الصورة لمركز ألوانات

لم يكن أحد ليتوقع أن يشهد مسرح ديوان محافظة المنيا يومًا ما إقامة عرض باليه، ليكون الأول من نوعه في الصعيد، وهو ما تحقق على يد مركز  ألوانات، الذي نظم عرضًا يضم خمسين طفلةً وطفلًا، هم بمثابة الحلم وبوابة العبور إلى حياة جديدة، تلونها البهجة، وتغمرها نسائم الرقص، وتنبذ الدم والتطرف.

بين الرفض والرقص: “عايزة تطلعى بنتك رقاصة .. البالية ضد الحجاب.. هتعريها للناس”

لقد شهد هذا المسرح مناسبات عديدة، كالندوات الرسمية أو الخطب الرنانة عن نبذ العنف والطائفية والأفكار المتشددة التي تنتشر في المحافظة، ولكن يبدو أن عرض باليه “سندريلا” سيظل  الأصدق بين هذه الشعارات الجوفاء، التي لم تُنجز شيئًا على أرض الواقع.

“سندريلا” يؤسس لمسار جديد يحارب العادات والتقاليد المحافظة التي ترفض الرقص، وهو الأمل لأجل صورة مغايرة للصعيد، الذي يعد الأكثر حرمانًا من الخدمات الثقافية في مصر.

محافظة المنيا التي تبعد عن القاهرة بنحو 235 كيلومترًا، والملقبة بمدينة الجن والملائكة، حيث ينتشر فيها أناس يمسكون معاول الهدم والحرق، لتخريب بيوت الله، مساجد كانت أو كنائس، وفي مقابل ذلك، يوجد على هذه الأرض مركز ثقافي يحمل اسم “ألوانات” يعمل على اكتشاف مواهب الأطفال، ويشجعهم على العزف على الآلات الموسيقية والتلوين بفرش الرسم، وهو الكيان الذي يقف وراء تأسيس أول مدرسة للباليه في الصعيد، وأطلق أول عروضها الرسمية في 31 أغسطس الماضي.

«حلم تأسيس مركز ألوانات سيطر على عقلي منذ عام 2002، وقتما كنت أدرس في كلية التربية الفنية في القاهرة، وذلك لشعوري بغيرة بسبب حرمان محافظتي المنيا، من أي ساحة فنية ثقافية تكتشف المواهب، ويُمارس فيها الأنشطة المختلفة، عكس القاهرة الممتلئة بمثل هذه المساحات، مثل؛ الأوبرا ومسرح روابط وغيره، حتى تحقق الحلم في عام 2014، بمشاركة مجموعة من الشباب آمنوا بالفكرة” يقول ماركو عادل مؤسس ومدير مركز ألوانات الثقافي. »

ويضيف “عادل” في تصريحات لـ”ولها وجوه أخرى” «مع الإقبال الجماهيرى والنزول إلى القرى والشوارع، تنوعت أنشطة المركز ما بين الرسم، والعزف، والزومبا، والجمباز، وتعلم اللغة والمسرح، وصولًا إلى تأسيس مدرسة الباليه في عام 2015، بعد استبيان شجعه أولياء الأمور وعبروا من خلاله عن حبهم لهذا الفن الراقي وحرمانهم من تعلمه بسبب تغييبه عن منطقة الصعيد. »

يرى “عادل” أن العادات والتقاليد لم تكن سببًا مباشرًا في تحفظ بعض الأهالي على فن الباليه، بقدر ما كان عدم وجود أماكن لتعليمه في الصعيد هو السبب، وأكبر دليل من وجهة نظره أن المدرسة استقبلت في البداية 8 أطفال، والآن تضم 200 طالب وطالبة، وأعمارهم تتراوح بين 4 سنوات و25 سنة، حسب اللياقة البدنية.

يوضح مؤسس مركز ألوانات أن الأطفال يتلقون نفس مناهج معهد الباليه، بواسطة مدربين محترفين وراقصين في دار الأوبرا المصرية، ويتَّبعون نظامًا غذائيًا محددًا وتمارين لياقة، من خلال 9 مستويات دراسية، تستغرق سنة ونصف من التدريب حتى يتأهل الطالب والطالبة إلى مرحلة تقديم العروض.

ويردف “عادل” قائلًا «حلمنا منذ تأسيس مدرسة الباليه، أن ننطلق بعرض يُثبت للأهالي والجمهور أن تدريبات الأطفال لم تكن للتسلية وحسب، وإنما هناك شيء حقيقي يحدث داخل قاعات التدريب، وبالفعل تحقق ذلك بوقوف 50 من الأطفال تتراوح أعمارهم بين 4 و17 سنة، على خشبة مسرح ديوان محافظة المنيا، يترجمون جهود سنتين من التدريب، وقد استغرق التحضير للعرض قرابة شهرين من التدريبات اليومية للأطفال، إلى جانب تنفيذ الإضاءة والديكور، وتنوعت المشاعر في الكواليس بين الحماس والتوتر والخوف من مواجهة الجمهور على المسرح لأول مرة، حتى خرج عرض “سندريلا” موفقًا ونال استحسان الحضور. »

«كانت لحظة استثنائية، رقص الأطفال على المسرح بثقة وانضباط، لحظة اختلطت فيها دموع الفرح بالفخر والنجاح.» يصف “عادل” اللحظات التي مرت عليه أثناءم شاهدة العرض.

«التغيير بالفن هو شعار مدرسة ألوانات»، ويرى “عادل” أن نجاح مدرسة الباليه يعكس تغيرًا كبيرًا في العقلية الصعيدية المحافظة، وأن الأهالي عندما أدركوا أن الباليه ليس مجرد رقص، وإنما يؤثر إيجابًا على اللياقة البدنية والذهنية لأطفالهم، زادت حماستهم، وبالتالي انضم إلى ألوانات طلاب من أسيوط ومغاغا وأبي قرقاص وبني مزار، وهو مايستلزم سفر الأهالي لساعتين على الأقل أسبوعيًا للوصول إلى المدرسة، وهو ما يُشكل مسؤوليةً وتحديًا كبيرًا، يقع على عاتق فريق ألوانات لتقديم أفضل خدمة ثقافية لهؤلاء الأطفال.

وبسؤاله عن دعوات تحريم الرقص والفن، يجيب قائلًا «كل إنسان حر في رأيه، لكنني على يقين أن معظم مشكلاتنا، حلها بالفن ورفع المستوى الثقافي، عندما يسمع الفرد موسيقى يحب الحياة أكثر، والفن وسيلة مهمة في مواجهة التطرف والعنف، ومساحة مشتركة بين كل الناس مهما اختلفت عقائدهم وأيديولجياتهم السياسية والفكرية.”

في السياق نفسه، ينفى “عادل” أن يكون مركز ألوانات قد تعرض إلى تهديدات من قبل متشددين في المحافظة، إلا أن الأمر لم يخلوا من بعض الانتقادات على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لافتًا إلى أنه لا يدخل فى أي جدال مع أولياء الأمور الذين يعترضون على انضمام أبنائهم إلى مدرسة الباليه، ويهتم بتشجيعهم على ممارسة أنشطة أخرى كالموسيقى والرسم.”

بحسب عادل فإن فريق العمل لديه طموحات كبيرة، إلا أن الإمكانيات المادية تعرقلها، ويقول «نحلم بقاعات تدريب كبيرة ومجهزة للأطفال، وأن تنجح مدرسة الباليه فى تقديم عروضها داخل وخارج مصر، أمامنا أيضًا تحدي يتمثل في توفير وحدة مونتاج وإنتاج أفلام قصيرة للشباب الهواة في الصعيد، وأخيرًا تكوين كورال غناء ومسرح موهوب. »

“ملك” وهجوم العائلة.. عايزة تطلعي بنتك رقاصة ؟!

«أمى وحماتي انفعلتا علي، وقالتا لي كيف تسمحين لابنتك أن ترتدي الشيفون والمايوهات العارية، أما زوجي فقد وافق بصعوبة، معتبرًا الباليه تجربة مؤقتة حتى تصل البنت إلى سن النضوج، فتتوقف ومن ثم ترتدي الحجاب» تقول أمل علي والدة الطفلة “ملك أحمد” ،7 سنوات، لتنقل لنا صورة التحديات التي واجهتها وابنتها حتى تلتحق الأخيرة بمدرسة الباليه.

الطفلة “ملك”

وتتابع «عشقت “ملك” الباليه منذ كانت في الثالثة من العمر، كانت تشاهد على اليوتيوب عروض الباليه، وكانت تسعد برؤية رقص الفتيات وملابسهن، وكم أحببت أن ترقص ابنتي مثلهن، وظل بحثي عن مكان لتدريبها في المنيا مستمرًا، حتى عثرت على ألوانات، ليتحقق الحلم أخيرًا. »

«واجهت كل أشكال ومبررات الرفض من قبل المحيطين، إلا أنني تمكنت من إقناع والدها أن الباليه فن راقي، وليس رقص بالمعنى الدارج أي مياعة وانحلال، ولكنه أداءً حركيًا، يُعبر عن الأحاسيس برقي، وأخبرته أن هناك باليه للمحجبات الآن، حتى يوافق أن تستمر عندما تكبر. » تقول “أمل”

وتتابع «لم استطع أن أخذل ابنتي، وتحملنا معًا مشقة الذهاب أسبوعيًا للتدريبات بعد اليوم الدراسي، وهي الآن في المستوى العاشر، وشاركت في أول عرض باليه على مسرح ديوان المحافظة .”

وعن تأثير الباليه في حياة “ملك” تقول الأم «شخصيتها تغيرت تمامًا، لقد باتت تشعر بأنها مميزة بين زميلاتها في المدرسة، وأصبحت أكثر ثقةً بنفسها، تقف بهدوء وتعبر عن نفسها بانطلاق دون خوف، متفوقة في الدراسة، حريصة على اتباع النظام الغذائي الذي يفرض عدم تناول المياه الغازية والشيبسي، حرصًا على ألا يزيد وزنها. أشعر أنها أصبحت شخصية مسؤولة تتجاوز عمرها الصغير. »

«كانت دموعي تنهمر بلا توقف، لم أتصور أن حبيبتي الصغيرة ترقص كالفراشة على المسرح، دون خوف أو قلق، كانت تطير حرفيًا على المسرح، رغم أني سيدة كبيرة لست بجرأتها حتى أقف مثلها بهذه الثقة أمام المئات الحضور في المسرح» تصف أمل لحظة صعود ابنتها على مسرح ديوان محافظة المنيا ومشاركتها في العرض.

«المنيا مدينة ذات خصوصية، ترتع فيها أفكار متشددة ورجعية وطائفية، وتشيع تقاليد وعادات الصعيد المحافظة، والأمل فى إنقاذها هو الفن، وهو ما تفعله مدرسة ألوانات الآن، التي تسعى لتربية جيل جديد ينبذ العنف والدم بل يرسم ويعزف الموسيقى، وهو المناخ الذي أسعى لتنشئة ابنتى في كنفه، لا أريد لها حياة نمطية كالآخرين، تتعلم وتتزوج فقط، أريدها ناجحة وفنانة تحب الحياة وتحب ماتفعل، وسأقف بجوارها حتى تحقق حلمها وترقص في دار الأوبرا المصرية.”

مارك مينا .. الراقص الذي قاطعه أصدقاؤه!

«فخورة أن يكون ابني الذي لم يتجاوز التسع سنوات لديه حلم وهدف، فهو يحلم أن يكون راقصًا على مسرح دار الأوبرا، وأنا مع حلمه حتى نهاية المطاف، حتى لو كل زملائه قاطعوه أو زادت ضغوط المجتمع الصعيدي عليه. » تقول “ليليان عبد الله” والدة “مارك مينا” الراقص الوحيد في عرض باليه المنيا، متحدثةً بحماس وفخر عن انضمام ابنها لمدرسة الباليه.

الطفل “مارك” خلال مشاركته في عرض الباليه

وتستطرد «لم يكن سهلًا أن يصعد “مارك” إلى خشبة المسرح بهذه الثقة، فقد تحمل انتقادات لاذعة، بدأت برفض الأقارب والعائلة، وصولًا إلى مقاطعة أصدقائه في النادي والمدرسة وسخريتهم منه بوصفه – رقاص زي البنات، مش بنتكلم مع رقاصين – وهو ما أثر عليه نفسيًا، وجعله يريد أن ينكص عن حلمه، لكنني نجحت بعد مجهود ونقاش مع الأولاد وذويهم لإقناعهم أن الباليه فن ورياضة، ومن حق كل شخص أن يُمارس هوايته، التي يحبها بحرية وبدون مصادرة من أحد، وعليهم أن يتقبلوا الاختلاف.”

وتكشف “ليليان” أن “مارك” شارك في أكثر من حفلة تابعة لمركز ألوانات، منها؛ عرض 30 يونيو في دار الأوبرا المصرية، وأخرى خلال الأسبوع الألماني المصري، وبعدها حدث التحول من قبل أصدقائه، الذين صدقوا أنه يقدم شيئَا مميزًا وموهوبًا، وتقربوا منه أكثر، وتولدت لديهم رغبة في أن يفعلوا مثله.

«هو طفل نشيط مغرم بالحركة والموسيقى، يشترك في أكثر من نشاط بألوانات، مثل؛ العزف والرسم” تضيف ليليان

«لا أؤمن بأن نظام التعليم في مصر، قادر على بناء شخصية الطفل وتنمية مواهبه، وألوانات تخلق مسارًا جديدًا وتدخل عش الدبابير، وتستغل الفن للتغيير، فالصعيد متعطش جدًا للفن والإبداع واكتشاف المواهب. »

وتردف قائلة «يزيد التحفظ في الصعيد تجاه فن الباليه، وإن كانت الأفكار المتشددة منتشرة في مصر كلها، لأن المجتمع منغلق؛ البنت أمامها قائمة ممنوعات في الصعيد، حرام تلبس وتضحك وتتكلم وعيب ترقص وعيب تشغل، فما بالك بفكرة مجنونة مثل؛ مدرسة الباليه، ويرقص فيها “مارك” وهو الصبي الوحيد كاسرًا كل التابوهات الاجتماعية التقليدية عن صورة الذكر.”

وتعتبر “ليليان” أن عرض “سندريلا” على مسرح محافظة المنيا، عوض تعب ثلاث سنوات من التدريب الأسبوعي المكثف، الذي كان يستمر لأكثر من ست ساعات، وترى أن “مارك” يمثل قصة تحدي، وألوانات تدعمه نفسيًا وفنيًا.

تحلم الأم بانتشار فروع كثيرة لألوانات أو مساحات فنية شبيهة في كل محافظات الصعيد، مؤكدةً أن الفن هو الحل لمواجهة الأفكار الإرهابية، والأفضل أن يمسك الأطفال اَلة موسيقية بلدًا من أن يمسكوا سكينًا.

يمنى شامل : هكمل في الباليه حتى لو اتحجبت

الطفلة يمنى

تبدو “يمنى شامل”، 7 سنوات، أكثر حظًا من رفاقها، فقد وجدت الدعم والتشجيع من أسرتها، حتى تنضم إلى مدرسة الباليه، فهي طفلة متعددة المواهب، تلعب الإسكواش، والجمباز الايقاعي، وتهوى الرسم، ونجحت أخيرًا في أن تكون راقصة باليه.

«كان بمثابة يوم فرح بنتي» تقول الأم وتضيف «الاستعدادات التي سبقت الحفلة، وتكثيف التدريب وقضاء وقت طويل في المركز، كان أشبه بتجهيزات الفرح، حتى رأيتها تصعد بخطوات ثابتة على المسرح، لتؤدي كل ما تعلمته خلال سنتين بكل رشاقة، هنا اختلطت دموع الفرح بالفخر، وكأنني أحضر عرض باليه محترفين في دار الأوبرا.” هكذا تصف “داليا” والدة “يمنى”، مشاعرها تجاه مشاركة ابنتها في عرض ساندريلا.

ترى “داليا” مركز ألوانات نموذجًا للتحضر والتقدم، وتقول  «الرياضة والفن ليسا عيبًا، يجب أن نستغل طاقات الأطفال في شيء إيجابي، حتى ينحصر الكبت وتتضاءل السلبيات، كما يجب أن يصحب المدرسة ممارسة الهوايات»

تؤكد الأم أن ابنتها تحلم بالاستمرار في رقص الباليه، حتى إن ارتدت الحجاب لاحقًا، مشيرةً إلى قول ابنتها لها “ماما عايزة أرقص حتى لو اتحجبت زيك”، وتختتم قائلة «سأدعم ابنتي حتى تحقق حلمها ومستقبلها كما تريد. »