الحرية قادمة لا محالة: في زمن الفراشات.. مناضلات اغتالتهن الديكتاتورية.. فحررت أرواحهن شعبًا من الطغيان
بينما يحتفل العالم باليوم الدولي لمناهضة العنف ضد المرأة، في الخامس والعشرين من نوفمبر من كل عام، لا يعلم الكثيرون السبب وراء اختيار هذا اليوم تحديدًا، وقليل من الذين يعرفون الذكرى التي يرتبط بها هذا التاريخ، قرأ الرواية أو شاهد الفيلم الذين صُنِعا لتوثيق وحفظ قصة الفراشات الثلاث، اللاتي قتلتهن أيادي الظلم والبطش، وكان قتلهن المسمار الأخير في نعش النظام الديكتاتوري، الذي حكم جمهورية الدومينيكان (ثاني أكبر الجمهوريّات في البحر الكاريبي بعد دولة كوبا)، في الفترة من العام 1930 وحتى العام 1961.
فيلم “في زمن الفراشات” انتجته شركة متروغولدين ماير الأمريكية في العام 2001 من إخراج “ماريانو باروسو”، وبطولة “سلمى حايك”، وقصته مقتبسة من رواية للكتابة الأمريكية من أصول دومينيكانية “جوليا ألفايز”، تحمل الاسم نفسه، وصدرت في العام 1994، والفراشات هو لقب نالته الشقيقات الثلاث “باتريشيا” و”منيرفا” و”ماريا” أبناء مزارع ثري يدعى “أنريكو ميرابال”، وقد انخرطن في تنظيمات سرية معارضة للنظام الحاكم في الخمسينيات، وقتلهن زبانية “تروخيلو” بأمر مباشر منه، قبل 6 أشهر من اغتياله.
جاءت بداية الفيلم وثائقية، تستعرض صورًا ومعلومات عن المرحلة المظلمة والوحشية، التي حكم خلالها الجنرال “رافاييل تروخيلو” بسلطة مطلقة، وخلالها أُعدِمَ نحو 30 ألف مواطن دومنيكي.
الشخصية الرئيسة في الفيلم هي “منيرفا” التي تؤديها “سلمى حايك”، وتبدو الشخصية الأقوى بين بنات المزارع “ميرابال” الأربع، إذ تصر على السفر للدراسة بمدرسة داخلية في العاصمة، تطلعًا منها إلى دراسة القانون في الجامعة، على الرغم من أن النساء وقتذاك، لم يكن لهن حق دراسة الحقوق في الدومينيكان.
في المدرسة الداخلية، وأثناء مشاركة “منيرفا” بالتمثيل في عرض مسرحي أمام الرئيس “تروخيلو”، تفاجأ بإحدى زميلاتها المشاركات في العرض تستعد لقنصه، في محاولة منها للثأر لأبيها وأخيها وأعمامها الذين قتلهم، فتتدخل وتُفشِل محاولتها لتنقذ الموقف، وهو ما يجعله يسأل عن اسمها، ليظل محفورًا في ذاكرته.
لا تنقطع المشاهد التي تجسد حالة القمع السائد في هذه المرحلة، وعلى الرغم من الجمال الذي يتمتع به هذا البلد، في طبيعته الخلابة ومبانيه ذات الطابع المميز، يبقى الخوف والظلم أطغى.
تعود “منيرفا” بعد خمس سنوات، إلى أسرتها، حيث الريف الهادئ والحياة البسيطة، لكن شيئًا ما كان ينتظرها ليغير نظرتها لـ”تروخيلو”، وهو ظهور “ليو” ويؤدي دوره المغني “مارك أنطوني”، وهو مدرس قانون في الجامعة، فضلًا عن كونه معارضًا شيوعيًا، تقع في حبه، وهو ما يرفضه والداها اللذان يفضلان البقاء بعيدًا عن السياسة لتجنب غضب السلطة الباطشة.
في حياة “منيرفا” الحقيقية، لا يوجد شخص اسمه “ليو”، لكن هذه الشخصية تتشابه مع شخصية “بريكليس فرانكو”، وهو شاب، عُرِف بمناوئته للنظام الحاكم حينذاك، واعتقلته السلطات عدة مرات، ونشأت بينه وبينها علاقة حب، كان لها أثرها في تشكيل وعيها السياسي.
يرحل “ليو” ويترك البلد ليناضل ضد النظام من ساحة أخرى أكثر أمنًا، على أمل أن يعود إليها وإلى “منيرفا” بعد سقوط النظام، لكن عودته لن تتحقق لأنه سيُقتل مثل اَلاف المعارضين، ولأنها ستصطدم بواقع أسوأ سيغير حياتها وأسرتها كليًا.
تستقبل أسرة “منيرفا” دعوة لحضور إحدى الحفلات التي ينظمها “تروخيلو”، فضطر الأسرة لتلبية الدعوة مرغمةً، وخلال الحفل تجد الفتاة نفسها، منعزلة عن أسرتها، ومجبرة على الرقص معه، ثم تفاجأ به يتحرش بها جسديًا، فتصفعه على وجهه أمام الحضور.
لا يوجد ما يثبت أن “منيرفا” الحقيقية صفعت الديكتاتور “تروخيلو”، لكن يقال أنها وجهت إليه الكثير من النقد، وعبرت عن سخطها تجاه الممارسات الاستبدادية المستشرية في البلاد، وأنها انسحبت غاضيةً من الحفل بعد تحرشه بها أثناء رقصه معها.
يأمر “تروخيلو” حرسه بترك “منيرفا”، وقد وافق على أن تعود مع أسرتها إلى البيت دون أن يمسها أحد بشر، وبينما يسيطر الذعر على شقيقاتها ويلمنها على ما فعلت، يدعم أبويها موقفها، ظنًا من الأب بأن اعتذاره عما بدر منها سيرفع العقاب، لكن ذلك لم يحدث، فقد جاء رد الديكتاتور أسرع مما توقعوا، ففي اليوم التالي أرسل شرطته، لتعتقله.
تذهب “منيرفا” إلى “تروخيلو” في قصره، وينتهي اللقاء بموافقته على أن يخرج والدها من المعتقل، وأن يتركها تذهب إلى الجامعة لدراسة القانون، على الرغم من أن ذلك ليس متاحًا للنساء، لكن يتوفى الأب بعد أيام معدودة من عودته إلى البيت، إثر ما تعرض له من تعذيب، ليمثل ذلك نقطة تحول في حياتها، إذ تقرر الذهاب بالفعل للدراسة في العاصمة، لتبدأ مرحلة جديدة، تمارس فيها نشاطًا سياسيًا، يهدف إلى إسقاط هذا النظام.
الشقيقات الأخريات؛ أكبرهن “باتريا” وأصغرهن “ماريا تريسا” انخرطتا أيضًا في النشاط السياسي ضد “تروخيلو”، على عكس شقيقتهن “ديدي” التي اختارت طريقًا مختلفًا، وكانت بمنأى عن السياسة، واكتفت بمساعدتهن في رعاية أبنائهن، أثناء انشغالهن في العمل السياسي السري، وهي من قصَّت قصتهن بعد الاغتيال.
في الجامعة، تتعرف “منيرفا” إلى مجموعة من الطلاب الشيوعيين، الذين يلقبونها بــ”الفراشة”، وهو اللقب الذي كان “ليو” أول من أطلقه عليها، وتنخرط معهم في العمل السياسي السري، وتجعل من بيتها مقرًا لاجتماعاتهم، ثم تكتشف أن شقيقتها الصغرى “ماريا تريسا”، قد انضمت إلى نفس التنظيم، وأضحى طريقهما في المقاومة واحدًا.
تتزوج “منيرفا” من أحد هؤلاء الطلاب، أثناء دراستهما، فيتحول هذا الزواج إلى أداة في يد “تروخيلو” الذي يجدها فرصة لحرمانها من شهادة التخرج وينتزع فرصتها في أن تصبح محامية، ويقرر حجب هذه الشهادة، قائلًا لها إنه وعدها أن تدرس القانون، لكنه لم يعدها أن تكون محامية، وطالما تزوجت، فإن بقاءها في المنزل أفضل، ليزيد ذلك من الغضب المشتعل داخلها تجاهه.
تتبني شقيقتهما الكبرى “باتريا” نفس الأفكار، وتقرر السير في نفس الطريق الذي كانت ترفضه من قبل، ليتوحد الثلاث على نفس الهدف، وهو إسقاط الديكتاتور، ثم تعتقل “منيرفا” وشقيقتها “ماريا تريسا”وأزواجهما، بالإضافة إلى زوج شقيقتهن الكبرى، ويتعرضون لأشد أنواع التعذيب وأكثرها قسوة، وفي لقطات عابرة، يظهر تعاطف السجانة مع “منيرفا”، ومساعدتها لها على استحياء، ليكشف ذلك أن السجان نفسه، ضاق بهذا الحكم الغاشم.
أغلب المراجعات الصادرة والمنشورة حتى وقتنا الراهن، ترى أن الفيلم لم يكن في نفس حيوية الرواية، وأن النص الأدبي المكتوب بقلم “جوليا ألفايز” كان أكثر قوةً وتماسكًا.
بمساعدة إحدى المنظمات الحقوقية الأمريكية، تطلق السلطات سراح الشقيقتين، وبعد الخروج يجدان أن شيئًا ما تغير حولهما، فقد أصبح الكثيرون يدعمونهما، ويردد البعض همسًا في أذانهما “يحيا الفراشات” و”حفظ الله الفراشات”، وهو على الأرجح ما دفع بالديكتاتور لاتخاذ قراره بكتابة فصل النهاية في قصة الفراشات، دون أن يعلم أنه بذلك يكتب نهايةً لقصة حكمه وحياته، فيقرر السماح للشقيقات الثلاث بزيارة أزواجهن المعتقلين في السجن، وبعد الزيارة، يجدن عناصر شرطية وأفراد غير معلومي الهوية يتتبعون سيارتهن، يوقفوهن ويقتادونهن وسائقهن، إلى أحد حقول قصب السكر، ويقتلونهم جميعًا ضربًا بالهراوات.
انتهى الفيلم، بمشهد القتل بالهراوات، لكنه لم يشر إلى أن القاتلين، أعادوا جثث الأخوات ميرابال وسائقهن إلى السيارة، ثم دفعوها نحو منحدر صخري، ليوحي بأن موتهم جاء نتيجة حادث، ومع ذلك أيقن الشعب الدومنيكي أن “تروخيلو” هو من يقف وراء قتل الفراشات.
العودة إلى الواقع
كان اغتيال الأخوات “ميرابال” حافزًا للتغيير في بلد غارق في دماء الضحايا الأبرياء الذين ناضلوا ضد نظام الديكتاتور، وأصبحن رمزًا للمقاومة والحرية والعدالة، وتحولت قصتهن إلى مصدر إلهام لكل نساء العالم، وفي العام 1999، حددت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 25 نوفمبر وهو ذكرى وفاتهن، ليكون يومًا دوليًا لمناهضة العنف ضد المرأة، وذلك تكريمًا لهن ولنضالهن، كما حولت شقيقتهن “ديدي” المنزل الذي ولدن فيه، إلى متحف يضم مقتنياتهن.