أسماء باسل

 

أسماء باسل: ناشطة نسوية ومؤسسة مبادرة “دورك” بمحافظة قنا

 

هذه الحروف ليست تعبيرًا مجازيًا عن إحدى الفتيات المنتحرات بالفعل، بل تعبير مجازي مكرر عن كل حادثة باختلاف الأحرف المكتوبة في محضر الشرطة لإعلان انتحار الضحية، بدلًا من إعلان قتلها على يد الأهل أو ذوي القربى، ممن يملكون حق السطو على روح وجسد إحداهن لمجرد الشك في السلوك، أو بسبب التمرد بأي حال، أو لإصرارها على اختيار ما يتعارض مع تقاليد الإطار الذي تعيش به، أو حتى محاولة إحداهن في التصرف في حياتها وبأي شكل غير مُدرَج في أعراف الأهل والقبيلة ذات الوصاية، بالإضافة لحالات الانتحار الحقيقية، التي جاءت نتيجة الرعب الذي دفع إحداهن للتفكير في مصيرها والمخاوف المُحيطة به، كما حدث مع أخريات قبلها تحفظ قصصهن عن ظهر قلب، وتعرف خطوات القضاء على حياتهن تمامًا.

الحال في الصعيد، لا هو مُرعب بشكل يومي، ولا هو مُسالم بشكل يسمح للفتيات باقتناص فرصة حياة كاملة، تليق بها كفرد له حق الحياة والتصرف، والاختيار، خاصة لمن يقعن تحت طاولة القبيلة؛ كثيرات يتم قتلهُن وإخفاء خبرِهُن بالفعل بدءًا من التكتُّم على الحادثة في محيط وقوعها، وتناقُل خبرها سرًا، وصولًا إلى محضر الشرطة المكتوب فيه صفة “الضحية المنتحرة” بدلًا من “الضحية المقتولة” على يد أخيها أو أبيها أو أحد أفراد العائلة الممتدة، كنوع من التواطؤ الكامل مع وصاية المجتمع الصعيدي على النساء وأجسادهن وحياتهن،  أرواح وأجساد النساء في هذا المنعطف تحديدًا غير مهمة على الإطلاق، حينما يقترب من إحداهن أي شيء يتعلق بالسلوك أو الشك فيه من قِبَل العائلة سواء كان حقيقيًا أو غير حقيقي، فإنه يتم وضعها في خانة غير المرغوب في حياتهن، لأنها تحمل شرف العائلة بأكملها في روحها وجسدها وحياتها، ومن ثَم فاستمرار هذه المكونات على الأرض يُشكِّل خطرًا على العائلة أو القبيلة، وإذا وصل الأمر إلى حد الخطيئة، فأول الحلول هو القتل الكَيدي المباشر، وليس إصلاح ما حدث أو حتى محاولة تَفهُم أسبابه، ثم علاجه، باعتبار أن هذا القتل تطهير وقطع الصلة بين هذا الجسد والروح، وبين أعراف القبيلة التي لا تقبل ذلك.

جهات وركائز عديدة هنا تتواطىء جميعها ضد النساء وضد أجسادهن وحياتهن بالكامل، بدءًا من الأعراف التي تتحكم في عملية اتجاه الزواج، ولمن يتم تزويج الفتيات، هل من داخل القبيلة أو من خارجها، هل من أبناء العمومة أم من أقرباء اَخرين، إلى مفاهيم تتعلق بالميراث والمظهر الاجتماعي وعدم مخالفة العادات، التي تتحملها الفتيات فقط؛ بالإضافة إلى شكل اَخر من الانتهاك، يتمثل في الختان الذي له وجود لا بأس به حتى هذه اللحظة، تتكاتف حول أهميته الأعراف والتفاسير الدينية والعادات والأطباء والتهميش الذي يلاقيه الصعيد إلى الحد الذي جعل الأطباء يمارسون هذه العملية المُجرّمة من قِبَل الدولة في عياداتهم الخاصة المُرخصة من قِبَل وزارة الصحة لمزاولة مهنة الطب، هذا كله تمهيدًا لعملية الزواج، التي في أغلب الأحيان لا تكون للفتيات فيها فرصة اختيار حر، وإذا ساهمت في الاختيار فإنه يكون بناءً على محاولات لإقناعها بالموافقة لإخلاء مسؤوليتهم من الشعور بذنب الإجبار؛ لتأتي ليلة الزواج الحافلة بكل أنواع الإهانات البشرية لخصوصية الجسد خاصة لدى الفتيات، ففي ليلة العرس الجميع ينتظر خارج منزل الزوجية لمعرفة ما ستسفر عنه هذه الليلة بين الزوجين.

من المفترض أن تُتاح لهما مساحة أمان وخصوصية غير مشروطة ليبدءا معًا حياتهما الزوجية بعيدًا عن مراقبة الآخرين السّاعين إلى الاحتفاء بفحولة الزوج وبشرف الزوجة المُتَلَخص في قطرات الدم على فراش الزوجية لتنطلق بعدها زغاريد النسوة تجوب شوارع البلدة الفارغة تمامًا من الأصوات إلا من صوت الزغاريد المُبرهِنة على نزول قطرات دم من جسد الفتاة توًّا والحاضر يِعلِم الغايب، ليعلم كل الناس أن شيئًا ما تم بين فلان وفلانة، هذا بخلاف إطلاق الأعيرة النارية احتفالًا بهذا المشهد الرهيب، ناهيك عن المُترددين على غرفة العروس بعد العملية بدقائق معدودة لإشباع رغبتهم في الفرحة الزائدة، لأن ابنتهم برهنت على شرفها ولم تستغرق وقت كبير لإنزال الدم، ولم تجعل الناس يسألون ماذا حدث؟ أو لماذا تأخرت الدخلة؟ وهل هناك شيء ما؟

انتهاكات الجسد لم تنتهِ بعد مشهد ليلة العرس، هناك معركة أخرى ركائزها؛ الجسد والخِلفة أو الإنجاب، إذا كانت سيدة تنجب البنات أو لا تنجب من الأساس، فيجوز الزواج بغيرها حتى بدون رغبتها بغرض إنجاب أطفال وغالبًا أطفال ذكور ولا ضرر إذا تحملت النساء خلال دورة حياتهن بالكامل العديد من الإهانات المتعلقة بالشكل والسمنة والنحافة ولون البشرة لأجل إدخالها في حلبة الصراع على الزواج، فما إن دخلت مرحلة الزواج ظل السؤال بشأن الإنجاب ونوع الأطفال والمدة التي تستغرقها بين طفل وآخر، وإمكانية الزواج من أخرى، قد تكون الزوجة الأولى قامت بدورها على أكمل وجه في الإنجاب، لكن جسدها ما عاد يرضي الزوج في استكمال حياته معها وحدها، مادام هناك مُتسع للزواج بأخرى.

بقي أن نقول في هذا المقام الواسع جدًا الذي لم يتنهِ، إن هناك فئة أكثر تعرضًا للظلم بين النساء جميعهن، يقرر المجتمع إقصاءها تمامًا، وألا يدمجها مع الآخرين لأن جسدها عار وسُبّة وشيء مشين أمام الآخرين، فئة ذوي الاحتياجات الخاصة من الفتيات والنساء، خاصة ممن لديهن إعاقة في أرجلهن أو أياديهن أو وجوههن، هؤلاء محكوم عليهن بعدم أحقيتهن في التعليم والخروج والتصرف والاختيار والزواج أو التواجد في مجموعات صغيرة، وخروجهن يكون للضرورة القصوى، ماذا لو كان هؤلاء أسوياء الجسد أو لا يعانين إعاقات مختلفة، ماذا لو تم تنحية الجسد من حسابات الحقوق الشخصية في الحياة وعدم اعتباره عائقًا أمام أي حقوق سواء للنساء أو الرجال؟