تنهار الإنسانية عندما يقتل أخ أخته بمباركة الأسرة، أو يغرز أب سكينًا في قلب ابنته مرتاح الضمير، أو يردي زوج زوجته قتيلة بأعيرة نارية، ثم يأخذ نفسًا عميقًا وكأن عبئًا ثقيلًا أزيح عن صدره. هذه جرائم ما يسمى بــ”الشرف”، على الرغم من أن الكلمة لا علاقة لها بهذا الجرم، فهي تعني العفة، والعلو، والكرامة، ولا علاقة لكل ذلك باستباحة الدم.

يعتقد القاتل أنه استعاد شرفه وتخلص من العار أو “غسل بيده عاره” الذي جلبته إليه الأنثى عندما خرجت عن طوعه، سواء كانت أخت أو ابنة أو زوجة، أو حتى أم.

هذه الجرائم تعد عملًا انتقاميًا يجري داخل العائلات، وغالبًا ما ينفذه الذكر بحق الأنثى، بعد أن نما إلى علمه أنها على علاقة بأحد الغرباء دون علمه، أو أنها أقامت علاقة جنسية خارج منظومة الزواج.

التعلل بالدين

هذه الجريمة حالها حال جرائم كثيرة، يبررها مرتكبوها بالأحقية الشرعية، وهو ما لا يزيد عن كونه عبثًا، فلا يوجد في كتب الفقه الإسلامي، ولا التفسير ولا العقيدة ولا أي علم من علوم الشريعة مصطلح “جريمة الشرف”، والأهم أن الشريعة الإسلامية التي وضعت الحدود رسخت لمبدأ القضاء، والقاضي وحده هو المخوّل بإقرار العقوبة، وليس أي شخص غيره، فضلًا عن أن الاعتقاد السائد بأن المسلمين فقط هم من يرتكب هذا النوع من الجرائم في غير محله، فهناك حالات قتل تحت مسمى “الشرف” بين أسر مسيحية، على الرغم من أن إحدى وصايا الدين المسيحي، “لا تقتل” تنهى عن القتل المباشر وعن عمد باعتباره خطيئة جسيمة، كما تقع جرائم ما يسمى بالشرف بين الهندوس، والسيخ أيضًا، وهو ما يؤكد أن الأمر لا علاقة له بدين، وإنما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالثقافة الذكورية التي ترتع في مجتمعاتنا، وإلصاقها بالدين هو نوع من ضمان مظلة قوية ترفع عن الجرم صفته وتحوله إلى حق لفاعله.

مصر على رأس القائمة السوداء

تنتشر الجرائم بدافع ما يسمى بـ”الشرف”، في العديد من البلدان العربية، وبحسب تقرير صادر عن مؤسسة تومسون رويترز – Thomson Reuters- في عام 2013، فإن مصر تحتل القائمة، وتليها الأردن في المركز الثاني، فيما ترتفع معدلات هذه الجرائم في سوريا والعراق جراء الحرب الأهلية، فضلًا عن انتشار الظاهرة في دول جنوب اَسيا مثل؛ الهند، وأفغانستان وباكستان التي تصنف ثالث أخطر دولة بالنسبة للنساء على مستوى العالم، بحسب دراسة لتومسون رويترز في عام 2011.

رغم عدم وجود إحصائيات رسمية عن عدد ضحايا هذه الممارسة غير الإنسانية، لكن تقديرات الأمم المتحدة لعام 2010، أفادت بأن أكثر من 5 آلاف حالة من “القتل بدافع الشرف” تجري سنويًا في العالم

الهند، تأتي بين الدول الأكثر احتضانًا لجرائم الشرف، خاصة في المناطق الشمالية، حيث تتصدر ولايات مثل “البنجاب” و”هاريانا” القائمة، وعلى الرغم من أن ثمة ارتفاع فى عدد المواطنين الذين يبلغون عن هذه الجرائم، لا يزال الكثيرون يعتقدون أنها العقاب المناسب للنساء ممن لا يلتزمن بالعادات والتقاليد.

الجرائم لا تستهدف فقط النساء المشكوك في سلوكهن، ولكن من يرفضن عروض زواج تقبلها العائلة، أو يتطلعن إلى الزواج برجال لا يرضى عنهم ذويهن، لاختلاف الطبقة الاجتماعية أو الدين، وقد يطال القتل ضحايا الاغتصاب.
وبحسب الأرقام المعلنة، فقد سجلت الشرطة الهندية 251 جريمة شرف فى عام 2015 مقارنة بــ 28 جريمة من هذا النوع، في 2014.
وتعود أشهر الجرائم بذريعة “الشرف” في الهند إلى عام 1991، حينما أحبت فتاة شابًا من طبقة اجتماعية أقل، وهربا سويًا بمساعدة ابن عمها، فقُتِلوا الثلاثة، وفي عام 2012، قطع أب رأس ابنته البالغة من العمر 20 سنة، لمواعدتها شاب دون علمه، ومنذ العام 2011 تصدر المحكمة العليا في الهند عقوبة الإعدام بحق المتورطين في جرائم القتل بدافع “الشرف”.

 

باكستان، لا يختلف الوضع فيها كثيرًا، فقد كشفت منظمة حقوقية باكستانية عن مقتل 1100 امرأة فى عام 2015 في جرائم بدافع “الشرف”، مع الإشارة إلى أن أغلب هذه الجرائم لا تعلم بها السلطات هناك، لأن الأهالي يتعمدون إخفاءها، مدعين تغيب الضحية أو انتحارها، ومن بين أبشع جرائم ما يسمى بــ”الشرف”، التي وقعت في هذا البلد، جريمة قتل “زنيت رفيق” – 18 سنة- على يد أمها وشقيقها معًا، بعد أن ربطاها بالفراش، وحرقوها.

القانون الباكستاني يسمح لأسر الضحايا بأن يرأفوا بمرتكبي الجرائم، الذين هم على الأغلب من الأقرباء، وأحيانًا تكون الدية في مقابل تحرير المتهمين، إلا أن مقتل عارضة الأزياء  “قنديل بالوش” -26 سنةً – في جريمة ما يسمى بــ”الشرف”، لم تخضع لهذه القاعدة.

وكانت “بالوش” قد قُتلت على يد شقيقها خنقًا بسبب صورها الشخصية المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وعندما أوقفته الشرطة أقر بجريمته وأكد أنه غير نادم على ذلك، لأنها خرقت تقاليد عائلتهم “المحافظة”، وعلى عكس المعهود، تدخلت السلطات الباكستانية ومنعت أسرة “بالوش” من “العفو” قانونيًا عن ابنهم.

كان مقتل “بالوش” السبب الرئيس في إقرار البرلمان الباكستاني تعديلًا على القانون، وأصبح من حق الأسرة العفو عن المدانين فقط في حالة الحكم بالإعدام، وفي هذه الحالة يواجهون حكمًا بالسجن مدى الحياة.

“يرى الرجل الشرقي شرفه فى جسد أخته وزوجته ولا يراه فى جسده أيها الرجل أنا لست “شرفك”فكل إنسان يحمل شرفه الخاص به”

 ليلى المطوع

مصر المصنفة باعتبارها الدولة الأولى عربيًا في هذا الصدد، تمثل الوشايات والشائعات بشأن سلوك الإناث الدافع الرئيس وراء الجرائم بدافع الشرف، إذ تفيد دراسة صادرة عن  المركز القومي للبحوث الاجتماعية في عام 2006، بأن 70 في المئة من هذه الجرائم قد وقع لهذا السبب.

وتتركز هذه الجرائم في المناطق الفقيرة والمعزولة، حيث تنتشر العادات القبلية والنازعات بين العشائر، ولذلك فمعظم جرائم الشرف تقع في صعيد مصر.
ووفق الدراسة نفسها، نحو 70 في المئة من هذه الجرائم يرتكبها الزوج ضد زوجته، بينما 20 في المئة يرتكبها الأشقاء ضد شقيقاتهم فيما يمثل الاَباء 7 في المئة من مرتكبيها بحق بناتهم، و3 في المئة الجاني فيها هم أبناء ذكور قتلوا أمهاتهم.
وتناولت الدراسة طرق القتل، ليتضح أن 52 في المئة من هذه الجرائم ارتكبت بواسطة السكين أو المطواة و11 في المئة عن طريق الإلقاء من المرتفعات ونحو 9 في المئة، خنقًا بوسائل مختلفة و8 في المئة عن طريق السم، و5 في المئة، بإطلاق الرصاص و5 في المئة نتيجة التعذيب حتي الموت.
وعلى الرغم من أن القانون المصري يعاقب كل جرائم القتل بما فيها المنفذة بدافع الشرف، إلا أن ذلك لا ينفي وجود تمييز بين الرجل والمرأة في أحكامه فيما يتعلق بهذه الجرائم، إذ يُعاقَب الزوج في حال قتله لزوجته بدافع “الشرف” بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات، فيما تُعاقَب المرأة إذا قتلت زوجها متلبسًا بالزنا بتهمة القتل العمد.

الأردن ارتفعت فيها معدلات الجرائم بذريعة الشرف إلى 52 في المئة في عام 2016، مقارنة بالعام الذي سبقه، وفي الأشهر الأولى من العام الماضي سُجلت 26 حالة قتل للنساء تحت بند جرائم الشرف، وبحسب بعض التقارير التي ترصد المعدل السنوي لتلك الجرائم، فهو يقترب من 30 جريمة سنويًا، فيما كشفت اللجنة الوطنية الأردنية لشؤون المرأة أن 76 في المئة من الجرائم يرتكبها الأخ بحق أخته بحجة تلويثها لشرف العائلة.
قصة “اَيات” -20 سنة – واحدة من أكثر جرائم القتل تحت بند الشرف وحشية، فقد اصطحبها شقيقها عنوة إلى البحر الميت وأغرقها في مياهه شديدة الملوحة، بعد أن أدعى زوجها أنها كانت على علاقة بشاب اَخر قبل زواجه منها الذي لم يمر عليه سوى أسبوعين.

الأكثر فداحة من مشهد القتل الذي تجردت فيه كل معان الإنسانية، هو المشهد الذي تجسدت فيه نشوة المنتصر، عندما أخذ جثتها وسلمها إلى المركز الأمني في جبل الحسين وسط العاصمة عمّان، معترفًا بجريمته وذريعته “غسل الشرف”، وبحسب روايته أمام جهات التحقيق أنه “ظل يغمس رأسها في الماء، وهو يطالبها بترديد الشهادتين، حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، فاستخرجها جثة هامدة ووضعها في سيارته، حتى يسلمها للشرطة.”

ويساهم القانون في استساغة هذا النوع من القتل، لطالما وُجِدَ التخفيف، حيث تمنح المادة 98 من قانون العقوبات الجاني العذر المخفف، إن قتل “بسورة غضب (شدة الغضب) شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه”، وفي حال إسقاط الحق الشخصي، وهو غالبًا ما يحدث، فعلى سبيل المثال، إن كان الأخ هو القاتل، يُسقِط الأب أو الأم الحق الشخصي، وتخفف العقوبة بموجب المادة 99 إلى النصف.

وقد شهد مارس الماضي، حكمًا قصائيًا أعاد الأمل في إمكانية سد هذه الثغرات القانونية، بعد أن ضاعفت محكمة التمييز الأردنية الحكم على شقيقين قتلا شقيقتهما بالسم، بعد أن سمعا بأنها على علاقة بشخص ما وقد هربت معه، وبدلًا من السجن 7 سنوات ونصف، أصبحت العقوبة الحبس 15 سنة، لأحدهما ومن 10 إلى 20 سنة للآخر، وقد جاء الحكم بعد فتوى صدرت في ديسمبر الماضي، من دائرة الإفتاء تعلن فيها لأول مرة أن القتل باسم “الشرف” يتنافى مع أحكام الشريعة.

سوريا، التي تعاني ويلات الحرب منذ أكثر من 6 سنوات، زادت فيها بالتأكيد جرائم الشرف بسبب سقوط هيبة القانون، وتمدد المسلحين على أراضيها، فضلًا عن توحش تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي المعروف باسم “داعش”، إذ تشير إحصائيات غير رسمية، إلى أن عدد جرائم ما يسمى بــ”الشرف” بلغ 230 جريمة عام 2015، لكن سوريا ليست حديثة العهد بهذا النوع من الجرائم، فقد قُتِل تحت مظلته الكثير من النسوة، ويرجع ذلك إلى أن القوانين المتعلقة بتلك المسألة لا تردع المجرمين بشكل كافٍ، فالمادة رقم 548 من قانون العقوبات تقف في صف مرتكب جريمة القتل بدافع الشرف أكثر مما تعاقبه.

وقد خضعت المادة خلال السنوات الأخيرة إلى تعديلين، الأول في عام 2011، عندما طرأ تعديل يشدد العقوبات المترتبة على جرائم الشرف والاغتصاب، بما يرفع الحد الأدنى لعقوبة ما يسمى بـ «جريمة شرف» إلى الحبس خمس سنوات شريطة توافر عنصر المفاجأة في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء، وتم إلغاء المادة 508 ليخضع المعتدي في جريمة الاغتصاب لعقوبة لا تقل عن الحبس سنتين حتى لو تزوج من ضحيته، بعد أن كانت المادة ذاتها توقف الملاحقة القانونية بحق مرتكب جريمة الاغتصاب إذا عقد زواج بينه وبين ضحيته لمدة لا تقل عن خمس سنوات شريطة ألا يتم الطلاق خلال هذه المدة بدون سبب، والتعديل الثاني كان في عام 2013، وعلى إثره أضحت عقوبة الجاني الحبس من 5 إلى 7 سنوات، في حالة القتل”.

وتعد أشهر الجرائم بذريعة الشرف في سوريا، جريمة قتل “زهرة عزو”  -16 سنة – في محافظة الحسكة شمال سوريا في يناير من العام 2007، وكانت الفتاة قد تعرضت للاختطاف والاغتصاب على يد أحد أصدقاء العائلة، وعلى الرغم من أن المجرم عوقب بالسجن، ظلت في نظر أهلها شريكة في الجرم تستحق القتل، فهربت إلى إحدى دور رعاية الفتيات، وتعرضت خلال الفترة التي قضتها هناك إلى محاولتي قتل، واحدة لأخيها والأخرى لعمها، لكن الدار تمكنت من حمايتها في المرتين.

عندما خرجت “زهرة” من الدار وانتقلت للعيش مع زوجها، وهو ابن خالتها الذي وثق في برائتها، تربص بها أخوها، وانتهز فرصة خروج زوجها من البيت، ليهاجمها بأربع طعنات قاتلة، وعلى الرغم من أن القتل عمدي، إلا أن محكمة الجنايات في ريف دمشق، أصدرت حكمها بعد سنتين، بحبس القاتل 3 سنوات، تخفض لذريعة «الدافع الشريف» إلى سنتين ونصف السنة وبالتالي أخلي سبيله لأنه أمضى هذه المدة في التوقيف، وعاد القاتل إلى حياته الطبيعية منتصرًا في عيون المحيطين به، فيما نفذت طعنة خامسة إلى جثة “زهرة”.