في مجتمعات كالتي نعيش فيها، الرجل هو الحاكم والمشرع ومطبق القوانين ومنفذها، ليس مُستَغربًا أن تكون التشريعات أسيرة الثقافة الذكورية، لأنها تأتي انعكاسًا لهذه الثقافة المتجذرة، وعلى الرغم من أن البيئة العربية تحمي الذكورية من كل النواحي وعلى كل المستويات، إلا أن قطاعًا من النساء لا يقر له قرارًا، ولا يستكين إلى هذا الامتهان لكرامة النسوة، ويظل رافعًا لراية الحرب في وجه كل ما ينتهك حقوقهن. وخلال حرب طويلة، تتحقق انتصارات في معارك متلاحقة، حتى لو كانت صغيرة أو غير مكتملة، إلا أنها تسحب البساط تدريجيًا من تحت أقدام الأبوية المفرطة.

غالبًا.. التعديلات القانونية لابد أن يسبقها كارثة

الأردن انحازت لنسائها.. ونساء الضفة الغربية أيضًا

النزاعات المسلحة تقوي شوكة المغتصب في سوريا والعراق

“كيف يمكن السير في اتجاه الإبقاء على نص المادة 308 والأردن يسعى إلى تطوير تشريعاته بشكل يحمي حقوق الانسان ومنظومة العدالة في المجتمع.” جاءت هذه الكلمات ضمن بيان صدر عن منظمات نسوية أردنية، تجدد المطالبة بإلغاء مادة قانونية تبيح للمغتصب الإفلات من العقاب بالزواج من الناجية من جرمه، وهو ما تحقق بعدها بأيام، ليلغي مجلس النواب الأردني، في جلسته التي انعقدت يوم الثلاثاء، الأول من أغسطس، المادة رقم 308 من مشروع القانون المعدل للعقوبات.

وكانت اللجنة القانونية في المجلس، قد قدمت توصيةً قبل التصويت، تطلب تعديل المادة لتعفي في حالات محددة المغتصب من الملاحقة القانونية، إلا أن مجلس النواب ألغاها كاملة.

وكانت المادة تنص على أن «يُعفَى مغتصب الأنثى من العقوبة في حال زواجه من ضحيته»، كما تنص على أن «اغتصاب الذكر لا يعد اغتصابًا بل هتك عرض، حتى وإن كان قاصرًا.»

جدير بالذكر أن محاكم الضفة الغربية في فلسطين،  تطبق قانون العقوبات الأردني، وبالتالي فالانتصار الذي تحقق بتعديل المادة ممتد خارج حدود الأردن.

الأردن سبقها إلى خطوات مماثلة، عدد قليل من الدول العربية مثل، المغرب وتونس مؤخرًا، فيما سبقت مصر الدول الثلاث، وألغت مادة قانونية مشابهة في عام 1999، وهي المادة “291” من قانون العقوبات، وكانت المادة تعفي المغتصب من العقوبة إذا تزوج بالمجني عليها، إلا أن إيقاف العمل بها لم يكن حلًا جذريًا، خاصة أن المادة 17 من قانون العقوبات والمعروفة بــ”مادة الرأفة” لم تُمَس بتعديلًا، ونصها «يجوز فى مواد الجنايات إذا اقتضت أحوال الجريمة المقامة من أجلها الدعوى العمومية رأفة القضاة، تبديل العقوبة.»

لا صوت يعلو فوق صوت العُرف.. حتى لو كان القانون!

فضلًا عن أزمة المادة 17 من قانون العقوبات، هناك من لا يرى في القانون ملجئًا، وتظل الحلول العرفية والودية بمثابة قضاء موازٍ، وتنتهي بعض القضايا بالتصالح مع المغتصب في مقابل الزواج، وعلى سبيل المثال، كانت الصحف المصرية قد نشرت في ديسمبر من العام 2014، خبرًا يفيد بأن النيابة العامة في محافظة الوادي الجديد، أخلت سبيل فلاح بعد اغتصابه لفتاة قاصر تبلغ من العمر 14 عامًا، في مركز الفرافرة، بكفالة قدرها 1000 جنيه، وذلك بعد التصالح مع أهل الفتاة مقابل الزواج منها.

حادث بشع ..سخط .. وعود .. انتصار

أغلب القوانين المنتهكة لحقوق النساء، عادة ما كُتِبَت نهاياتها بعد انتفاضات نسائية وغضبات مجتمعية انفجرت بعد جرائم، كانت هذه القوانين سببًا في وقوعها أو ذريعةً لحماية مرتكبيها من العقاب، وهذا ما ينطبق على حالتي تونس والمغرب، فيما يتعلق بإلغاء المواد القانونية التي تسمح بإيقاف ملاحقة المغتصب في حال زواجه من المُرتَكب بحقها الجرم.

في المغرب، الذي أقر برلمانه تعديلًا على المادة 475 من قانون العقوبات في يناير من العام 2014، وهي المادة التي تعفي مغتصبي القاصرات من الملاحقة القضائية إذا تزوجوا منهن، جاءت هذه الخطوة بعد أن اشتعلت نيران الغضب في الشارع المغربي في عام 2012، بعد أن انتحرت فتاة قاصر تدعى “أمينة الفيلالي، بعد أن تزوجت من مُغتَصِبها قسرًا.

ذاعت القصة في المغرب، وخرجت تظاهرات نسائية احتجاجًا على الوضع القانوني المجحف، الذي أوصل الفتاة إلى اختيار الخلاص من الحياة باستخدام سم الفئران، وطالبت منظمات حقوقية بتعديل بعض فصول القانون الجنائي ومن بينها الفصل الذي يتيح للمغتصب الزواج من الناجية، واستمرت حملات الضغط حتى أتت أكُلها وأذعن البرلمان، ورفع الحصانة عن المغتصب.

أما تونس، فقد جاء قانون تجريم مختلف أشكال العنف ضد المرأة، الذي صادق عليه البرلمان في 26 يوليو الماضي، ليلغي المادة التي تسمح للمغتصب بالإفلات من عقوبة السجن في حالة الزواج ممن اغتصبها، إلا أن هذا التحرك جاء على إثر موجة حنق حادة عرفتها تونس، في ديسمبر الماضي، بعد أن حصل مغتصب يبلغ من العمر 21 عامًا، على إذن قضائي بالزواج من فتاة قاصر تبلغ من العمر 13 عامًا، تربطه بها صلة قرابة، بعد أن اغتصبها وحملت منه، وهو ما أثار حفيظة كثير من النساء التونسيات، ليس فقط المنخرطات في العمل الحقوقي، وتظاهر العشرات منهن أمام البرلمان التونسي، مطالبات بتعديل الفصل 227 مكرر من المجلة الجزائية، والمتعلق بإسقاط العقوبة عن المُغتصب إذا تزوج بالمجني عليها، ورفعن شعارات “الاغتصاب جريمة وليس مهر عرس” و”العقاب ليس العرس.. العقاب هو الحبس” و”المؤبد لمغتصب الأطفال”.

الغضبة لم تقتصر على تظاهرات أمام البرلمان، وامتدت إلى وسائل الإعلام التونسية، ومواقع التواصل الاجتماعي، فكان رد الفعل هو الخضوع، وأعلنت وزارة المرأة والأسرة والطفولة التونسية أن مشروع قانون تجريم جميع أشكال العنف ضد النساء، الذي أقره نواب البرلمان لاحقًا، يلغي الفصل المثير للجدل الذي ينص على «يعاقب بالسجن مدة ستة سنوات كل من واقع أنثى بدون عنف سنها دون خمسة عشر عامًا كاملة. وإذا كان سن المجني عليها فوق الخمسة عشر عامًا ودون العشرين سنة كاملة، فالعقاب يكون بالسجن مدة خمس سنوات، والمحاولة موجبة للعقاب، وزواج الفاعل بالمجني عليها في الصورتين المذكورتين يوقف التتبعات أو آثار المحاكمة.»

كان بالإمكان إلغاء هذا الفصل قبل وقوع الحادثة، عندما انتقدت منظمة العفو الدولية، في عام 2014، تواصل العمل بهذا النص، معتبرة أن تونس بعد خمس سنوات من ثورة 17 ديسمبر،  ما زالت تتقاعس عن حماية النساء من العنف، وخرج بيان رسمي من المنظمة يطالب بإلغاء الشرط الذي يعفي المغتصب من العقاب، إلا أن عدد الموقعين لم يتجاوز  32 حزبًا سياسيًا من أصل 100.

الأبيض ما بيغطي الاغتصاب

أجرت مؤسسة “أبعاد” النسوية في لبنان استطلاعًا خلال عام 2016، للتعرف على رأي المواطنين في المادة 522 من القانون اللبناني، التي تعفي المغتصب من العقوبة في حال زواجه من الناجية، وقد أرشدت النتائج إلى أن 60 في المئة من اللبنانيين يعتقدون في ضرورة إلغاء المادة من قانون العقوبات اللبناني، و85 في المئة منهم يعتبرون أنها تنال من كرامة المرأة التي تعرضت للاغتصاب، و84 في المئة يرون أنها تحمي المغتصب من الملاحقة والعقاب، و84 في المئة يقرون بأن زواج المغتصب من المُعتدَى عليها يؤدي إلى مشاكل أسرية، و81 في المئة أكدوا أنها تحرم المرأة من حقها في العدالة.

وفي نوفمبر من العام 2016، أطلقت المؤسسة حملة لإلغاء المادة 522، تحت شعار “الأبيض ما بيغطي الاغتصاب.. ما تلبسونا المادة 522″، وروجت لها من خلال مقطع توعوي، يبرز ناجية من الاغتصاب تضمد جراحها الجسدية بلاصقات من الشاش الطبي، تجتمع في النهاية لتصبح أشبه بفستان زفاف أبيض، بينما في حقيقة الأمر هي محاولة لترقيع الجروح الجائشة.

وفي نهاية ذلك الشهر، ناقشت لجنة الإدارة والعدل في مجلس النواب اللبناني، مقترحًا تقدم به النائب ايلي كيروز لإلغاء المادة، استجابة للحملة، وأثناء انعقاد الجلسة، نظمت المؤسسة وقفة رمزية بالفساتين البيضاء، وعلى الرغم من مرور ما يزيد عن 8 أشهر، مازال لبنان ينتظر تصديق برلمانه رسميًا على إلغاء المادة.

دول دخلت في سُبات عميق

لا يلوح في الأفق القريب مقدمات، لتعديل مثل هذه القوانين في دول مثل، ليبيا والعراق وسوريا، خاصة بعد أن ضربها الإرهاب، مما فتح الباب على مصراعيه أمام انتهاكات بالجملة بحق النساء، وأضحى الاغتصاب نهجًا تتبعه الجماعات المسلحة، وأصبح إفلات المغتصبين من العقاب مدعومًا ليس بالقانون الذي يوقف الملاحقة القضائية في حال الزواج من الناجية، بل بقوة السلاح الذي أعدم القانون، فلم يعد المغتصبون يخشون العقاب.