شهادات تكشف: كيف أصبح التحرش الجنسي بالصحافيات طقسًا والصمت عنه من المقتضيات؟
عادةً ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن التحرش الجنسي، ما تتعرض له النساء في الشارع أو وسائل المواصلات، خاصةً مع زيادة التوعية والحديث عن وقائع التحرش الجنسي سواء كان لفظيًا أو جسديًا، خلال السنوات الأخيرة وتحديدًا منذ تصاعد وتيرة الاعتداءات الجنسية بحق النساء في المظاهرات، التي شهدها ميدان التحرير منذ اندلاع ثورة يناير في العام 2011 وحتى يونيو من العام 2013، إلا أن التحرش الجنسي يلاحق النساء في كل مكان تقريبًا.
تتعرض الطالبات للتحرش داخل المدارس والحرم الجامعي، والنساء العاملات يتعرضن له في مقار العمل، في ظل تغير إيجابي فيما يتعلق بمقدرة النساء على البوح بما يتعرضن له من انتهاكات، وإن كان البوح بالتحرش الجنسي داخل مؤسسات العمل، يعيقه ما هو أكثر من الوصمة الاجتماعية التي تطال الناجية من التحرش، مثل؛ الخوف مما سيلحق بها في إطار العمل، كالتربص بها أو حرمانها من التعيين أو فرص الترقي، أو الإساءة إليها وإلصاق تهمة الكذب بها، أو الاستغناء عنها نهائيًا خاصة لو في عمل بالقطاع الخاص، ولعل أبرز مؤسسات العمل التي تعايش فيها الفتيات والسيدات هذه الحالة، هي المؤسسات الإعلامية.
كانت قضية الصحافية “منى يسري” التي تقدمت ببلاغ ضد رئيس تحرير مجلة روزاليوسف السابق “إبراهيم خليل”، تتهمه فيه بالتحرش الجنسي بها في مكتبه خلال اجتماع بينهما، هي القضية الأبرز في كشف معاناة الصحافيات مع التحرش داخل مؤسسات العمل.
وكانت “يسري” قد ذهبت لمقابلة رئيس التحرير، لمناقشة أفكار عمل، حتى فوجئت به أثناء اللقاء، يتحرش بها جسديًا، بعد أن قبَّلها وعانقها رُغمًا عنها، ثم كتم صرخاتها عندما حاولت الاستغاثة بمن كان في مقر الجريدة.
قصة “منى يسري” لم تكن الأولى وليست الأخيرة، التي توثق تعرض الصحافيات والعاملات في مجال الإعلام عمومًا، إلى اعتداءات جنسية سواء لفظية أو جسدية من جانب الرئيس في العمل أو زملائهن، إلى جانب مخاطر التعرض للتحرش أثناء العمل ميدانيًا، أو حتى من قبل من يُطلَق عليهم المصادر أي الضيوف أو المُحَاورين.
تركت الصحافة للأبد
“هاجر هشام” تبلغ من العمر 27 سنةً، خريجة كلية الإعلام في جامعة القاهرة، قررت وبعد أربع سنوات من العمل أن تترك الصحافة إلى الأبد، كانت “هاجر” قد تخرجت في الجامعة بتقدير جيد جدًا، وتدربت في إحدى الصحف القومية لمدة سنتين، ومن بعدها سنتين من العمل، ومع ذلك ألقت بكل هذا وراء ظهرها، وعادت إلى المحافظة التي جاءت منها، للعمل في إحدى شركات الهواتف النقالة.
تروي “هاجر” قصتها مع عالم الصحافة «أدركت أن التقدير العام وسنوات العمل الأربع التي قضيتها في المهنة، منها سنتين كمتدربة وأخريتين كصحافية مشتغلة، لم تكن كافية وكفيلة لأنال حقي في الانضمام إلى نقابة الصحافيين، ومن ثم فالعودة إلى بلدتي أمر حتمي، لأن القاهرة لم تكن أبداً مكانًا لذوي النوايا الطيبة.»
عملت “هاجر” بعد تخرجها في إحدى الجرائد الخاصة، لمدة سنتين، وحصلت على راتب بعد الشهر الأول من العمل، نظرًا لكفائتها التي شهد بها الجميع، ولكن عندما حان وقت التعيين للالتحاق بنقابة الصحافيين، لم تجد اسمها بين الزملاء والزميلات المرشحين.
وتستطرد «عندما سألت عن حقي في التعيين، لا سيما أن القائمة ضمت أسماءً لمن هم أقل مني خبرة، فكان تبرير رئيسي في العمل، فيما يخص اختيار إحداهن “لأنها مهاودة وبتسمع الكلام”، أدركت حينذاك أنها لحظة انتقام من محاولاته الكثيرة، لإجباري على الدخول في علاقة معه، بعد أن حاول مرارًا أن يقنعني بمرافقته لتناول العشاء معًا.»
رئيس التحرير على الهاتف: وحشيني!
«لا استطيع أن أحدد حجم الأثر السلبي، الذي أحدثته تجارب العمل خلال فترة عملي في مجال الإعلام، لقد بدأت أشعر بانعدام الثقة في نفسي كصحافية أو باحثة ومعدة تلفزيونية، فلماذا يحاولون التحرش بي، هل يرونني فاشلة في عملي، ويغضون الطرف عن هذا الأمر في مقابل الحصول على شيء اَخر؟، لقد كرهت كوني أنثى، لماذا يتجاهل هؤلاء عملي وينظرون لي فقط كأنثى؟!»
دخلت “مريم إبراهيم” التي تبلغ من العمر 25 سنةً، الوسط الإعلامي في العام 2010، من خلال مقابلة عمل، نجحت وتفوقت وأظهرت كفاءةً في عملها، حتى ارتفع راتبها في غضون أشهر ثم ترقت بعد أشهر أخرى، وانتقلت من موقع لاَخر داخل مؤسسة العمل، وبعد فترة استقبلت مكالمةً في تمام الساعة الرابعة صباحًا من رقم مجهول، فأجابت بحذر فوجدته رئيس تحرير الجريدة التي تعمل بها، وعندما سألته عن سبب الاتصال في هذه الساعة المتأخرة، أجابها بـــ«وحشتيني»، والأغرب أنها أول مرة يجري بينهما اتصال، لذلك لا يمكن تفسير الكلمة إلا من منطلق واحد سلبي.
وتقول « صرت أذهب إلى العمل في حالة شديدة البؤس، اتجنب التواجد في الأماكن التي يتواجد فيها، وقضيت شهورًا مريرة، حتى رحل عن المؤسسة وانتقل إلى أخرى. »
لأنه في مركز القوة.. الصمت كان الحل!
«يحدث كثيرًا في أوساط العمل والتجمعات، أمورًا نعتبرها أو نصنفها كونها مجاملات أو ملاطفات، لكنني أدرك أن الهدف أبعد من ذلك، ليس فقط بحواسي وذكائي ، وإنما بسبب تلك الوقائع التي تسردها زميلات العمل.» تقول سمر سمير التي تبلغ من العمر 26 سنةً.
وتتابع «يقولون أنني متدينة، أرتدي ملابس فضفاضة وحجابًا، ولا أضع مستحضرات التجميل، ولا أسمح لأحدهم بالحديث معي إلا في إطار العمل، ومع ذلك في إحدى المرات، كنت أقف أمام صالة تحرير الجريدة التي أعمل بها، أتحدث في الهاتف إلى أحد المصادر، وإذ بمدير التحرير يقاطعني، ويقول “أنتِ إزاي اَنسة وحلوة أوي كدا النهاردة”، صُدِمت مما قال، ولم أجد ما أجيبه به، سوى أن أدير ظهري متحججةً بالحديث في الهاتف.»
توغل في وصف تلك اللحظات «كان الموقف بالغ الصعوبة بالنسبة لي، خاصة أن نظرات عينه كانت تتفحص كل جزء في جسدي، وانشغل عقلي فقط برد فعلي؛ هل التجاهل كان الحل الأفضل أم كان علي أن أرد بشكل أكثر حسمًا؟»
وتختتم “سمير” قائلة «عندما أتحدث مع نفسي، أجد أنني كنت مضطرة ألا أفعل أي شيء، لأنه في مركز قوي ومن السهل أن يسرحني من العمل، خاصة في ظل عدم إبرام أي عقود عمل للصحافيين في المؤسسات الخاصة، وبالتالي لا يوجد ضمانات لحقوقهم.»
طلب مني أن أطبع قبلة على خده قبل الانصراف!
الوضع لا يختلف كثيرًا في التعاملات بين الصحافيات والمتخصصين، الذين يعتبرون من أعمدة المهنة، فالصحافة تُعَّرف بأنها الرابط بين المختصين أو المسؤولين والمواطنين أو القراء.
تسترجع “مريم سامح” التي تبلغ من العمر 29 سنةً، واقعة التحرش بها على يد أحد المتخصصين أو المعروفين باسم المصادر، عندما ذهبت إليه للحصول على معلومات لدعم تحقيق تجريه عن تراجع اللغة العربية، لصالح مجلة الجامعة.
وتقول «ذهبت لمقابلة نائب رئيس مجمع اللغة العربية، وكان رجلًا يقترب من الـ 80 عامًا، وعندما وصلت إلى مكتبه، وأبلغت الموظفين، بالموعد المحدد مسبقًا لمقابلته، فؤجئت حينها، بتبادل النظرات بين بعضهم البعض، وهم يضحكون، ثم قال أحدهم “خلي بالك بقى، لأنه الدكتور بيحب الضحك والفرفشة.”»
وتردف قائلة «كنت صغيرة السن، ولم أفهم المغزى، فدخلت إلى الرجل ومرت أول عشر دقائق من الحوار، وهو يقول بين الفينة والأخرى “ياقمر أو ياحلوة”، حتى صمت فجأة، وقال بعد لحظات “البنات الصغيرين حلويين ويردوا الروح”، ثم امسك بيدي، وطلب مني الجلوس إلى جانبه، عندها شعرت بالحرج وازداد توتري وقلقي، فقررت الانصراف فورًا، فإذا به يطلب مني أن أطبع قبلة على خده قبل الانصراف.»
بعدها تراجعت عن فكرة العمل في الإعلام المرئي
«طلبت من أحد الزملاء في الجريدة التي أعمل بها، أن يبحث لي عن فرصة عمل في إحدى القنوات الفضائية، التي تعتبر مصدر دخل للصحافيين، كما أنها تُصقل مهاراتهم، خاصة بعد نصحني كثيرون بألا ينصب اهتمامي على الجريدة فقط، وأن أبحث عن مصدر دخل اَخر مصدره القنوات التليفزيونية، وبالفعل ذهبت لمقابلة أحد رؤساء تحرير البرامج المعروفين، في مقر عمله، ووعدني الرجل بأن يجد فرصة لي كمراسلة أو معدة في أقرب وقت.» تحكي “هند محمود” التي تبلغ من العمر 24 سنةً، قصة الاَلم التي عاشتها بسبب رئيس تحرير برتبة متحرش.
وتتابع «جرت اتصالات عديدة بيننا بعد ذلك اللقاء، حتى دعاني في إحدى المرات للقائه في أحد المطاعم في حي الزمالك، للحديث بشأن برنامجه الجديد، وخريطة العمل والمهام المحددة لي، فذهبت.»
تقول “هند” إن الحديث كان في أغلبه عن حياته الشخصية ومشكلاته مع زوجته وغيرها من الأمور، ولم يتطرق إلى البرنامج إلا في نقاط قليلة، ووعدها في نهاية المقابلة بأن تبدأ العمل مطلع الشهر المقبل، ثم عرض علي توصيلي إلى أقرب مكان من منزلي، ليخفف عني عناء ومشقة المواصلات، فرفضت في البداية ومع إلحاحه، قبلت، وما إن استقليت السيارة، حتى فوجئت به بدون أي مقدمات يحاول تقبيلي عنوةً.»
بلهجة يكسوها الانكسار والشعور بالخذلان تختتم قائلة «من بعد هذه الحادثة، تراجعت عن فكرة العمل في الإعلام المرئي بشكل نهائي.»
ملحوظة: جرى تغيير الأسماء بناءً على رغبة صاحباتها