فيلم «وجدة».. عدسة مكبرة تكشف: كيف يصبح قهر النساء في المجتمع السعودي من طبيعة الأمور؟
في بلد يعادي السينما، تمكنت امرأة من تصوير فيلم روائي طويل بالكامل في قلب العاصمة السعودية، الرياض، وطافت بالكاميرا حواريها، وطرقاتها، لتصبح أول من ينجح في ذلك، وتنال لقب أول مخرجة سعودية، ومن ثم تجوب بفيلمها، العديد من المهرجانات العالمية، ويُرشح لجائزة أوسكار، فئة أفضل فيلم أجنبي، ممثلًا عن المملكة لأول مرة في تاريخها.
“وجدة” هو الفيلم الذي كتبته وأخرجته “هيفاء المنصور”، وقد أثار الكثير من الجدل في داخل السعودية وخارجها، منذ عرض لأول مرة في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي في أغسطس من العام 2012.
«وجدة» ليس أول فيلم سعودي ينتمي لفئة الأفلام الروائية الطويلة، فقد أخرج السعودي “عبد الله المحيسن” فيلم “ظلال الصمت” في العام 2006، بتكلفة إنتاجية محدودة، ثم جاءت شركة روتانا في العام 2009، وأنتجت فيلم “كيف الحال؟”، وعلى الرغم من تناوله لإحدى المشاكل التي تفرضها طبيعة المجتمع السعودي، فقد كان أغلب القائمين عليه من غير السعوديين.
“هيفاء المنصور” هي العنصر النسائي الرئيس في صناعة الفيلم، فهي التي كتبته وأخرجته، والطريف أنها لم تتمكن من متابعة وإدارة التصوير الخارجي مع فريق العمل من الرجال وأغلبهم من الأجانب، لأن المجتمع السعودي لا يقبل رؤية امرأة في الشارع تعمل إلى جانب الرجال، مما اضطرها للبقاء إما في سيارة أو في غرف متابعة، لتعطي توجيهاتها لمساعدي الإخراج والممثلين، عبر الهاتف النقال.
تبدو “المنصور” متأثرةً بدرجة كبيرة بالأفلام الإيرانية، التي عادةً ما تستند إلى قصص إنسانية من قلب المجتمع المأزوم، تكشف حجم القمع الذي يعيش تحت وطأته الأفراد، خاصة في ظل سلطة دينية وسطوة ذكورية، ولا تميل هذه الأفلام إلى الإبهار البصري، بقدر ما تعمد إلى نقل الواقع بأسلوب يجعل المشاهد، يشعر بأنه يعيش داخل هذه القصة وبين شخصياتها، وهذه الحالة هي التي خرج عليها «وجدة».
على الرغم من أن «وجدة» هي الشخصية الرئيسة ظاهريًا، لكن الفيلم يعرض ثلاث نماذج نسائية رئيسة، فإلى جانب «وجدة»، هناك الأم ومديرة المدرسة؛ تشترك ثلاثتهن في وقوع العنف الذكوري عليهن، لكن تعامل كل منهن معه، يتباين ما بين مقاومة، وسلبية، وممارسة العنف ذاته تجاه الأخريات.
لأن «غشاء البكارة » هاجس.. ركوب الدراجات محظور
يدور الفيلم حول «وجدة»، طفلة في العاشرة من عمرها، وتؤدي دورها «رعد محمد»، التي تريد أن تمتلك دراجة هوائية، لتقودها في الشوارع والطرقات، لكنها تصطدم بعقبتين، أولهما أنها لا تملك المال الكافي لشرائها، أما العقبة الثانية وهي الأصعب، تتمثل في رفض الأسرة والمجتمع المحيط لقيادة الفتيات للدراجات، لسبب يؤكد سيادة الجهل المُلغَّم بالهيمنة الذكورية، وهو الخوف على الفتاة من فقدان عذريتها، المُختزلة في غشاء البكارة، فتجد الطفلة نفسها أمام أم تحاول أن تثنيها عن رغبتها، بزعم أنها لن تتزوج أو تنجب إذا قادت دراجة، ويتملكها الفزع، عندما تسقط ابنتها من على الدراجة، وتبكي لأنها تنزف، فتسألها بذعر “من وين؟”، خشية أن يكون دم البكارة، علاوة على ذلك، تمنع عنها مديرة المدرسة، الجائزة المادية التي فازت بها، بعد أن حصدت المركز الأول في مسابقة لحفظ القراَن، وذلك بعد أن أعلنت الطفلة نيتها شراء دراجة هوائية بهذه المكافأة، فهذه ليست الإجابة النموذجية في ذلك المجتمع، ولم تنس المديرة تذكيرها بأن ركوب الدراجات ممنوع على البنات «المحترمات اللاتي يخفن على شرفهن» على حد قولها.
«وجدة» ليس اسمًا دارجًا في السعودية، لكن المخرجة اختارته، لدلالته على الحب والشغف، فهذا الفيلم ينادي بحب الحياة، ويعزز فكرة التمرد والمقاومة بين الفتيات تحديدًا، لا سيما أن النساء الأكبر سنًا في هذا الفيلم، صرن أكثر تماهيًا مع اضطهادهن على يد الرجال، ويستسغن بقائهن في مرتبة أدنى من الرجل، وهو ما تجسده شخصية الأم وتؤدي دورها “ريم عبد الله” وشخصية”حصة” مديرة المدرسة، وتؤدي دورها الممثلة “عهد كامل”.
العنف لا يمارسه الرجال فحسب .. ينبعث من داخل النساء أيضًا
نجحت “هيفاء المنصور” في كشف الواقع المزري الذي تعيشه النساء، والثقافة الأبوية القبلية الضاربة بجذورها في المجتمع السعودي، دون أن يكون استعراض المظاهر التي تثبت ذلك، مقحمًا على القصة الرئيسة، فتُجلي المخرجة اَثار حرمان المرأة من قيادة السيارة (وقت صدور الفيلم كان المنع ما زال ساريًا)، من خلال التعامل المتعجرف للسائق القادم من إحدى دول جنوب شرق اَسيا، واستغلاله لكونه في موقع القوة، فيهدد الأم بألا يمر عليها ليوصلها إلى العمل، إذا تأخرت ولو لبضع دقائق، وعندما ينفذ تهديده، تجد نفسها في مأزق، ولا تتمكن من الذهاب إلى العمل.
تنبش المخرجة في حالة الكبت التي تسود هذا المجتمع المغلق، من خلال عدة مواقف، مثل ما حدث لـ«عبير»، وهي إحدى زميلات «وجدة» في المدرسة، تتحايل على الحظر المفروض على الاختلاط، حتى تواعد شابًا، فتوقفهما هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتحول القصة إلى فضيحة، تتناقلها الألسنة، وتتخذ الأسرة قرارها بإخراج الفتاة من المدرسة وتزويجها، بحسب ما جاء على لسان والدة «وجدة».
الكبت أيضًا، يجعل مديرة المدرسة التي تمارس العنف الذكوري ضد الطالبات، تواعد سرًا أحد الرجال، وعندما يراهما والدها، تصرخ بزعم أنه لص، ويتحول الموقف إلى حكاية ترددها الطالبات، وقد وقر في يقينهن أن الأمر كان مواعدة وليس سرقة.
في هذا المجتمع، زواج القاصرات طبيعي ويُحتفَى به، إذ تظهر إحدى زميلات «وجدة»، وتدعى «سلمى»، تعرض صور عرسها على زميلاتها، وعندما تدخل المعلمة، تأخذ الصور لتشاهدها دون أي امتعاض، بل وتتعامل مع الأمر كونه عاديًا.
شعرهن فتنة.. صوتهن عورة.. دورتهن الشهرية وصمة
يقدم الفيلم صورة واضحة الملامح لمجتمع، يبث في بناته شعور بالإثم بسبب تفتح أنوثتهن البيولوجية، فتتخفى الطفلات مرغمات داخل عباءات سوداء، ويغطين رؤوسهن، وإن كشفن شعرهن، يصبحن عرضةً للعقاب مثلما هو حال «وجدة».
تتضاحك الفتيات في المسجد، عندما تُذكر الدورة الشهرية، وكأنها شيئًا أو عيبًا يدعو للخجل منه، فضلًا عن ذلك، فإن الضحك نفسه ممنوع أمام المدرسة وفي فنائها حتى لا يسمعه الرجال، والحجة أن صوت المرأة عورة، واللعب مرفوض إذا وقف الصبية والشباب يتلصصون عليهن، والحل بالنسبة للمديرة هو إجبار الطالبات على ترك الفناء، والانزواء بعيدًا عن أعينهم.
تغلغل العنف الذي يمارسه الذكور، داخل هذه المديرة، واستوطنتها الأفكار الذكورية، فأضحت تؤمن بأن النساء في مرتبة أدنى من الرجال، وبسلطتها تعمل على ترسيخ تلك الفكرة في نفوس وعقول الفتيات.
التاَلف مع العنف
على عكس ابنتها، فإن الأم نموذج صارخ للمرأة الراضخة للاستلاب الذهني والجسدي؛ تعيش وضعًا أشبه بالأم العزباء، في ظل غياب الأب الذي يحل زائرًا على البيت ليوم أو بضع ساعات، ويتنصل من أغلب التزاماته المادية تجاههما، فضلًا عن علمها بأنه يسعى للزواج بأخرى، ومع ذلك تتمسك بوجوده، بل وتشتري فستانًا ليبرز جمالها الأنثوي، حتى تباري النساء اللاتي سيحضرن إلى حفل زفاف شقيقه، في إطار يؤكد أنها مُتَقبِّلة تمامًا، لكونها مجرد جسد يُمتع، ويلد، ويخدم.
حريتها لا تعدو حدود الغناء في المطبخ، والتدخين سرًا فوق سطح المنزل، وحتى في ليلة عرس زوجها، تكتفي بالتعبير عن اَلمها بدموع ودخان سجائر تنفثه في الهواء، لكن إعلان تمردٍ لم يحدث، لتظل على حالها متعايشة مع القهر.
الدراجة أو «السيكل» رمز الحرية والتحرر
تمثل الدراجة الهوائية في هذا الفيلم، الحرية التي يتوق إليها روح وجسد «وجدة»، ووسيلتها لتشعر أنها على قدم المساواة مع صديقها “عبد الله”.
تعبر الصورة ببراعة عن رمزية الحرية والانطلاق هذه، في المشهد الذي تنظر فيه إلى صديقها برفقة أصدقائه الذكور، يقودون دراجاتهم إلى المدرسة، بينما لا تملك هي حرية التنقل بالدراجة الاَن، ولن تملكها بالسيارة عندما يتقدم بها السن.
تلتقط عيناها «دراجة» محمولة على إحدى سيارات النقل، وكأنها طائر بجناحين يحلق في السماء، تركض خلفها، حتى تلحق بها وتعلم إلى أين مقصدها، وعندما تستقر بين معروضات أحد المحال، تقترب منها، وتتأملها بشغف، ثم تتلمس مقبضها، حتى يقطع لحظات الحلم، صوت البائع وهو يخبرها بثمنها الذي يصل إلى 800 ريال، ليصبح التحدي الأكبر أمامها هو جمع هذا المبلغ.
التمرد يقود حتمًا إلى الحرية
على الرغم من أن «وجدة» نجحت في التحدي الذي خاضته، حتى تتمكن من جمع ثمن الدراجة الهوائية، وحصدت المركز الأول في مسابقة حفظ القراَن، فقدت الجائزة المادية بسبب العُرف الاجتماعي، الذي يحرمها من حقها في شراء دراجة، وتقرر المديرة وفق المنظور الأبوي الذي يحكم تصرفاتها، الاستحواذ على المكافاَة، لتقرر توجيهها فيما تراه صحيحًا.
زواج الأب ثانية، وشعور الأم بأنها أضحت بلا سند سوى ابنتها، دفعها إلى شراء الدراجة التي تريدها الصغيرة، وإن كان ذلك يبدو غير منطقيًا ، بالنظر إلى سير الأحداث، وطبيعة شخصية الأم المستكينة للهيمنة الذكورية، لكن ربما أرادت المخرجة أن تؤكد أن التضامن يأتي نسويًا، والدعم لا بد أن يكون من هذه الجهة.
في النهاية، ربح التمرد المعركة وفازت «وجدة» بحريتها، وأصبحت الاَن على قدم المساواة مع “عبد الله”، وعندما تسابقت معه تفوقت عليه.