في هذه الحياة أيام نحسبها في وقتها أسعد ما يمكن أن يمر في العمر، ثم نكتشف تباعًا أنها كانت مقدمة خادعة لوابل من الليالي والأنْهُرٌ التعيسة التي تسرق العمر عنوةً، وتلقي بأجمل سنواته في غياهب الجب، حيث لا رجعة.

يوم من هذه الأيام هو ذلك الذي ارتدت فيه “سيلڤيا” فستان الزفاف، وهي في الـثانية والعشرين، اعتقدت اَنئذٍ أنها تبدأ رحلة جديدة يلمؤها الأمل ويشغفها الحب، مع شاب يكبرها بسنتين، تعرفت عليه داخل الكنيسة، وجمعتهما صداقة في البداية، ثم تحولت إلى إعجاب، فظن كلاهما أنه الحب، وسرعان ما اتفقا على الزواج، الذي أيدته أسرة كل منهما.

مضت الأمور بسلاسة وعاشا سويًا حياةً مستقرة خلال السنة الأولى، حتى انتقلا للعيش في إحدى الدول الخليجية، بعد أن سعى الزوج الشاب إلى هذه الفرصة بغية تحسين ظروفهما، وللتعجيل بقرار الإنجاب المؤجل نظرًا للأوضاع المعيشية الصعبة، بسبب ارتفاع الأسعار في مقابل مرتبات تكفي لبيت أوهن من بيت العنكبوت، وهو ما كان يفرض عليهما اللجوء إلى أسرتيهما شهريًا لمساعدتهما ماديًا.

بهتت العلاقة بينهما في الغربة وخيم الفتور، وباتت تقضي أغلب اليوم وحدها في المنزل، فطلبت منه السماح لها بالبحث عن عمل، بعد أن أضحت حياتها أشبه بالسجن الانفرادي، فرفض واعتبر الأمر غير قابل للنقاش، متذرعًا باختلاف الثقافة المجتمعية في هذا البلد عن مصر، وهو ما سيعرضها للكثير من المتاعب، ومن ثم زادت حدة الخلافات بينهما يومًا بعد الاَخر، وصارت روتينًا لا ينكسر.

«كان يسعى إلى تهدئة الأمور بيننا من حين لاَخر، لكنه لم يعمد إلى إنهاء الخلافات كليًا، ولم يكف أبدًا عن معاملتي وكأنني جاريته التي أتى بها من القاهرة، ودوري الوحيد هو العمل على راحته. » تقول “سيلڤيا”

في أول إجازة له وبعد عودتهما إلى مصر، أخبرت أبويها بتأزم الأمور، إلا أنهما حاولا امتصاص غضبها وتهدئتها، مرجعين التغيرات، التي يظنون أنها طرأت على شخصيته، إلى الاغتراب وصغوط العمل، وذكرها والدها أن هذا الشاب اختارته بكامل حريتها، وعليها أن تتحمل تبعات اختيارها، خاصة أن البديل أشد شقاءً.

تقول “سيلڤيا” «أهلي لم يكونوا راضين عما يفعله زوجي، فلم يكن هذا ما يأملونه لابنتهم، وفي الوقت نفسه لا يرون مخرجًا من هذا النفق المظلم، وكان الحل المقترح من جانبهم، أن أفكر في الإنجاب، ظنًا بأنه سيذيب الخلافات، وسيقضي على الجزع الذي شق النفوس.»

اتفق الزوجان على التوقف عن استخدام موانع الحمل، إلا أنه تأخر لأكثر من سنة كاملة، وهو ما ضاعف الخلافات، بعد أن بات كل منهما يرى الاَخر المسؤول عن ذلك، رغم أن التقارير الطبية تنفي وجود أي مشكلة صحية لدى أي منهما.

أيضــــــــــــــــــــــــًا.. «طلاق المسيحيات».. من يحل المعضلة.. الكنيسة أم الدولة؟

تقطعت الخيوط التي تربطهما، عندما اعتدى عليها بالضرب، وكان ذلك قبل عودتهما إلى مصر بيومين، وقررت حينذاك أن تتمسك بالصمت حتى يعودا إلى القاهرة، وتظاهرت بقبول اعتذاره الهزيل قبل سويعات من إقلاع الطائرة.

وبعد وصولهما إلى القاهرة، وتوجه كل منهما إلى بيت أسرته، أخبرت والديها أنها لن تعود إليه مجددًا، ولم تفلح محاولاتهما المستميتة لإثنائها عن قرارها، خاصة أن زوجها أتى إليها ليعتذر، فرفضت مقابلته، فاعتبرها إهانة وقال لأمها “هي حرة.. أنا عملت اللي عليا”، ولم يحاول مرةً أخرى.

«لقد ازداد جفوة وقسوة، لا أعرف هل هذا طبعه ولم اكتشفه قبل الزواج، أم الغربة الموحشة هي السبب في تحوله إلى هذا الشخص الغليظ.» تقول “سيلڤيا”

وتتابع «أحلامي لم تكن كثيرة ولم تكن صعبة كذلك، حلمت بأن أعمل بمجال التسويق بعد تخرجي من الجامعة ولم يحدث بسبب الزواج، وحلمت مثل أي أنثى بقصة حب تنتهي بزواج أشبه برحلة التشارك والدعم المستمر في مواجهة مصاعب الحياة ومشاقها، لكنني اصطدمت بواقع مرير، وحلمت أن أريح أهلي من أعبائي فزادت، فما أتعس هذه الحياة التي تقتلني كل يوم.»

بعد شهرين أو أكثر قليلًا، ذهب إليها أبويه، يتوددان إليها، وحدثاها عن ندم ابنهما، وأذرفت أمه الدموع، وتوسلت إليها ألا تهدم حياتهما بعنادها، وأن تعطي زوجها فرصة أخرى.

انصاعت لضغوط أهلها وأهله، وعادت إلى زوجها، ومر شهر والأجواء هادئة، أفضل مما كانت عليه سابقًا، لكن الرتابة كانت قد تمكنت من حياتهما، لقد قل الكلام بينهما، والابتسامات مفتعلقة، والرغبات أخمدتها الخصومة المدفونة.

ولأن الفتور تسيد العلاقة، عاد الزوج تدريجيًا إلى طبعه، وصوته أصبح صراخًا وأحاديثه تحولت إلى شجار مستمر، وكلما هاتفت أهلها لتستنجد بهما، طالباها بالتحمل، وحاولا مرارًا التحدث إليه، لكنه لم يعد يرد على اتصالاتهما.

«انتهت هذه القصة تمامًا، بعد أن اعتدى علي، وتسبب في كسر أنفي. بعدها عدت أدراجي إلى مصر، وقد عقدت العزم على ألا أعيش مع هذا الرجل ولو لساعة واحدة. » تقول “سيلڤيا”

وتستطرد «أيد أبي قراري، واتصل بأهله وأخبرهم بأن القرار نهائي، رغم الحسرة التي كانت تعتصر قلبه، لا بسبب جرح أو فرصة ضائعة وإنما ليقينه أن فرصًا أخرى كثيرة ستضيع بسبب ما كُتِبَ علي أن أعيشه، فيما ظلت أمي تبكي لأيام دون أن تنطق بكلمة.»

الآلاف من المسيحيين حرموا من حق الطلاق والزواج الثاني منذ عام 2008، عندما أدخل البابا شنودة تعديلات على لائحة 1938 التي كانت تتيح تسعة أسباب للطلاق، لتُقصِرها فقط على الزنا أو تغيير الملة.

وكان المجلس الملي برئاسة البابا كيرلس السادس، قد أصدر في عام 1938، لائحة الأقباط الأرثوذكس، مشتملةً على تسعة أسباب للطلاق وهي؛ الغيبة، والجنون أو المرض المعدي، والاعتداء الجسدي، وإساءة السلوك والانغماس في الرذيلة، وإساءة العشرة واستحكام النفور، وترهبن أحد الزوجين، والفرقة، والزنا، وتغيير الدين.

“سيلڤيا” تواصلت مع أحد المحامين، واتفقا على المضي قدمًا في إجراءات تغيير الملة ورفع دعوى خلع أمام المحكمة، رغم يقينها بأن هذه الخطوات سترهقها نفسيًا خاصة أن المحامي أعلمها بأن الأمر سيأخذ وقتًا، فضلًا عن أن كلفة هذه الإجراءات ماديًا كبيرة جدًا، وستتكبد عشرات الاَلاف من الجنيهات.

بعد صدور قانون الخُلع في عام 2000، عمدت كثير من المسيحيات الباحثات عن الطلاق، إلى تغيير الملة أو الطائفة ورفعن قضايا يطلبن فيها الخُلع، وطبقت المحكمة عليهن الشريعة الإسلامية، ونلن الطلاق مدنيًا.

تقول “سيلڤيا” «قد أكون تسرعت في اختياري، وتنازلت عن مستقبلي المهني الذي كان سيضمن لي استقلالًا، وقبلت أن أكون تابعًا، وتحملت تجاوزه مرة بعد مرة، لكن هذا ليس مبررًا أن أعيش بقية عمري أدفع ثمن أخطاء اقترفتها لقلة الخبرة وصغر السن وثقافة أهل مهادنة للعنف ضد المرأة. أنا في العشرينات من عمري، أي عقل أو منطق يقبل أن تظل حياتي مرتبطةً بإنسان لا أطيق العيش معه. »

المرأة التي انتهت حياتها الزوجية بطلاق قبل الإنجاب، تجد الأمر أخف وطأة من الطلاق بعده، خشيةً أن يعيش الطفل ممزقًا بين متنازعين، أو يعاني بسبب نظرة المجتمع الرجعي لأبناء المطلقات، أو لما ستعانيه شخصيًا إذا ما أرادت أن تحتفظ بحضانته، لأنها ستُحرَم من الزواج ثانيةً، نظرًا لما ينص عليه قانون الأحوال الشخصية في هذا الشأن.

أما “سيلڤيا” فترى أنها لو كانت أنجبت طفلًا قبل الانفصال، كانت ستراها نعمة عظيمة، وتبرر ذلك «أخاف ألا أحصل على حقي في الزواج الثاني، وقتها سأعيش محرومة من الإنجاب، وسأظل وحدي مدى الحياة. »

الدستور المصري يمنح خصوصية للأحوال الشخصية للمسيحيين، فالكنائس المصرية لها حق صياغة القانون الخاص بالأقباط، وينص الدستور المصري في مادته الثالثة على “مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسى للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية.”

“أنا مثل المحكوم عليه بالإعدام، لقد أصبحت هذه الحياة شديدة المرارة، وأنا انتظر إما أن يُعفى عني أو أن أبقى على حالي.” توصف “سيلڤيا” حالتها في الوقت الراهن.

تحاول أن تعيد بناء حياتها؛ تلتحق بدورات تدريبة وتشارك في ورش عمل، وقبل أسابيع قليلة، تمكنت من الحصول على وظيفة بقسم التسويق الإلكتروني في إحدى شركات تصميم المواقع الإلكترونية.

“سيلڤيا” لم تخبر أحدًا من زملاء العمل أنها منفصلة عن زوجها، وتتعامل باعتبارها زوجة تعيش حياةً مستقرة.

تواجه الكثير من المطلقات سواء مسلمات أو مسيحيات، والنساء المسيحيات المنفصلات عن أزواجهن، العديد من العراقيل والصعوبات في مواصلة حيواتهن بشكل طبيعي، لأن المجتمع لا يكف عن محاصرتهن بالريبة والشك، لكن ذلك لا تكترث له “سيلڤيا”، فهي ترى أن نظرة الناس “مقدور عليها”، وتتباين من طبقة لأخرى ومن مكان لاَخر، وبإمكان المرأة أن تواجه ذلك بقوة، وتبدأ حياتها من جديد، لكن المشكلة الحقيقة في نظرها، أن تكون المرأة مكبلة لا تستطيع أن تطوي صفحة قاتمة من حياتها، بسبب نصوص أو قوانين”، وتختتم ” اعتقد أن حل هذه الأزمة من جذورها يتمثل في الاعتراف بالزواج المدني.”

وكانت محكمة الأسرة المصرية قد أصدرت حكمًا في يناير من العام 2016، بتوثيق عقد زواج مدني لزوجين مسيحيين، اعتبره البعض انتصارًا للدولة المدنية، وسيترتب عليه حل الكثير من المشاكل المتعلقة بالأحوال الشخصية للمسيحيين والمعلقة أمام المحاكم، فيما اعتبره البابا تواضروس، بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية، مخالفًا للدستور الذي نص على احتكام المسيحيين لشرائعهم.

ملحوظة: جرى تغيير الاسم بناءً على طلب صاحبته