في القاهرة، تنطلق أغلب الأحداث، وفيها تدور أغلب القصص، قد تخرج منها لكن يقينًا ستعود إليها، المهم يجري على أرضها، والقرارات والتوصيات لا تخرج إلا من قلبها، هكذا هي الطبيعة المركزية، التي نعيش فيها ونستسلم لعجرفتها، فتتوجه كل الأنظار صوب هذا النطاق الجغرافي وحده، كل من خارجه لابد أن ينتقل إليه حتى يُرى ويُسمع، وإلا سيظل وسط عتمة لا تشرق عليه شمس الإعلام، وقلما تدري به الدولة.

في جنوب الصعيد، حيث تعاني النساء ويلات أمر وأقسى من تلك التي يعانينها في القاهرة، بسبب العادات والتقاليد والأعراف المكبلة، وبسبب ضعف أداء المظمات الحكومية وغير الحكومية على حد سواء، في مواجهة تلك الثقافة المعادية لحقوق المرأة، لأن المركزية تتحكم في الجميع، لكن ثمة تغيرات ولو محدودة طرأت بعد ثورة الــ25 من يناير، فعرف الصعيد مجموعات مستقلة أطلقتها فتيات يؤمن بضرورة التمرد والتغيير، ليس فحسب بل ومقدرتهن على القيام بذلك.

إحدى تلك المجموعات نشأت في “قنا” تلك المدينة التاريخية العتيقة، التي يعدها كثيرون عروس الصعيد، لما عرفته من تنمية وتطوير في الفترة الأخيرة، لكن التطوير لم يدرك الثقافة المجتمعية، ولم يمس المعتقدات الراسخة المتعلقة بحقوق النساء.

خرجت هذه المجموعة النسوية للنور قبل نحو سنتين، بعد أن اختارت مؤسستها «أسماء باسل»، اسم «دورِك» ليكون العنوان الذي تخاطب من خلاله فتيات المجتمع القنائي.

دورك“«دورِك» مبادرة رقمية، انطلقت من خلال صفحة وجروب على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وجاء اختيار الاسم، بصيغة خطاب المؤنث، لأن جميع عضوات المجموعة فتيات تتراوح أعمارهن ما بين 24 إلى 26 عامًا، ولأن الخطاب موجه بشكل أساسي إلى الإناث، ندعوهن للتمسك بحقوقهن والدفاع عنها، والعمل من أجل التغيير لأنه لن يُحدث التغيير سواهن.” بهذه الكلمات بدأت «أسماء باسل» تعريفنا بمجموعتها النسوية التي أطلقتها في 20 ديسمبر 2014.

وتسترجع «باسل» الدوافع التي ساقتها إلى تأسيس المجموعة الإلكترونية، وتقول “علاقتي بقضية حقوق النساء، بدأت عندما كنت أدرس بالجامعة، وكنت أتطلع لتحقيق مساحة أوسع من الاستقلال، في ظل مجتمع لا يستسيغ الأمر، فكنت حريصة على أن أنهل من العلم أكبر قدر ممكن، وأن أواصل تعليمي ما بعد الجامعي، وحرصت على السفر في معسكرات ورحلات خلال هذه الفترة وهو ما ترفضه أسر كثيرة في الصعيد، كل ذلك كان بمثابة تحدٍ لفروض عين تقضي بوجوب زواج البنات بعد التعليم، والبقاء تحت سلطة وتحكم الرجل والأعراف القبلية من قبله.

وتتابع قائلة “كان لدي إيمان راسخ، بإننا كإناث لابد أن يكون لنا كامل الحق في التعليم، والتنقل، والسفر، والعمل، والسير بأمان في الشوارع، ويتعين على هذا المجتمع استيعاب أن هذه الحقوق ليست منحة من رجاله.

أسماء باسل

«باسل» لم تنف وجود تحرش جنسي في “قنا”، لكنها أوضحت أنه يقتصر على التعدي اللفظي، ولا يصل إلى درجة الاعتداء الجسدي، إلا في أضيق الحدود، وتوضح السبب “ترجع قلة وقائع التحرش الجسدي في مجتمعنا، لطبيعته القبلية، فغالبًا إذ ما وقع حادث من هذا النوع، يتطور الأمر إلى خلاف بين عائلة الناجية والمتحرش، وقد ينشب على إثره عنف متبادل بين الجانبين.”

علاوة على هذه الانتهاكات، تكشف «باسل»، عن انتهاكات أخرى تتخذ شكلًا أكثر قبحًا ووحشية، تنهش في الجسد القنائي وتقتل إناثه، ومن الصعب أن يقترب منها أحد، ومنها على سبيل المثال؛ جرائم الشرف، والزواج القبلي.

تُقتَل الفتيات باسم الشرف، ثم يُدعى عليهن بالانتحار، على الرغم من غياب دوافع منطقية لقيامهن بذلك، وتمضي الأمور باعتبارها سرًا، بينما الجميع يعلم دون قدرة على البوح بأن الفتيات قُتِلن عن عمد، ولا أحد يستطيع الاعتراف، ولا حتى إعلان سبب القتل، لأن الصعيد مجتمع يصر على تصدير صورة مثالية عنه، ويدفن أي شيء قد ينال من هذه الصورة.” تقول «باسل»

وتستطرد قائلة “جريمة أخرى مسكوت عنها تتمثل في حرمان فتيات كثيرات من حق اختيار الزوج، ولا يحق لهن أن يبدين قبولًا أو رفضًا في ظل سطوة القبيلة، التي تتحكم في مستقبل الإناث.”

وتجدر الإشارة إلى أن “قنا”  لا صوت يعلو فيها فوق صوت القبيلة، هي المتحكم في مصير الفتيات من الميلاد وحتى الممات، وعندما يأتي موعد الزواج، فالأمر كله في يد كبارها، لأنه يرتبط في الثقافة القبلية بــ”العار”، فلا يحق لأي امرأة تقرير الزواج إلا بموافقة عليا، وذلك ينطبق على الأشراف والهوارة، فيما تسمح قبائل العرب – في حدود – بتزويج بناتهم من قبائل أخرى.

من ناحية اخرى، حال «أسماء باسل»  لا يختلف عن كثيرات من النسويات الشابات خاصة خارج القاهرة، اللاتي انطلقت مبادراتهن بعد المشاركة في المدرسة النسوية التي قدمتها مؤسسة نظرة للدراسات النسوية عبر دورتين الأولى في 2013، والثانية في 2014.

وتناولت المدرسة موضوعات، مثل؛  التطور التاريخي للمفاهيم والحركات النسوية وأفكارها وأجيالها، وعدد من الإشكاليات المختلفة مثل: التمييز، التنميط، العنف ضد النساء.

وتحكي «باسل» قصة التحاقها بالدورة الثانية من المدرسة النسوية “اتصلت بي صديقة، تخبرني بأنها التحقت بالدورة الأولى من المدرسة، وبدأت تروي لي بعض التفاصيل عنها وعن المحتوى الذي تقدمه، وقتها شعرت بأن ما تقوله، هو صلب اهتماماتي، لكن لم أكن أجيد التعبير عنه، وعندها قررت التقديم للالتحاق بالدورة الثانية، وتم قبولي بالفعل، وذهبت إلى القاهرة حيث شاركت لعدة أيام متواصلة في المدرسة التي ساهمت في تشكيل وعيي النسوي.

وتردف قائلة “عندما عدت إلى “قنا”، بدأت أنقل ما تحصلت عليه من معلومات، إلى صديقتين لي هما أسماء ومها، وبدأنا نتبادل وجهات النظر بشأن النسوية والمشكلات التي تعانيها النساء في مجتمعنا، ومن ثم اقترحت عليهما، تدشين مبادرة نبث من خلال أفكارنا، ساعيات إلى التوعية والتثقيف والتغيير.”

في مجتمع مغلق كالمجتمع القنائي، لم تكن فكرة الحديث عن حقوق المرأة بالسهلة على «أسماء» وصديقتيها، إذ تعرضن لهجوم ضارٍ من قبل المحيطين بهن، سواء كانوا أهل أو أقارب أو أصدقاء أو جيران، حتى ممن كانوا يظنونهم أكثر انفتاحًا.

وعن ذلك تقول “لقد قوبلنا بهجوم عنيف، وألصقت بنا تهم من عينة نشر فكر دخيل على المجتمع ويخالف الدين، لدرجة أنني اتهمت من قبل البعض بأنني أريد أن تسير النساء عاريات في الشوارع.

الصدمة وتنامي النفور الذي أعقب انطلاق المبادرة، جعل «باسل» وشريكتيها تعيدان التفكير بشأن المحتوى الذي ينشرنه عبر صفحتهن، وقررن استبدال محتوى التثقيف النسوي، بالتركيز على قضايا محددة والحديث بلهجة أكثر هدوءًا، وأقل حدةً.

وتضيف “استبدلنا الخطاب الذي بدأنا به، بعد أن ترك انطباعًا، فوقيًا واستعراضيًا، بالتركيز على القضايا الأكثر إلحاحًا في “قنا”، مثل زواج القاصرات، ختان الإناث، الحرمان أو التسرب من التعليم، والحرمان من الميراث، ووضع المطلقات، ومن خلال تقديم المعلومات والحقائق، وربطناها بوقائع فعلية، وحوادث حقيقية تُرسل إلينا، مما أضفى واقعية ومصداقية على المحتوى وجعله أكثر قربًا من عقل وقلب المتابعين.”

ويبدو أن تحويل المسار كان له أثر جيد، إذ تؤكد «باسل» أن تقبل المحيطين للمبادرة زاد بعد تلك الخطوة حتى بين الذكور.

وفقًا لدراسة أجرتها الأمم المتحدة عن وقائع زواج القاصرات في مصر، فإن زواج القاصرات يمثل ١٤٪ من حالات الزواج في مصر، فيما تصدرت محافظات الصعيد بنسبة ٢٣٪ من حالات الزواج.

وعن انتشار هذه الظاهرة في “قنا”، تقول «أسماء باسل» “الظاهرة مازالت حاضرة بقوة، في بعض قرى مركز دشنا مثل قريتي أبو دياب شرق، وأبو دياب غرب، وهناك النساء دورة حياتهن، من بيت الأب، إلى بيت الزوج، وتنتهي في القبر، فغالبًا ما يتعلمن حتى مرحلة معينة، ثم يجبرن على الخروج من المدرسة، والزواج مبكرًا ويبقين تحت وصاية الرجل حتى اَخر العمر.”

الوضع لا يختلف كثيرًا بشأن مسألة ختان الإناث، وتؤكد مؤسسة مبادرة «دورك»، أن الختان مازال منتشرًا في قنا، وأن الأهالي يعلمون أنه مجرم بالقانون، ويسمعون في التلفاز عن مضاره العديدة على الفتيات، لكن يبقى عرفًا سائدًا، وتكشف أن الحجم الأكبر من عمليات الختان يجريها أطباء في عياداتهم.

وفي هذا السياق متصل، تشير «باسل» إلى عدد من المعوقات التي تحد من تقدم وتطور أداء المبادرة؛ أولها تضييق الأسر على العضوات أنفسهن، إذ يمنعوهن من السفر لحضور التدريبات التي عادة ما تنعقد في القاهرة مما يضطرها إلى السفر وحيدة للاستفادة من هذه التدريبات، وهو ما يؤثر في كفاءة العضوات المعرفية ومن ثم كفاءة المبادرة، ومن ناحية أخرى فإن قلة عدد العضوات الذي لا يتجاوز سبع، يحول دون تنفيذ نشاط أوسع على الأرض.

أخيرًا؛ تكشف مؤسسة مبادرة «دورك»، أن ما من جهة نسوية بما فيها فرع المجلس القومي للمرأة في قنا، تواصل معهن أو حاول التعرف على تجربتهن ودعمها، بل إنها هي من يتواصل معهم للتدخل في المشكلات التي ترد إليهن، ومع ذلك فلا حياة لمن تنادي، المشاكل تبقى في قبضة الأعراف والتقاليد.