نيرة حشمت

 

عن كاتبة المقال:

ناشطة نسوية، وعضوة بمجموعة “قانون يحمي الفتيات من العنف الأسري”   

 

قد لا يفهم البعض ما هو العنف الأسري الإلكتروني، بل قد يظنون أنه اختراع نسائي شرير، ليُثقل كاهل الأبوية بالآثام، وهي ليست بريئة من ذلك بالتأكيد. العنف الإلكتروني الأسري، حقيقة واقعة، وهو استكمال للقمع المُمارَس ضد النساء والفتيات، تحت مسميات كثيرة، مثل؛  «الخوف» أو «الحماية» لكنها تزييف كامل، فالتحكم والسيطرة الذكورية، التي عضدتها قرون من عمر الإنسانية وعلى اختلاف مجتمعاتها وثقافتها، تطورت عبر الأزمنة وتلونت بطبيعة كل عصر، فجاءت إلينا، تلاحقنا كنساء وفتيات في الفضاء الافتراضي الواسع، لنبدأ فصلًا جديدًا من الأبوية المُغلَّفة بطبقة ظاهرية رقيقة تسمى «الحماية»، لكنها لا تخفي جيدًا ما خلفها، وهو السيطرة الخالصة علينا كنساء وفتيات.
شكَّل الفضاء الافتراضي مساحة آمنة، وفرصة للنساء والفتيات، لا سيما القادمات من مجتمعات ذكورية خالصة كمجتمعنا، وكانت فرصة لهن، لاكتشاف ذواتهن  دون منغصات، لكن يبدو أنها كانت آمالًا هشة، لم تستطع الصبر أمام أبوية ورجعية مجتمعنا، الكاره لنسائه في أغلب الأوقات، فاخترع الأبويون مفاهيمًا جديدة، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سواهم، فكانت البداية، ترهيب الفتيات والنساء حتى لا يستخدمن الانترنت، وظهرت فتاوى تُحرِّم استخدامه، إلا في وجود مِحرِم من الأقارب الذكور. وهناك اَخرون يروّجون لمفهوم الفتاة المحترمة، التي من أهم صفاتها، ألا تكون من مستخدمي الإنترنت، وعلى الرغم من تبين ضعف كل تلك الإدعاءات بمرور الوقت، لكنها لا تبطل بل تأتي عليها فترة، تنتشر بسخافات جديدة، والواقع أنها إن دلت على شيء، فإنما تدل على خوفهم من حرية مفترضة للنساء والفتيات.
لا يتوقف الخوف والرغبة في السيطرة، عند أفكار معادية لاستخدام الانترنت أو وسائل الاتصال المتعددة، بل أصبح منعها عن النساء والفتيات طقسًا من طقوس بعض العائلات المصرية، تمارسه حين تريد إظهار مدى سيطرتها وتفوقها، ولا يُرَاعى في ذلك اختلاف الأعمار والمقام، فتلك السيدة، التي قد تقترب أو تكون قد بلغت بالفعل الخمسين، منعها ابنها الشاب، من استخدام الهاتف، حتى لا تتصل بالانترنت، لأنها بسبب قلة خبرتها في التعامل معه، كانت تدخل على روابط، بها صور جنسية، فرأى الابن أن الأفضل أن يمنع أمه، من الاتصال بالانترنت.
بينما يحكي لي صديق، عن معاناته في التواصل مع والدته، بعد تركه للمنزل إثر خلافات مع والده، وهناك الذي يحرم زوجته وبناته من حمل هواتف، حتي يستطيع التحكم في تواصلهم مع الغير، والأب نفسه هو الذي اعتاد الاعتداء بالضرب على أبنائه وبناته.
وصديقة أخرى تحكي عن فترة حبسها في المنزل وسحب التليفون الخاص بها، لإجبارها وإشعارها بأنها وحيدة، فالحبس وحده لا يجدي، بل منعها تمامًا من التواصل مع الغير، هو العقاب المناسب في نظرهم.
وهناك فتاة أخرى، عانت من تتبع أقاربها لها على مواقع التواصل الاجتماعي، في محاولة منهم لمعرفة كل أخبارها، خاصة أنها مستقلة عن عائلتها، وكان غرض التتبع تهديدها، وإشعارها بأنها لا تملك تلك المساحة الخاصة والمقتطعة من عالم يعج حولنا بالتحكم والسيطرة.
منذ سنوات، أتذكر مكالمة صديقة عمري، وهي منهارة، ترجوني أن أدخل إلى حسابها الخاص، على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، لأحذف جميع أصدقائها الذكور، على الرغم من أن جميعهم من معارفها وزملائها في الدراسة،  لكنني علمت أن والدها – وهو بالمناسبة رجل لطيف، لكنه يحمل ثقافة هذا المجتمع – عَلِمَ أو أعلمه أحد أفراد عائلته، بوجود حساب خاص لها على موقع تواصل اجتماعي، فسارع لتأكيد سيطرته، وأجبرها على غلقه أمام عينيه.
مررت بتجربة اختراق للخصوصية على الفضاء الالكتروني، ولكن ليس على يد أحد أفراد عائلتي فحسب، بل على يد صديقاتي ومن ارتبطن بهم في علاقات عاطفية، فأحيانًا يجري ابتزار الفتيات، خاصة الأصغر سنًا أو أقل تعليمًا، بأن يثبتن ويدللن على الثقة والتفاني في حبهن، بأن يقدمن حساباتهن الشخصية على الواقع الافتراضي للمرتبطين بهم، لتكون تحت رعايتهم وعينيهم الساهرة، لتأكيد هيمنة الذكور وسيطرتهم، ولا اعتبار لخصوصية الأشخاص الموجودين على تلك الحسابات، وقد قام بعض أفراد عائلتي بممارسة البلطجة الإلكترونية على بعض اَرائي الخاصة سواء دينية أو سياسية، المنشورة عبر أحد حساباتي الافتراضية، ولم يكتفوا بذلك بل هناك من همس في أذن أبي وأمي، في محاولة لإحكام السيطرة على أفكاري واَرائي الخاصة.
هناك بالطبع فتيات، لا يملكن حق الاعتراض، فحساباتهن الشخصية مشاع لأفراد عائلاتهن، حتى يكن تحت سيطرتهم الخاصة.
ما زال هناك من الأمثلة، ما لا يعد ولا يُحصى، عن محاولة السيطرة في كل تصرف أو حركة يتصف بالحرية والاختيار لنا كنساء وفتيات، ورغم تدخل الإنترنت والتكنولوجيا، في كل نواحي حياتنا اليومية، وكونه أحد الحقوق الأساسية لكل فرد، فتقييد ذلك الحق يتسبب في الحرمان من العديد من فرص العمل أو التعليم وغيره، ومع ذلك، فإنه حتى الاَن، لا يؤخذ هذا النوع من العنف الأسري، في الاعتبار ولا تُطرَح بشأنه نقاشات جادة، وهو ما نحتاج إليه ولوجود قانون يجرمه، ويحفظ حقوقنا في التواصل الإلكتروني بدون رقيب أو تدخل بل بحرية تامة.