جهاد الراوي

 

جهاد الراوي: ناشطة نسوية

 

عندما أكون فتاة مصرية عربية، فالحديث عن جسدي ونسق العلاقات التي بنيت عليه وحوله هو أشبه بعمل عدائي وخرق لكل قواعد المحظور ومواجهة قاسية مع نفسي ومع المجتمع، وضرب مباشر لقيم الأسرة والمجتمع والدين والنظام الاجتماعي والسياسي في مصر، حاولت قدر الإمكان أن أسرد وجهة نظري التي نشأت عن عدد من التجارب الشخصية والمعاناة اليومية منذ لحظة إعلاني كمولود أنثى، دون أن أتبنى خطاب أشبه بكتابة مذكرات أو بمساحة نحيب من مرارة المعارك التي كان موضوعها الأساسي متعلق بجسدي الذي لا يجب أن يخضع لتصرفي المنفرد، ولكن بعد عدة محاولات للكتابة، أدركت أن الواقع العام هو تلك الحكايا الشخصية – الواقع اليومي اللا نهائي- التي تسرد بوضوح كيف كانت ولا تزال أجساد النساء محل صراع واسع لعدد من الأطراف يسعى كل منهم لفرض السيطرة، وأن المرأة وهي وحدها صاحبة الحق الأصيل المنفرد في ملكية جسدها والتصرف فيه هي الطرف الذي يرفض الجميع دائمًا اشتباكه في تلك “الخناقة”، لا أحاول هنا استعراض وجهة نظر منمقة، بل أفكر وأتسائل بصوت مسموع من خلال عدد من المشاهد التي شكلت وعيي حول جسدي.

مشهد (1)

كان أول إلتفات صادم  لمعركة السيطرة الجسد وحضور السؤال الأول وهو شخصي وأظن أنه شخصي بذات الدرجة لأغلب فتيات مصر عبر عدة أجيال، عندما طلبت مني أمي عدم ارتداء ملابس كاشفة مرة أخرى أمام أخي الذي يمر بفترة مراهقته، مازلت أتذكر هذا المشهد كأنه بالأمس، حيث طرح أسئلة مازالت مستمرة معي إلى الآن، كيف أصبح جسدي الذي كان يختبئ بين ذراعي أخي في ليالي البرد مؤذيًا وتتوجب تغطيته؟متى ولماذا؟

شعرت بإهانة قصوى لي ولأخي أيضًا الذي تم طرحه كمتحول من رمز للرعاية والحب إلى مخلوق ممهد للاعتداء في أية لحظة ساعيًا خلف شهوة غير مروضة، شعرت بقهر شديد أن كل مرة تظهر فيها ساقاي أو تنكشف ذراعي ستعرضني وأخي وعلاقتنا لانتهاك لن يغتفر، وهو ما كاد أن يحول علاقتي بجسدي إلى علاقة عدائية وقمع، لماذا تحدثت أمي عن احترام جسد أخي ومتطلباته بقمع جسدي وعدم احترام متطلباته البسيطة، إذا كانت المشكلة عند أخي فما دخلي بتلك القصة؟

حسنًا، ماذا إذا كان جسد أخي قد يثيرني في فترة مراهقتي؟ وهو الطرح الغائب والمحظور تناوله دائمًا حول شعور الفتاة بشهوة من الأساس، من هنا بدأت رحلة التفكير بشأن الخوف من أجساد النساء وطرحها كمجلبة للأذى، في مقابل طرح أجساد وشهوات الرجال كطرف معني بالحماية.

مشهد (2)

جلست يومًا مع جارة لنا كانت تتسم بالتدين وحسن الخلق، كانت على وشك الزواج وهو ما فتح نقاشًا حول العذرية وليلة الدخلة، لتخبرني بأسطوانة لم تكن المرة الأولى التي أسمعها، ولكن كانت المرة الأولى التي توقفت فيها عند هذا الأمر، أخبرتني هذه الصديقة أنه كلما زاد اَلم الفتاة وقت فض عذريتها واشتد نزيفها كلما تجلى لزوجها عفتها وعلت قيمتها في نظره.

سألتها بعد دقائق صمت عن تلك الجريمة التي يشوهون بها أعضاء النساء تحت مسمى “الطهارة”، جاوبتني بنعم، تم تختينها ووصفت لي بصوت محشرج ذلك الاَلم الذي لم يفارق جسدها يومًا، الذي استمر بقوة اللهب لما يقارب الشهر، يحرق عضوها ويحرمها القدرة على التبول أو ضم قدميها، أخبرتني أن كم التهاني والهدايا والاحتفاء من أسرتها والعائلة والجيران، لم تلمسها بأي حال حيث سيطر الاَلم ولم يفسح مكان لشعور آخر، استحضرت كل مشاهد ربط تعنيف جسد الفتاة بالعفة أو بحسن الخلق، وأن هناك قيمًا نشأت حول وحشية هذا الجسد الأنثوي الذي قد يكون تشويهه وإيلامه ترويضًا يضمن استئناسه،  من هنا أتت الحزمة الثانية من الأسئلة، ما الذي يجعل أجساد النساء أكثر من كونها مجرد أجساد تمامًا كأجساد الرجال؟ ما سبب كل تلك المخاوف والعدائية التي رسخت هذا النوع من القيم؟ لماذا لا تتألم أجسادنا عبر جروح اللعب في الشارع أو ركوب العجل أو الركض في ألعاب الاستغماية أو كسر أقدامنا أثناء تسلق درابزين السلم والذي يمثل اختيارنا، بدلًا من كل تلك الآلام العنيفة التي لم نختارها وقبلناها تحت مسميات الدين والعفة والتقاليد وحسن الخلق؟

مشهد (3)

مررت بأول علاقة عاطفية لي في عامي الواحد والعشرين، ذهبت إلى أبي وأمي أخبرهما بأن هناك شاب يريد خطبتي وأريد منهما التعرف عليه، قامت قيامة منزلنا ولم تهدأ طوال ثلاث سنوات، لم يخلُ يوم فيها من ضرب أو منع أو حبس أو إهانة، وهو المنزل الذي رفع طوال 21 عامًا شعار “ضرب البنت عيبة”، وحظيت فيه طوال تلك السنوات بمساحة احترام وتقدير حسدني عليها صديقاتي، لم تكن لدي إجابات إلى أن جاءت تلك الليلة التي أيقظني فيها حوار بين أبي وأمي حول مخاوفهم من علاقاتي بذلك الشاب الذي يشاركني أفكار تقدمية، “أكيد بيبوسها ،أكيد بيعملوا كدا في الشارع والناس بيشوفوهم، أي حد متضايق منك هيمسك سيرة بنتك ويفضحك” واستمر الحوار التحفيزي لغضب أبي إلى أن انتهى بــ”سايب لحمك لواحد منعرفوش لحد ما هتيجي سمعتك في الأرض!”

حسنًا كانت تلك الحرب الضارية سببها الخوف المرضي من أن أقبل شاب، ضحكت في سري من الصدمة، أدركت أن تلك المخاوف من جسدي لا تأتى فقط من قناعة الأسرة بامتلاكه بل أيضًا لأن المجتمع ينسب ذلك الجسد إلى أبي، وهي العلاقة التي يمكن أن تُستغل ضده.

اتسعت ساحة النزاع على جسدي خلال ثلاث سنوات، إما بحق العائلة في تعنيفه وإهانته قبل أن يعنفهم المجتمع ويهينهم بسببه، وإما بانحياز أبي أخيرًا لفكرة الستر ونقل حيازة وعار هذا الجسد إلى آخر بعد أن وافق على الخطبة.

من هنا جاء جزء من إجابة لسؤالين سابقين عن أسباب العدائية لأجساد النساء والخوف منها ، زاد سؤال عن إلى أي حد قد يصل استغلال علاقة الأسرة والمجتمع بأجساد النساء، والمصالح الآتية من تأصيل تلك القيم المريضة التي تحرم المرأة حق التصرف في جسدها.

مشهد (4)

قناة إخبارية تعرض خبر اعتقال فتيات بميدان التحرير يوم 9 مارس والكشف على عذريتهن على مرأى ومسمع جنود وأفراد من القوات المسلحة والتهديد بتلفيق تهم الدعارة، استوقفني كثيرًا في هذا الأمر هو استغلال أجساد النساء في إحباط وكسر مقاومة المجموعات والحركات الشعبية لقمعية وسلطوية النظام، وكيف تتعامل الأنظمة السلطوية مع أجساد النساء والعلاقات التي نشأت حولها في المجال الخاص لتحقيق مصالحها في المجال العام، التي قد تتمثل في تنفير وإرهاب المواطنين أو إجبار النساء على الانسحاب من المجال العام.

ويمكننا ربط هذا المشهد بحوادث التحرش الجماعي بميدان التحرير وحادثة تعرية ست البنات وتعبئة الجمهور ضد الثورة من خلال إشاعة وجود علاقات جنسية كاملة في ميدان التحرير.

هنا يتجلى بوضوح سبب تخاذل الدولة عن حل مشاكل العنف ضد النساء في المجال الخاص أو الاعتراف بحقوقهن في الاستقلال أو الإجهاض الآمن أو إقامة علاقات جنسية خارج إطار الزواج أو أي صورة قد تقر بحقهن في امتلاك أجسادهن أو تمكنهن من هذا الحق، لأن استغلال ثنائية الجسد والشرف وقيم العدائية لجسد المرأة والخوف من مجلبته للأذى وصور القمع والتعنيف لأجساد النساء تحت منظومة أفكار يقرها الدين والعرف والقانون يضمن للدولة القدرة على فرض سيطرتها الأبوية في المجال العام والهروب من كل حزمة الحقوق الإنسانية التي ستُجبر على الالتزام بها بمجرد تمكن النساء من حق التصرف في أجسادهن، هذا الحق الذي ستلازمه نقلة ثقافية واجتماعية وهدم لصميم السلطة الأبوية، لن يأتي إلا بتغيير سياسي تجلت بداياته بشكل واضح في ميدان التحرير وتم قمعه بكل تلك الحوادث التي استهدفت أجساد النساء وعملت على إذلالها.

مشهد (5)

استكمالًا للسؤال عن حد الاستغلال الذي قام على الإقرار أو التغاضي أو التنصل من معارضة ما أنتجه النظام الاجتماعي من قيم وأفكار حول أجساد النساء، أتذكر مناقشة بين بعض النشطاء السياسيين التقدميين على أحد المقاهي، وهي لم تكن سوى انعكاس لجانب كبير من الحقيقة حاصرتني في أماكن عمل ودراسة وفي الشارع وفي الميدان، حول كيفية اكتساب تأييد الشارع واستقطابه لبرنامجهم السياسي، وكيفية تبني خطاب جذاب للبسطاء والعامة، انطلق أحدهم بذكر مثال يخص قضايا النساء قائلا “أنا مش هروح أقول في مؤتمر ولا لمجموعة من الناس أني مع حقوق المرأة، محدش هيعبرك؛ لما بتيجي سيرة حقوق المرأة بنتكلم عن الحقوق الاقتصادية والصناعات الصغيرة”، تلت تلك الجملة عدد من القهقهات وسرد الأمثلة لتنتهي بأن أفكار المجموعات النسوية في مصر بالأساس مبالغة ومفتعلة وخارج سياق القبول المجتمعي، وهو ما سيجعل أي تيار سياسي يفقد أسهمه في كل مرة يضع أمرأة على قائمته أو مقعده في الانتخابات، أو يوليها منصب قيادي في حزب أو حركة، أو يتبنى خطاب له إطار نسوي، واستكمل آخر بجملة صادمة  “يابني الكلام ده نقوله وإحنا بنقنع الستات تشتغل معانا، ولا بنوسع دوايرنا في الوسط ده، غير كدا ميأكلش عيش” وهو ما يفسر لي عدم تمكين النساء بشكل كافي داخل التيارات السياسية، بل ويشرح عدم قدرة المجموعات النسوية في أغلب الأحيان على تمرير متطلباتهن ضمن مشروع سياسي، ببساطة كل من له مصلحة مع الشارع، إما سيستغل علاقة الشارع بأجساد النساء أو سيتنصل من قناعته –إن وجدت- بالحق الكامل والأصيل والمنفرد للنساء في التصرف في أجسادهن، وببساطة الجميع يدافع عن مصالحه وليس للنساء حليف قوي في قضيتهن.

مرورًا بتلك المشاهد وغيرها، كانت محاولة هضم أو استيعاب تلك العلاقات والنزاعات التي دارت حول أجسادنا عسيرة ومعقدة، ولم أستطع وأنا أمر بها دون أن تتغير علاقتي بجسدي، فقد ظننت في البداية أن استقلالي عن الأسرة وتمردي على تلك المنظومة، سيمنحني الحق في التصرف في جسدي ويحفظ خصوصية علاقتي به، واعتقدت أن تلك المعارك مع المنظومة الأبوية كانت ملخصة في العائلة وانتهت لصالحي فور الإفلات من قبضتها، وخاب ظني حين اكتشفت أن صراع المنزل كان الأهون، فلا أنسى كم المعارف الذين خسرت احترامهم بعد أن خلعت الحجاب، بالإضافة إلى تصنيفي تلقائيًا كفتاة منحرفة، لأنني لا أعيش مع أسرتي، أو تابوهات الانحلال التي اندرجت تحتها مع كل سيجارة أشعلتها.

لم يمر الأمر بسلام، فبعد الكثير من الصمود والمواجهة ومحاولات فرض القيم ونفاذ الطاقة، تغيرت نظرتي لجسدي وأصبحت أنا أيضًا أخاف منه ومما يجلبه لي من تعب، وفي محاولة هروب من ذلك الفخ انتقلت للعيش في زحام العاصمة لأجد مجال أكثر قبولًا وترحيبًا –كما بدا لي- منحني كثيرًا من الراحة مع كل إشادة بفستاني القصير وقبول لسيجارتي وسلوكي، الذي يتم نعته دائمًا بــ”التحرر”، ويخيب ظني وينتابني الفزع مع كل مشهد مررت به أو حدث أمامي، يظهر دوافع الترحيب بالأجساد المتمردة التي يمكن أن يحظوا معها بعلاقات جنسية أو بمغامرات شيقة دون حظر وتحت راية “خليكي Open Minded” ليصبح تحفظي على كل ما لا يريحني تعقيدًا وتأخرًا وشكلًا محافظًا، يحرمني من وسام التقدمية والتفتح الذي تملك بعض المجموعات حق منحه الحصري.

كثيرًا ممن ظننتهم متمردين على السلطة الأبوية، ويقفون معي على أرض مشتركة، كانوا مجرد متطرفين حطموا القواعد وفرضوا قواعد عكسية بديلة كجزء من الصراع على أجساد الفتيات التي يمكنهم تصنيفها بعدد العلاقات الجنسية، والقدرة على احتساء الكحول، ومدى القبول بعلاقات مفتوحة إلى آخره، و يمكنهم استعمالها والتمتع بها دون إلتزامات من خلال فرض منظومة قيم جديدة،  لتصبح القبضة الأولى التي كانت تبيع جسد الفتاة إلى زوج مقابل عدد من الالتزامات العائلية والمادية والاجتماعية أكثر أناقة ورحمة من تلك القبضة التي تنتهك أجسادهن مقابل منحهن مقعد في أوساطهم.

ما بين مشاهد الوصم والوصم المضاد ومحاولاتي المستمرة لحفظ سلامة علاقتي بجسدي، أفلح الأمر بعض الوقت وخاب أغلبه ومازلت لا أملك –وكثيرات مثلي – بعد كل تلك المعارك الحق الكامل في التصرف في جسدي، الذي واجهتني الظروف كثيرًا بمجلبته للأذى لي شخصيًا، وفرضت علي الخوف منه،وقمعه أحيانًا كثيرة، جسدي الذي رفضت تغطيته منذ عشر سنوات تجنبًا لإثارة أخي، غطيته طواعية تجنبًا لإثارة شهوات المتحرشين، وتحفظات بواب العمارة، وتصنيفات الجيران، وغضب المارة، واحتمالية الكشف عن عذريتنا.

الإجابة الوحيدة التي توصلت إليها بوضوح، هي أن جسد المرأة أكبر من كونه مجرد جسد، لأنه رمزية واضحة لتلك القيم الأبوية التي يتسابق الجميع في فرضها واكتساب سلطات من خلالها، والخوف الذي أتى من أجسادنا وتسرب لنا كان ناشئًا عن الضريبة الفادحة التي يمكن أن تنتج من تلك المعارك التي نشأت كنتاج لهذا النظام الاجتماعي وقيمه وحولت أجساد النساء إلى أحد الملكيات التي تعزز سلطة أو تكسب قوة وتنشئ نزاعات لمحاولة فرض السيطرة. وتطور هذا المضمون عبر الزمن وعبر إقراره وتعزيزه بالقيم الدينية والعرف والقانون، زادت الأمور تعقيدًا لتصبح محاولة رد الحق في تلك الأجساد لأصحابه، هو تكسير وضرب مباشر في المنظومة الأبوية وإقرار بعدد من الحقوق الإنسانية الملازمة وسحب البساط من تحت أقدام كل تلك الأطراف المتنازعة، وهو ما جعل الحديث حول حق النساء في أجسادهن نادرًا ما يحظى بحليف، وجعلنا نتنازل عن حقنا هذا أحيانًا كثيرة لنحافظ على حقوق أخرى مثل “العيش الآمن”.