عن كاتب المقال:

محمد عبد الحميد توفيق| شاعر وصحافي مصري في الكويت، وأحد الكتاب المشاركين في حملة «ما تجبرنيش»

(1)

بعد أن أنهيتُ عملي الصحافي الذي يمتد إلى منتصف الليل، وفي أمسية شتوية بامتياز، بينما هممتُ بتشغيل سيارتي عائدًا إلى بيتي الواقع على مقربة من الكويت العاصمة، هاتفني صديقي المقرب وابن قريتي في صعيد مصر، وكان رفيق دربي لسنوات في  أرض الغربة.

جاءني صوته مضطربًا مأزومًا: سألتهُ: ماذا بك؟، طمني عليك، فرد بنبرة حزن: زوجتي تلد الآن، وحالتها سيئة للغاية، بعد أن قرر الأطباء، إجراء عملية قيصرية عاجلة لها، وضغطها مرتفع وأخشى عليها وعلى الجنين الذي تحمله بين أحشائها.

هكذا تحدث صديقي بلهجة بين العامية والفصحى، إذ أن عمله مدرسًا للغة العربية في الكويت، ترك أثرًا باديًا على لسانه الصعيدي، .. ولم أمهله حتى يكمل كلامه، فأنهيتُ المكالمة لأقود سيارتي بأقصى سرعة، متوجهًا إلى المستشفى الذي تلد فيه زوجته، حتى أكون بجواره، وأسانده في ظرفه العصيب، وهذا حق الصديق وواجبي تجاهه، وبما أننا في غربة قاسية، فالحق أوجب.

(2)

أمام غرفة العمليات، وقفتُ وصديقي، ننتظر  خروج أي من الأطباء أو الممرضين ليطمئننا على زوجته، وفي لحظة صمتٍ وشرود، باغتني بقوله:  آه يا صاحبي أتدري ما حلم حياتي الآن؟

-بم تحلم يا صديقي، هاتِ ما عندك.

-أحلم أن يخرج الأطباء من غرفة العمليات ليبشروني بولدٍ

-ما هذا الكلام يا رجل ؟ .. زوجك بين الحياة والموت وكل همك إنجاب الولد؟

-إنني أحبها وأخاف عليها وإلا ما كنتُ اتصلتُ بك لتقف بجانبي الآن، لكن هذا لا يمنع أنني أريد منها الولد.

-حسنًا؛ لكن يُفترض أنك تعرف نوع الجنين الذي في رحمها، ألم يخبرك الطبيب المتابع لها أثناء أشهر الحمل؟

– بلى، أخبرني أنها بنت، وكما تعلم عندي ثلاث بنات والقادمة هي  الرابعة، لكنني أحلم أن يصنع الله معجزة، فيخيب ما كشف عنه السونار، ليخرج الأطباء بولد.

سمعتُ كلامه فانتابني العجب، لكن بعد تفكير في الأمر زالت دهشتي، إذ أن صاحبي هذا  من قرية تنتمي إلى  “الصعيد الجواني”، وهو ربيب بيئة ذكورية بامتياز، تُمجد الذكر وتعتز به، وتعتبره عزوةً وشرفًا، وأحد مقاييس  قيمة القبيلة ومكانتها عدد رجالها، وحتى لو كان الرجل سفاحًا أو قاطع طريق فألف مبرر يلتمسه المجتمع القبلي له، بينما يُنظر إلى البنات باعتبارهن عورة ومنقصة ومجلبة للعار في كثير من الأحيان، ومهما علا شأن البنت فكثيرون لا يذكرون منجزها ولا يقميون له وزنًا.

(3)

الفتاة في الصعيد مقهورة مهزومة مأزومة، بدءًا من الحزن والابتئاس بعد إنجابها، ولعلَّ الآية القرآنية “وإذا بُشر أحدهم بالأنثى ظلَّ وجهه مسودًا وهو كظيم”، تنطبق على أكثر من 90 في المئة من  أبناء الصعيد، وما الأمثال المنتشرة في بعض المجتمعات التي تعيش خارج العصر إلا أكبر دليل على اعتبار البنت عورة وسوأة، وإنجابها سوء حظ لأسرتها، هذه الأمثال المتوراثة عبر الأجيال لا تزال ترددها العجائز في القرى والنجوع، فما أن تلد المرأة بنتًا، حتى  يرددن بنبرة حزينة أقرب إلى  عدودات الجنائز “لمَّا قالوا دي بنية .. انهد سقف البيت علية .. “، وعلى النقيض من ذلك يبتهجن بقدوم الذكر ويرددن في فرح “لما قالوا ده ولد.. انشد ضهري وانسند”، ثم تعاني الفتاة من تفضيل أخوتها الذكور عليها في كل شيء، مرورًا بهضم حقها في الميراث ومن قبله إكمال التعليم، إذ لا تزال شريحة كبيرة من الأسر الصعيدية تكتفي بالتعليم المتوسط للفتاة، وكثيرون يكتفون بحصولها على الشهادة  الإعدادية، حتى لو كانت متفوقة وراغبة في التعليم، وفيما تسمح أسرٌ بدخول بناتها الجامعات، يظل إجبار الفتاة على الزواج من ابن القبيلة  قاسمًا مشتركًا بين غالبية الأسر الصعيدية.

الأكثر كارثية من ذلك، حرمان الفتاة من إبداء رأيها في شريك حياتها، فولي الأمر عادة ما يعتبر  الفتاة غير ناضجة وقاصرة العقل، بما يمنعها من الاختيار الصائب، مما يجعل الزواج يؤول في نهاية الأمر إلى أحد أقاربها، على قاعدة “زيتنا في دقيقنا” و”ابن عمي أفديه بدمي” و”الثمرة غصنها أولى بيها”، وما إلى ذلك من أمثال شعبية تمجد الانتماء القبلي، وتجعله أساس العلاقات الاجتماعية، وعلى رأسها الزواج.

(4)

القبيلة هي الوطن في نظر أهل الصعيد، فالدماء تسيل دفاعًا عن شرف القبيلة، وعلى النقيض من ذلك، يضمحل أو يكاد يمحي حتى مجرد التفاعل مع قضايا الوطن الأكبر، ولا غرو إذن من أن يتحكم الانتماء القبلي في تزويج الفتيات، اللائي يصبحن الضحية لتلك النظرة القاصرة والرؤية المنغلقة على أفق لا إنساني، حين تُجبر الفتاة على الاقتران بزوج قد لا تنسجم معه جسدًاوروحًا، ومهما عانت وكابدت من ظلم وقهر، فليس أمامها سوى إكمال الحياة، مع ابن العم الذي أصبح زوجًا بقوة شريعة القبيلة، وتنجب منه حفاظًا على “الدماء الزرقاء” التي لا يجوز أن تتلاقح وتتناسل، مع من هم أقل شأنًا وأدنى مرتبة من أبناء القبائل الأخرى، وفق قانون العنصرية والتمييز.

(5)

مضت ساعتان، حتى خرج  الطبيب من غرفة العمليات، ليبشر صديقي بنجاة امرأته من الموت بأعجوبة، قائلاً: “حمدًا لله على سلامة المدام، ومبروك ربنا رزقك ببنت زي القمر.”

تلقى صديقي النبأ وظل وجهه مسودًا وهو كظيم، وعلى غير إرادته، انضمت الطفلة إلى بنات جنسها المقهورات، في صعيد مصر، وخلال سنتي مهدها، سيسمى عليها فتى من أقاربها كعادة أهل القرى، سلوى لأحمد، وليلى لحسام، وهناء لمحمد،…

#ما_تجبرنيش: حملة أطلقتها مبادرة دورِك في قنا، في إطار الـ16 يومًا الدولية لمناهضة العنف ضد المرأة.

تهدف الحملة إلى التوعية بخطورة الزواج القبلي، المنتشر في بعض المناطق في صعيد مصر.