اسمه بارز في قائمة الأفضل بين صناع السينما المصرية، وهو أحد أهم مخرجي تيار الواقعية الجديدة في السينما المصرية، إنه “محمد خان”، الذي رحل عن عالمنا رحيلًا مفاجئًا، بعد أقل قليلًا من 74 عامًا في حب الحياة وما يقارب 40 سنةً في عشق السينما.

المخرج “محمد خان”

أفلام “خان”، إلى جانب واقعيتها، أوغلت في النفوس البشرية تعمقًا، ومن هنا اكتسبت مصداقيتها، وأضحى كل فيلم حالة خاصة، يعيش فيه مشاهدوه ويتعلقون بتفاصيله، ويجدون في شخصياته وصراعاتها تشابهًا بينهم وبينها.

الشخوص في سينما “خان” مرسومة بدقة عالية وتفاصيلها محكمة بشدة، وعلى رأسها الشخصيات النسائية؛ التي قدمها في خمسة وعشرين فيلمًا، هي مجمل أعماله السينمائية. في عوالم “خان”، النساء يعانين ويتمردن ويقاومن، قد ينكسرن لكن سرعان ما يستعدن قوتهن، فالهزيمة مؤقتة في حيواتهن.

نستعرض هنا عددًا من الشخصيات النسائية، التي تصدرت بعضًا من أفلام “خان”، وتركت أثرًا في تاريخ الشخصيات السينمائية، وطُبِعت قصصها في ذاكرة كثير ممن شاهدوها.

نجوى

فتاة صعيدية تقترب من إتمام عامها الثلاثين، تعيش في المنيا حيث المجتمع المشحون بالذكورية، وتأتيها الفرصة للذهاب إلى القاهرة، في رحلة عمل قصيرة، لتعيد اكتشاف نفسها، وتدرك قوتها، وتجد الحب الذي كذبه المحيطون بها.

“نجوى” كأغلب نساء “خان”، امرأة بسيطة وأحلامها مثلها، هي متمردة، لكن ليس ذلك التمرد المعهود المصحوب بمقاومة واضحة الملامح، فهي التي تأبى القبول بالزواج بمنطق “الزوج المناسب قبل فوات الاَوان”، ولا يبدو أنها من القانعات بمقولة “ظل راجل ولا ظل حيطة”، وعلى الرغم من مساعي المحيطين بها، من أجل تذويبها في قالب المرأة المسيرة، فإن تمردها ينجلي عندما تقرر أن تنطلق في رحلتها بحثًا عن “اَبلة تهاني” في القاهرة، لتكتشف أنها على موعد مع الحب الذي اَمنت بوجوده. في رحلة “نجوى” تكتشف قدراتها على تذليل العقبات ومغالبة الصعاب، لتُفاجئ نفسها قبل الاَخرين، بقدرتها على تجاوز عثرات المجتمع القاهري.

أيضـــــــــــــــًا.. «في شقة مصر الجديدة».. رحلة الخروج للحرية وتعضيد التمرد

هيام

فتاة تعمل بمنصع نسيج، تنتمي إلى الطبقة الكادحة، حيث تجد الأفكار الذكورية طريقها ممهدًا للتوغل في العقول، فتعلو قيمة ما يسمى بــ”شرف المرأة” المُختَزل في غشاء وقطرات دماء.

بالإضافة إلى الخذلان، الذي تتعرض له على يد من استغل حبها له، تجد نفسها متهمة بالتفريط في “الشرف”، وتحيط بها الشكوك والظنون، فتصبح هدفًا يبطش به كل من حولها، بداية من الأم، ثم زوج الأم، والجدة التي تعاقبها على الشكوك بطمس أحد ملامح أنثوتها، وتقص شعرها تمامًا، بعد تقييدها وإلقائها تحت قدميها، لتدهس بإحداهما وجهها، في مشهد يعري حجم الذل والإذلال الذي تتعرض له النساء بسبب تقديس المجتمع للعذرية.

لم تنتهي القصة بهزيمة “هيام”، بل على العكس فقد انتهى الفيلم بانتصار أنثوي، عبّر عنه مشهد النهاية، عندما قررت حضور عرس، الرجل الذي تسبب في إيلامها نفسيًا وجسديًا، ورقصت أمام الجميع بخفة، لترد بكل حركة على الخيبات التي كان سببًا فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، وكلما تمايل جسدها، أسقطت عن كاهلها ذكرى من ذكريات الاَلم.

أيضــــــًا.. «فتاة المصنع».. عن الوجه القبيح للمجتمع الذي يتسلط على أجساد النساء ويشوههن بحجة الدفاع عن الشرف

وبالنظر إلى أفلام أخرى لـ”خان”، فإن الرقص بالنسبة لشخوصه، فعل مقاومة وتحرر من الماضي، فقد سبق وفعل ذلك في رقصة “حياة”، التي أدت دورها “عايدة رياض” في فيلم “في شقة مصر الجديدة”، وفي الرقصة التي جمعت الصديقتين “ياسمين” و”جومانا” في “بنات وسط البلد”.

لقطة-من-فيلم-فتاة-المصنعهند وكاميليا

امرأتان من بين كثيرات قهرهن الفقر وساقتهن قسوة العيش إلى العمل كخادمات في المنازل، حيث يشاهدن المتع ولا يقربنها، وتحاوطهن النعم، لكن يُحرَّم عليهن المساس بها، وعلى الرغم من توحش الظروف، فإن الأمل في الأفضل حي لا يموت داخلهما.

بين نساء وقصص كثيرة في واقع “خان” السينمائي، قصتا “هند” و”كاميليا” هما الأكثر تجسيدًا لقهر الرجال والفقر معًا بحق النساء، فقد أجبرت الظروف “هند” الريفية، بسيطة القلب والتفكير، على العمل خادمةً لدى إحدى الأسر في القاهرة، بعد وفاة زوجها بعد شهر واحد من الزواج؛ وهو ما يدفعها إلى تحمل الإهانة والانصياع للأمر الواقع، الذي تفتقد بسببه الشعور بالأمان، وتُحرَم من راتبها الشهري، الذي يتحصل عليه خالها عنوةً، وفي هذا الفيلم أيضًا يبقى الحب مبتغى لا سيما في حالة “هند”، التي تقع في حب “سيد” الشاب النصاب، الذي تتزوجه وتنجب منه لاحقًا ابنتها “أحلام”، أما “كاميليا”، فتبدو أكثر استقلالية، فهي مطلقة تعيش مع أخيها وأسرته، تعمل بالخدمة في المنازل حتى تنفق على البيت، ورغم الاَلم الغائر وتعب الكدح اليومي، قلما تفارق الابتسامة وجهها، أو يرحل عن قلبها الأمل، وعلى عكس “هند”، فإنها امرأة متمردة، تقود حياتها، وتجد في ابتعادها عن الزواج “حرية”. تتطلع “كاميليا” إلى معيشة ميسورة وتسعى دائمًا لتحقيق ذلك، مهما ضاقت بها السبل.

ياسمين وجومانا

وسط البلد بزحامها وضجيجها ووجوهها الكثيرة، التي تتداخل ملامحها وتتشابك قصصها، يقدم “خان” قصتين متشابكتين، لفتاتين ترتبطان بـ”وسط البلد” حيث أماكن عملهما وتنزههما ومجالسهما. إحداهما تعمل في كوافير نسائي والأخرى تعمل في إحدى محال الملابس، ليس لهن في الحياة مطالب واَمال كبيرة، وإنما تتلخص أحلامهما في قصة حب وزواج سعيد.

على الرغم من بساطة القصة وتكرارها كما هو الحال في الفيلمين السابقين، فقد اعتاد”خان” أن يقدم قصصًا سلسة، لكنها في الوقت نفسه محفوفة بتفاصيل، وفي سياق رؤية سينمائية ساحرة، في قرائتها للنفس البشرية وما يعتمل بها، فضلًا عن أنها ترفع اللثام عن واقعنا بعيوبه وذكوريته، فمن خلال “ياسمين” نعرف إلى أي قدر تصنع التربية التمييزية ذكورًا، يتحكمون ويمارسون تسلطًا على أخواتهن، حتى إن كن أكبر منهم سنًا، والمبرر هو إثبات “الرجولة”، كما يتبين استهانة الأب بمشاعر زوجته، التي يتزوج غيرها سرًا ختى لا تعلم، ضاربًا عرض الحائط بحقوقها، وغارقًا في أنانية مغلفة بذكورية.

نوال

شخصية غنية بالمشاعر، تبحث عن الأمان الذي تفتقده مع زوجها “عزت أبو الروس”، رجل الأعمال المتسلط، الذي تزوجها إبان فترة مراهقتها، وحوّل أحلامها إلى كابوس طويل، عاشت معه في منزل راقٍ بالإسكندرية، لا تعرف العواطف له مسلكًا، بينما الجمود يسيطر على العلاقة بينهما، حتى قررت التمرد على هذه الحياة وطلب الطلاق. “نوال” خلافًا لما سبق ذكره من شخصيات نسائية في عوالم “خان”، تنتمي إلى طبقة أعلى، ومع ذلك فإن أحلامها ليست ببعيدة عنهن، فهي أيضًا تحلم بالحب، وعندما تجده تزداد قوةً وقدرة على مواجهة زوجها بجبروته.

نهاية قصة “نوال” تختلف عن نهايات الأمل، التي ظهرت في كثير من أفلام “خان” اللاحقة على هذا الفيلم، فقد جسدت النهاية الاستسلام للموت المًختَار، وانقلاب الانتقام من الطليق الذي قتل حبيبها، إرضاءً لغروره الذكوري المتعالي ولإبقائها في حوزته كأشياء أخرى يمتلكها، إلى انتقام مزدوج من نفسها ومنه.