، يشير الكاتب «شعبان يوسف»، إلى كتاب نقدي بعنوان «الغربال» للأديب والشاعر «ميخائيل نعيمة»، صدر في العام 1923، عن المطبعة «العصرية»، وفيه يتحدث «نعيمة» عن «مي زيادة» بلهجة ساخرة وقاسية وتهكمية أيضًا، خلال قرائته لكتابها «غاية الحياة»، والترجمة التي قدمتها لكتاب «ابتسامات ودموع» للكاتب «ماكس مولر»، ويستطرد منتقدًا أسلوبها ومشككًا في قيمتها الفكرية، قائلًا «لا شك عندي أن السيدات اللواتي سمعن خطاب «مي» في الجامعة المصرية صفقن له تصفيقًا حادًا أكثر من من موقف واحد، ومما لا شك فيه كذلك، أنهن انطلقن إلى بيوتهن معجبات بحلاوة الخطاب وبراعة الخطيب، إنما غير عالمات – عن غاية الحياة – أكثر مما كن يعلمن حين دخلن قاعة الخطابة، وذلك لأن الخطيبة انصرفت إلى نحت ألفاظها، وصقل عباراتها، أكثر مما انصرفت إلى ربط أفكارها وتسلسل براهينها، فكانت مقودةً بقوالبها اللغوية، أكثر منها بتحاليلها الفلسفية، فجاء ما قالته طليًا، جميلًا، منمقًا كتمثال من رخام، أما روح ذلك التمثال فظلت مدفونة في قلبه الحجري.»
ويلفت الكاتب إلى أن ما كتبه «نعيمة»، هو أول أشكال المؤاخذة حول ما كانت تكتبه «مي» في الصحف والمجلات، وما تلقيه من محاضرات، سواء في الجامعة المصرية، أو الاتحاد النسائي المصري، أو جمعية الشابات المسيحيات، بينما غلب التبجيل والإطراء، على ما كتبه كبار الكتاب والأدباء عنها وإليها.
مما لا شك فيه أن الصورة التي رُسِّخت في أذهان كثيرين عن «مي زيادة»، كانت تختزلها في امرأة معشوقة، أحبها رجالات الثقافة والأدب، وأنهى الجنون حياتها، ويتوقف الكاتب عند هذه النقطة، ليسلط الضوء على «الخذلان»، الذي اتسمت به علاقة «مي» بكثير ممن أحاطوها بالإطراء والمدح، بعد أن شاركوا في صناعة هذه الصورة الذهنية عنها، ومن بينهم المفكر «سلامة موسى»، الذي قدم لكتابها «المد والجزر»، الصادر عن «دار الهلال»، في العام 1924، وحملت مقدمته تقريظًا واضحًا، إلا أن الكاتب نفسه، جاء في نوفمبر من العام 1941، أي بعد رحيلها بأيام قليلة (توفيت في 17 أكتوبر 1941)، وكتب في مجلته «المجلة الجديدة»، يزعم أنها لم تكن جريئةً، وكانت تُمالئ المسلمين، خشية الانتقاد، وأسوأ من ذلك في وجهة نظرنا، أنه يتحدث بلهجة شديدة الذكورية، تتخذ من عدم زواجها، ذريعةً للانتقاص من قدرها والإساءة إليها، إذ يقول «وكلنا أحرار في أحاديثنا، وجامدون في كتاباتنا، ولكن «مي» كانت اَنسة، وقد فاتتها فرصة الزواج، وكانت مسيحية، فكانت لهذا السبب، تخشى أقلام المعارضين لها بأكثر مما نخشى نحن.»
وهنا لا بد أن نشير إلى أن المشكلة في ما كتبه «سلامة موسى»، لا تقتصر على اللغة العدائية، التي تحمل صبغة ذكورية ورائحة ترفض الاعتراف بالمرأة مثقفةً ومفكرةً، لكنها تمتد إلى أن هذه الكلمات كتبها، رجل دُوِّن اسمه في صفحات التاريخ، كأحد أعلام الفكر التنويري والعِلماني في النهضة العربية المعاصرة.
الأنكى، أنه كتب عنها في الطبعة الثانية لكتابه «تربية سلامة موسى»، في العام 1957، زاعمًا أنها أصيبت بلوثة حقيقية، وأصبحت مجنونة بالفعل، مستخدمًا أوصافًا وألفاظًا لا يمكن وصفها إلا بالوضيعة في وجهة نظرنا، بينما يوصفها الكاتب «شعبان يوسف» بـ«قسوة شديدة» من «موسى» ، ونص ما كتبه الأخير، بحسب ما ينقله «يوسف»، هو «وعرفت بعد ذلك، أن مرضها تفاقم، وأنها لتزمت مسكنها، لا تخرج نحو عشرة أيام، وصامت عن الطعام، وكانت قد فقدت كل ما بقي لها من وجدان وتعقل، فكانت تبول وتتبرز في أنحاء المسكن وعلى الفراش وسائر الأثاث، وماتت جوعًا ولم تحس أنها جائعة.»
ردًا على مزاعم رسخّت لصورة مشوهة
يدافع الناقد والكاتب «شعبان يوسف» عن «مي زيادة»، مشددًا على أن كتبها الثلاثة عن «عائشة التيمورية»، ثم «باحثة البادية»، ثم الشاعرة «وردة اليازجي»، تؤكد جهدها الذي بذلته في صياغة أول خطاب تاريخي ونقدي طليعي في أدب المرأة في العالم العربي، ويستشهد بما توصلت إليه الناقدة ألفت كمال الروبي، بشأن الدراسات الثلاث، ووصفها لها بــ«الفتح النقدي الكبير، لخطاب المرأة في القرن العشرين».
بحسب «يوسف»، فإن الطبعة الأخيرة لكتاب «باحثة البادية»، جاء ناقصًا، بدون أثر لمقدمة الأديب والصحافي اللبناني «يعقوب صروف»، التي ترسم صورة إيجابية لـ«مي زيادة»، في العام 1920، ويراها الكاتب إحدى الدفاعات والقراءات الفريدة والأصح لدورها في ذلك الوقت.
في الطبعة نفسها، تتحدث الناقدة «صافيناز كاظم»، عن المراسلات التي كانت بين مي وأدباء عصرها مثل، «العقاد»، و«جبران خليل جبران»، ولكنها تنتقد تركيز كثيرين على هذه المراسلات، وكأنها النشاط الأدبي والحياتي الوحيد لها، وكتبت تقول «وكأنها لم تكن سوى تلك العاشقة أو المعشوقة، وهذا يرجع إلى الأقلام التي تجاوزت في تحليلها لتلك المراسلات الحدود الواقعية، إلى خيالات الظن المؤدية، إلى دروب الكذب والزور والبهتان.»
ويتابع الكاتب «شعبان يوسف»، استعراضه للإساءات التي خُطّت بأقلام كبار الأدباء، لـ«مي زيادة»، بعد رحيلها تحديدًا، بما فيهم «طه حسين» ، و«عباس محمود العقاد»، الذي كتب مقالًا عنوانه «رجال حول مي»، ليختزلها في صورة محدودة، يعتبرها «يوسف» لا تخدم سوى الخيال الذكوري والسلطوي، الذي كان وما زال يهيمن على الحياة الثقافة والفكرية والسياسية والاجتماعية.
في ختام هذا الفصل، يشير الكاتب إلى مرحلة مهمة في حياة «مي زيادة»، تكاد تغيب تمامًا عن الأبحاث التي كُتِبَت عنها، وهي ترأسها للقسم النسوي في صحيفة «البلاغ الأسبوعية»، في العام 1926، وكان رئيس تحريرها «عباس محمود العقاد»، ويؤكد الكاتب أنها من خلال منصبها ذاك، كان لها مقالات وأبحاث ومتابعات مهمة، يعتقد أنها لو جُمِعت في كتاب، ستعطي صورة جديدة لــ«مي زيادة» غير تلك السائدة.
تجاهل الكاتبات وتنحية متعمدة عن المشهد الثقافي
في الفصل الرابع، وقد وضع له عنوان «عائشة التيمورية والتجاهل التاريخي المفرط لأدب المرأة»، يتعرض الكاتب «شعبان يوسف»، فكرة تهميش وتنحية الأديبات والمثقفات عن المشهد الثقافي، التي تحققت عبر أقلام المفكرين الذكور، الذين اختاروا دائمًا، أن يستبعدوا النساء من التوثيق، والتحليل، والمراجعة، وكأن المشهد الثقافي مقبوض عليه بين أيدي الرجال وحدهم.
ويشير «يوسف» إلى كتاب «زعماء الإصلاح في العصر الحديث»، للدكتور «أحمد أمين»، وهو كاتب ومؤرخ مصري، وكان ينشر فصول هذا الكتاب، في المجلة التي أسسها في الثلاثينات، باسم «الثقافة». ويتضمن هذا الكتاب سيرة عشرة أشخاص، اعتبرهم من أعلام الإصلاح في العصر الحديث، ومن بينهم: «جمال الدين الأفغاني»و«علي باشا مبارك»، و«عبد الله النديم»، و«عبد الرحمن الكواكبي»، والشيخ «محمد عبده»، وغيرهم من الرجال فحسب، بينما تجاهل تمامًا النساء، ممن كان لهن دور بارز في القرنين التاسع عشر والعشرين، ويعدد «يوسف»، بعضًا منهن، مثل: «ملك حفني ناصف»، و«نازلي فاضل»، و«زينب فواز»، و«مي زيادة»، و«فلك الطرزي»، و«أسماء فهمي»، و«لبيبة هاشم»، و«لبيبة أحمد»، «عفيفة كرم».
ثم ينتقل الكاتب إلى نموذج اَخر للإقصاء غير المبرر للنساء من عملية توثيق التاريخ الثقافي، وهو كتاب «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر.. الجزء الأول من الثورة العرابية إلى قيام الحرب العالمية الأولى»، وكتبه الدكتور «محمد حسن»، وهو أستاذ الأدب العربي الحديث، في جامعة الإسكندرية، ويتضمن الكتاب فصولًا عن شعراء وناثرين، مثل: «أحمد شوقي»، و«جورجي زيدان»، و«طه حسين»، و«حافظ إبراهيم»، و«إسماعيل صبري»، و«طنطاوي جوهري»، و«محمود سامي البارودي»، و«عبد الله النديم»، وغيرهم من الرجال، ليمارس التجاهل ذاته، الذي ظهر في كتاب «زعماء الإصلاح في العصر الحديث»، للدكتور «أحمد أمين»، لنصبح أمام كتاب يتعامل مع الوطنية، وكأنها حكر على الرجال، ومع إشارة «يوسف» إلى أن هذا الكتاب كان يدرس في الجامعة، وكان مرجعًا معتمدًا بامتياز للتداول لعقود عديدة، وربما حتى الاَن، يبدو جليًا، كيف يصبح إقصاء النساء عن المشهد الثقافي، أمرًا مقبولًا بكل أريحية، دون أن يلتفت أحد إلى تغييبهن بهذا الشكل.
يتابع الكاتب «شعبان يوسف»، رصده للتجاهل الذي أضحى نهجًا، انتهجه كثير من الكتاب، ومنهم «شوقي ضيف»، في كتابه الأدب العربي المعاصر في مصر، الذي صدرت طبعته الأولى، في العام 1957، وصار مُدرجًا ليتم تدريسه في كلية الاَداب لعقود كثيرة، ليٌقصِرَ كتابه على الشعراء والأدباء الذكور، دون إشارة إلى دور الكاتبات والشاعرات في تطور الأدب المعاصر، فضلًا عن أنه عندما أراد أن يرصد أسماء شعراء جماعة «أبوللو »، اسقط اسم الشاعرة «جميلة العلايلي » التي كانت عمودًا في الجماعة، كما يؤكد الكاتب «شعبان يوسف ».
عائشة التيمورية.. مديح بطعم الذكورية
يتعرض الكاتب إلى تخصيص «عباس محمود العقاد » ، لفصل كامل من فصول كتابه «شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي » ، الصادر في العام 1937، إلى الشاعرة «عائشة التيمورية » ، وإذ أن «العقاد » اختار للفصل عنوان «السيدة عائشة التيمورية » ، فقد توقف الكاتب أمام مفردة «السيدة » ، ليلفت إلى أنها – في اعتقاده – كانت مقصودة، لاسيما أن «العقاد » بدأ حديثه عاطفًا على عائشة، حيث بدأ حديثه عن طفولتها، ومعاناتها مع أم كانت تمنعها من القراءة، لولا تدخل الأب المثقف ودعمه لها حتى تتعلم اللغات والفنون.
من ناحية أخرى، فإن «العقاد» حتى في مدحه لـ «عائشة التيمورية » ، قرر أن يمدحها باعتبارها استثناءً أو خروجًا عن القاعدة، نافيًا الكتابة الشعرية عن أي امرأة جاءت بعدها، مثل: «ملك حفني ناصف »، و «وردة اليازجي »، و «أمينة نجيب »، وينقل لنا الكاتب جانبًا مما كتبه «العقاد» عنها: «إننا لم نقرأ لمن نشأن بعد السيدة عائشة نظًا يضارع نظمها ولا شاعرية تقارب شاعريتها.»
ويتابع «إنما المسألة هنا أن الاستعداد للشعر نادر، وإنه بين النساء أندر، فالمرأة قد تحسن كتابة القصص وقد تحسن التمثيل، وقد تحسن الرقص الفني من ضروب الفنون الجميلة، ولكنها لا تحسن الشعر.»
في المقابل، يستشهد يوسف بكتاب «مي زيادة » عن «عائشة التيمورية »، ليصفه بإنه بداية قاطعة وتتجدد دومًا لقراءة أدب المرأة، على مدى العقود التي تلت صدوره.
في هذا الفصل أيضًا، ينتقل الكاتب من التجاهل الذي مارسه الكتاب، إلى ذلك الذي مارسته مؤسسات صحافية، ضاربًا مثل بــ«مجلة جاليري 68 »، التي خلت من أي قصيدة أو مقال نقدي لامرأة، و «مجلة إضاءة 77» التي صدرت في يوليو من العام 1977، لتستمر في الصدور لأكثر من 10 سنوات، دون أن تعثر على شاعرة مصرية واحدة، على الرغم من أن الساحة لم تكن خالية من الشاعرات.
في ختام الفصل، يتناول الكاتب مسألة العزل التي يمارسها كتاب اَخرون، بحق الكاتبات ومنتجاتهن الأدبية، لتصبح في ناحية، وتلك الخاصة بالرجال في ناحية أخرى، وذلك من خلال الإشارة إلى إصدارين للناقد «محمد عبد المطلب » ، أحدهما بعنوان «قراءة أسلوبية في الشعر الحديث »، وفيه قدم أبحاثًا عن دواوين للشعراء الرجال، والاَخر كان عن الرواية النسائية.