فلننظر إليه مجددًا: «واحد صفر».. لا مناص من التحايل على القهر في المدينة القاهرة
واحد من أهم الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية، خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، ويعد أحد أبرز الأفلام السينمائية، التي تنتمي إلى ما يُسمَّى بالتيار النسوي، الذي يتقدم صفوف صناعه ، كلٌ من “كاملة أبو ذكري” و”مريم نعوم”، مخرجة وكاتبة هذا العمل، كما أنه أول فيلم مصري يخوض في أزمة الطلاق والزواج الثاني للمسيحيات، الذين تمنعهما الكنيسة الأرثوذكسية.
عُرِضَ فيلم “واحد صفر” في دور العرض السينمائية المصرية، في الرابع من مارس من العام 2009، وأثار حينذاك جدلًا واسعًا، وصل إلى إحالة بلاغ ضده إلى نيابة جنوب القاهرة للتحقيق، بحجة أن إحدى القصص الواردة فيه تخالف مبادئ العقيدة المسيحية، وذلك بعد أن تقدم عدد من المحامين ببلاغ ضد صناعه وهيئة الرقابة على مصنفات الفنية، اعتراضًا على تناوله لقضية طلاق المسيحيات وزواجهن الثاني.
يسرد الفيلم قصصًا لعدد من الشخصيات، من خلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة، إلا أن قصصهم تكشف حجم الهموم التي يغرق فيها سكان مدينة القاهرة، مهما كانت الاختلافات بينهم. تدور الأحداث في يوم واحد، ينتظر فيه المصريون، المباراة النهائية في بطولة كأس الأمم الإفريقية في العام 2008، التي تجمع بين مصر والكاميرون وتنتهي بهدف مقابل لا شيء لصالح المنتخب المصري.
يبدو اسم الفيلم معبرًا عن النتيجة التي انتهت بها المباراة، وقد يُنظَر إليه، كونه يعبر عن هزيمة كل أبطال الفيلم أمام الظروف الحياتية التي تُجبِر كل منهم إلى ارتكاب الأخطاء، كنوع من التحايل عليها.
بصدق وواقعية، جسَّد الفيلم الهزيمة النفسية، التي تعيشها هذه الشخصيات، ونقل حالة عامة، تدفعهم وتدفع ملايين المصريين، إلى البحث عن الانتصار في ذلك الهدف، الذي يسجله المنتخب المصري في مرمى الكاميرون، لعل ذلك يُخَّلص أذهانهم، ولو لساعات قليلة من التفكير في مشاكلهم التي لا تنتهي، ويُبَّدل همومهم الممتدة بأفراح قصيرة.
بين تسع شخصيات رئيسة، يستعرض الفيلم قصص أريع شخصيات نسائية، تنتمي لفئات عمرية مختلفة وطبقات اجتماعية متباينة، يشتركن في المعاناة تحت وطأة العنف الذي تتعدد مصادره، وأولهن “نادية، وتؤدي دورها “زينة”، التي يجبرها الفقر المدقع، على التخلي عن الشاب الذي أحبته، وترك أسرتها، وتقديم جسدها قربانًا لأحد منتجي الألبومات الغنائية، في مقابل تخليصها من ذلك الفقر، وبعد أن تقبل باستغلالها جنسًيا، تتحول إلى “نينا”، وتصبح فتاة من فتيات الفيديو كليبات، صاحبات الأصوات الرديئة، التي ينلن الشهرة، بسبب أجسادهن التي تصورها العدسات، كسلع معروضة أمام مشاهدين، يعاني غالبيتهم من الكبت الجنسي.
تكتشف “نادية” أنها لم تنل شيئًا سوى شهرة زائفة، ولم تتكسب مالًا يكيفيها لتخرج شقيقتها وأمها من مستنقع الفقر، بينما يتكسب ماديًا من جسدها المُباع، منتج ألبوماتها، وأصحاب القنوات والبرامج التلفزيونية، التي تستضيفها للمتاجرة بجسدها أو لاستغلالها كمادة خام للسخرية من ضعف الإمكانيات الصوتية وانعدام الموهبة، مما يرفع نسب المشاهدات ويزيد المساحات الإعلانية، وعلى الرغم من كل تلك المعاناة النفسية، ترفض التمرد أو العودة إلى حياتها الأولى إلى جانب أمها وشقيقتها.
الشخصية الثانية هي “ريهام” شقيقة “نادية”، وتجسدها “نيللي كريم”، في أول أداء تمثيلي لافت لها، قبل أن تصبح نجمةً أولى، فيما بعد، بفضل عدد من الأعمال الدرامية التي تعاونت فيها أيضًا مع المخرجة كاملة أبو ذكري والسناريست مريم نعوم، أهمها مسلسل “سجن النساء”.
تقتصر مهنة “ريهام” على الذهاب إلى المرضى في بيوتهم لإعطائهم الحقن الطبية، وجميعهم إما من الطبقة المتوسطة أو من الطبقة العليا، وعلى عكس شقيقتها، تعيش مستسلمةً بشكل كامل للظروف، وتتحمل دائمًا قسوة المجتمع، وتصمت كثيرًا أمام النظرة الدونية لها.
طبقات من الأقمشة تغطي جسدها النحيل بالكامل، وجه يابس، عيون حزينة حتى لو ابتسمت شفتاها، هكذا يمكن وصف مظهر “ريهام”، التي تشبه كثير من النساء في المجتمع المصري، وعلى الرغم من كل هذه المعاناة، يتسلل الحب إلى قلبها، وتنجذب إلى شاب يعمل بمحل لبيع السندويتشات، تتردد عليه يوميًا لشراء فطورها، ثم يتواعدا ليلتقيا لأول مرة، ويصارحها بمشاعره، لكن لأن الظروف لا تقف مع هؤلاء الأشقياء في تلك المدينة التعيسة، تجد نفسها في مركز الشرطة، متهمةً بممارسة فعلٍ فاضح في الطريق العام.
خلال الدقائق القليلة التي جمعت “ريهام” بذلك الشاب، سألته “هو أنا جميلة؟”، وكأنها تبحث عن مراَة ترى فيها جمالها المدفون.
الشخصية الثالثة هي”نيفين” وتجسدها “إلهام شاهين”، وهي صاحبة القصة التي أثارت كل الجدل الذي صاحب الفيلم، وهي امرأة مسيحية، في الأربعينيات من العمر، ضاع شبابها في زيجة فاشلة، وتحملت مُجبرةً ست سنوات معه، ثم هجرها لثلاث سنوات، وضاعت خمس سنوات أخرى، تسعى خلالها إلى الحصول على الطلاق، وبعد أن حصلت عليه بشق الأنفس، تجد نفسها محرومة من الزواج مجددًا، بينما قررت الكنيسة السماح لطليقها بالزواج ثانية، لأنها من طلب الطلاق و”فرقت بين من جمعهما الرب”، وبسبب هذا التعنت، تصبح “نيفين” في مأزق، بعد أن تأكدت من حملها، الذي طالما حلمت به من الرجل الذي تحبه، وتعيش معه في علاقة كاملة خارج إطار الزواج، ويزداد الأمر تعقيدًا، عندما تفاجأ بأن “شريف” الذي تحبه، لا يريد التقدم خطوة للأمام في علاقتهما، ولا يريد زواجًا ولا يريد ابنًا، في موقف ليس جديد على مجتمع تحكمه الذكورية في العلاقات بين الجنسين.
الشخصية الرابعة، وهي “هدى” وتؤدي الدور “انتصار”، بأداء احترافي متوهج، وهي سيدة تعمل “حفَّافة”، أي المرأة التي تشتغل بأعمال النظافة الجسدية للسيدات، المتعلقة بإزالة الشعر والتنعيم وغيره، ومثل الثلاث شخصيات السابقة، تعاني “هدى” من القهر الذي يصيبها من كل اتجاه، الفقر والعوز يرغمها على تحمل إذلال السيدات التي تذهب إليهن، ولا مناص من العيش من ابنٍ، يسيء إليها قولًا وفعلًا، ولا مفر من مهنة موصومة بأنها مهنة الساقطات، ولا مخرج من نفق الكبت الذي دُفِعت إليه، وهذا لا يعني أنها لا ترتكب أخطاءً، فكثيرًا ما تتحايل، وتكذب، وتقبل بما لا يُقبَل، لكن ذلك بالنسبة لها، نوع من مقاومة العنف الذي يصاحبها في كل خطوة.
الشخصيات الذكورية .. قبيحة ولكن
ظهرت كل الشخصيات الذكورية قبيحة، لكن الفيلم طرح ما قد يكون مبررًا للقُبح الذي أضحت عليه، وأول هذه الشخصيات، رجل نذل “شريف”، اختار التخلي عن امرأة أحبته، وعاش في كنفها، يتمتع بحبها وجسدها ومالها، بمجرد علمه بحملها منه، رافضًا أن يخوض معها أي معركة للحفاظ على ذلك الحب والابن القادم، مخيرًا إياها بين الإجهاض أو إنهاء العلاقة، ومع ذلك، يبدو أن هناك جانبًا مظلمًا في حياة هذا الرجل، يثير داخله مخاوف من الإنجاب، فضلًا عن هروبه المستمر من الواقع، عبر زجاجة خمر وسجارة حشيش لا تفارقان يديه، إلا فيما ندر.
الثاني “عادل”، وهو شاب يعمل في صالون تجميل نسائي، تركته حبيبته، هاربةً من الفقر يعيشان تحت وطأته، ولذلك ربما نجده مصرًا على أن يؤسس صالونًا بأي شكل وأي وسيلة، حتى لو كانت سرقة المستحضرات والزبائن من الصالون الذي يعمل فيه. ذكورية هذا الشاب المشوش، تدفعه إلى التشابك بالأيدي مع مدير الصالون بعد أن وصم أمه بــ”النجاسة”، لكنه يعود إلى البيت، ويوجه إليها نفس الوصم، ويتهمها بالعهر، ويعتدي عليها بالسب والضرب، ويحاول أخذ أموالها عنوةً، على الرغم من أنها ملاذه في الحياة معنويًا وماديًا، ومع ذلك عمد السناريو إلى أن يجعل المشاهد يرى هذا الشاب رُغم قبح ما يرتكب بحق أمه وحماقته الشديدة، إلا أن شخصيته المضطربة تبقى نتاجًا لللكمات الموجهة إليه، ولا يملك صدها في ظل منظومة اجتماعية فاسدة.
حتى شخصية الطفل، الذي ينتمي لفئة الأطفال في ظروف الشارع، يسرق جده، ويشرب الحشيش ويتاجر فيه، ويهمس في أذن سائق الميكروباص الذي يعمله معه تبّاعًا، بنكتة من النكات الإباحية، لينال رضاه، وهو أيضًا متحرش وعندما تأتيه الفرصة للتحايل والنصب يفعل، بالشراكة مع جده، ومع ذلك وفي كل لحظة يرتكب فيها فعلًا دنيئًا، لا يمكن أن يخرج من خانة ضحايا هذه المدينة، التى تلفظ أمثاله، وكما حرمته طفولته، قد تنتزع حياته برمتها، وربما تكون هذه القسوة، هي ما جعل الطفولة بمفهومها التقليدي وهمًا، ولا مجال لمواجهة هذه الحياة شديدة الفظاظة والخشونة، إلا بوأد هذه الطفولة.
الحضور النسائي خلف الكاميرا
هذا الفيلم نسوي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ليس فقط لاقتحامه المحظورات، وإنما لأنه نجح في صياغة الشخصيات النسائية بمنتهى الواقعية، دون الانغماس في إشكالية النماذج الإيجابية والسلبية السطحية، فقد قدمها شخصيات تشبه تلك التي تعج بها الشوارع، ويدفعها عنف المجتمع إلى التحايل عليه، حتى تنجو من الإجحاف وتجبٌّر الرجال الذين يمسكون بزمام السلطة في كل مكان.
علاوة على ذلك، هذا الفيلم يمثل صورةً بازغةً لتمكين المرأة في صناعة السينما، سواء في حضورها أمام الكاميرا أو خلفها، وفضلًا عن المخرجة “كاملة أبو ذكري” والكاتبة “مريم نعوم”، هناك “أمل أبو شادي” مديرة الإنتاج، والمونتيرة “منى ربيع” ومديرة التصوير “نانسي عبد الفتاح”، ومصممة الملابس “داليا يوسف” بالإضافة إلى مساعدتي المونتاج “دارين حمدي وهبة عثمان”.
نساء القاهرة.. باحثات عن الصفو وسط سيل من المنغصات
لا تخلو حياة النساء في هذه المدينة، من المتاعب والمشاق اليومية، وقد قدمها الفيلم في سياق مُحكَم، فلم تكن دخيلة على الأحداث، أو بمثابة رسائل مباشرة، وإنما كانت شديدة الطبيعية، تشبه ما تعيشه النساء فعليًا في حياتهن اليومية.
تعرض الفيلم لظاهرة التحرش الجنسي، مع الإشارة إلى أن الفيلم قد صدر في العام 2009، عندما كانت هذه المسألة من المحظورات والقضايا غير المحبذ الحديث عنها، قبل أن تندلع ثورة الـ25 من يناير في العام 2011، ويصبح التحرش الجنسي القضية الأكثر نقاشًا على كافة المستويات.
«المُتَحرش في موضع أقوى أو يحميه المحيطون» هذا ما يؤكد عليه الفيلم في مشهدين، الأول، عندما استخدم أمين الشرطة سلطته، لمعاقبة “ريهام” التي رفضت تحرشه بها جنسيًا، والثاني، عندما اتهم بعض راكبي الأتوبيس “هدى” بأنها السبب في تعرضها للتحرش على يد الجالس إلى جوارها.
وفي المشهد الثاني تحديدًا يبدو الأمر أكثر تعقيدًا، فكما عرض الفيلم هذا الجانب المتعلق بتعامل المحيطين مع المتحرش الذي حاول تقبيلها عنوةً، عندما حمَّلوها مسؤولية ما تعرضت له، ودفعوا به إلى خارج الأتوبيس، كمساعدةً له للهروب من أي عقاب اَخر، عرض أيضًا حالة الكبت الجنسي التي تعتري “هدى”، وتجعلها تقبل بلمسات تمر على جسدها، سواء كان ذلك استسلامًا لشيء سيعبر دون أن يترك أثرًا، أو احتياجًا لما يعيد الدفـء لهذا الجسد.
الاستغلال الجنسي حضر من خلال قصة “نينا”، ورغم رضوخها، حافظ الفيلم على ألا يتعامل بشكل ساذج مع الشخصية، وأبرز على الرغم من المساحة الضيقة المتاحة للشخصية، حجم الضغوط النفسية التي تعيشها، ومدى التمزق الذي يجعلها غير قادرة على الاختيار، الذي لا يعدو أن يكون اختيارًا بين السيء والأسوأ.
أزمة “نيفين” سلطت الضوء على هؤلاء النسوة، اللاتي تنزف جروحهن في صمت، ولا يملكن الصراخ بصوت عالٍ رُغمَ الاَلم الشديد، الذي يضيع معه العمر، وتذبل بسببه الأرواح والأجساد ولا منقذ لهن، بسبب الخوف من المساس بأي شيء له علاقة بالدين في مجتمع، لا يقبل الخوض في ما يعتبره مُسلَّم به بغض النظر عن عواقبه، رافضًا حتى تسليط الضوء على المشاكل الناجمة عن مثل هذه الأمور.
مشكلة “نيفين” أثارت بوضوح الأسئلة، التي لا يجيب عنها أصحاب القرار في هذا الشأن، ولعل أبرزها؛ هل خلق الله هؤلاء النساء ليعاقبهن، أو ليعشن تعيسات حتى نهاية العمر؟ وأين العدل في حرمانهن من حقهن في الحب والزواج والإنجاب؟