يلاحق العنف المصريات فى الأيام العادية دون هوادة، وحتى فى الأيام المخصصة لمناهضة هذا العنف على مختلف صوره، وكأن بلدهن وشركائهن على هذه الأرض، يستكثرون عليهن مرور هذه الأيام، على الأقل بوتيرة أدنى من العنف المستمر بلا أمل فى توقفه.
ففي مصر، وكانت ثورة يناير مازالت فى أوج اشتعالها، خرجت النساء فى اليوم العالمى للمرأة فى 8 مارس 2011 ، للتظاهر حيث قامت الثورة فى ميدان التحرير، يطالبن بحقوقهن فى المساواة، وكتابة الدستور، وسن تشريعات تحد من العنف ضدهن، فكان الرد البليغ وقتذاك، تحرش جماعى مخزٍ شهد عليه العالم من أقصاه إلى أدناه.
وفى يوم المرأة المصرية منذ عامين فى 2013، تعرضت امرأة مصرية للصفع من قبل أحد زبانية الضلال أمام مكتب إرشاد جماعة الإخوان إبان فترة حكمهم لمصر وهى “مرفت موسى”، ووقتها انقلبت الأمور ضدها بترديد السؤال الأبله”إيه اللى وداها هناك؟”
وفى يوم المرأة المصرية أيضًا لكن بعد عام وتحديدًا فى 16 مارس 2014، تعرضت طالبة للتحرش الجماعى فى قلب جامعة القاهرة وهى الواقعة المعروفة بتحرش طالبة الحقوق، واتهمت اَئذ بأنها السبب فيما تعرضت له من تحرش بحجة “وإيه اللى لبسها كدا فى الجامعة؟”
وفى اليوم التالى لليوم الدولى لمناهضة العنف ضد المرأة عام 2013، وقعت أحداث مجلس الشورى الشهيرة “26 نوفمبر 2013″، والتى قامت خلالها قوات الأمن المصرية بفض تظاهرة عرفت إعلاميًا باسم “لا للمحاكمات العسكرية”، وتعرض عدد من الناشطات المشاركات فيها للاعتداء على يد أفراد الأمن، أبرزهن “منى سيف، ومى سعد ، ونازلى حسين”، ولم يسلمن اَنذاك من تحميلهن مسؤولية ما جرى، وعلت من جديد الأصوات التى تردد السؤال إياه ” إيه اللى وادهم هناك؟”
أخيرًا وفى خضم الـ16 يومًا الدولية لمناهضة العنف ضد المرأة، وفى ظل احتفاءً عربي ودولى واضح هذا العام، خرج علينا وزير العدل المستشار “أحمد الزند”، بقرار يتعلق بتعديلات قوانين الشهر العقاري والتوثيق، وقد تضمنت القوانين المعدلة تكليف طالب الزواج الأجنبي من طالبة الزواج المصرية بتقديم شهادات استثمار بالبنك الأهلي المصري بمبلغ خمسين ألف جنيهًا باسم طالبة الزواج المصرية، استيفاءً للمستندات المطلوبة لدى مكتب التوثيق، وذلك إذا ما جاوز فارق السن بينهما خمسة وعشرين سنة، عند توثيق العقد.
وبمجرد تداول الصحف والمواقع الإخبارية الإلكترونية، للخبر، هب مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعى ضد القرار، معلنين عن غضبهم وسخطهم، فيما وقفت أغلب المنظمات والشخصيات الناشطة فى مجال الدفاع عن حقوق المرأة ضد القرار جملةً وتفصيلًا مع وجود بعض الاستثناءات.
حديث الساعة .. “الزند” متهم بتأصيل الاتجار بالنساء
لم يمر القرار مرور الكرام، بل أثار عاصفة من الجدل، بدأت على مواقع التواصل الاجتماعى، وسرعان ما انتقلت إلى الإعلام، من ثم الشارع المصري.
وجاءت أغلب ردود الأفعال على الفضاء الإلكتروني تندد بالقرار، وتتهم وزير العدل بتقنين بيع بنات مصر، فيما اعتبرته عدد من المنظمات النسوية تسعيرًا للزواج، وتجارة فى بنات البلد لمن يستطيع أن يدفع أكثر، فى المقابل دافعت وزارة العدل عن القرار من خلال متحدثها الرسمي “حمدى عبد التواب”، الذى لم يكف عن تبريره بالتأكيد والتشديد على كون القرار يأتى تأمينًا وتحصينًا للفتاة المصرية، مع إشارته إلى أن القانون بالفعل موجود منذ 1976، وكل ما جرى هو تعديل بشأن مبلغ الشهادة، إذ تم رفعه من 40 ألف إلى 50 ألف جنيهًا.
وفى مداخلاته المتكررة على عدد من القنوات المصرية الفضائية مثل CBC، والعاصمة، ودريم، حرص أن يؤكد أن هناك حرب شعواء ضد المستشار “الزند”، وعلى الجانب الاَخر أن الوزارة حريصة ألا تخالف الشريعة الإسلامية.

فى السياق ذاته، أصدر عدد من المنظمات المعنية بشؤون المرأة، بيانات تستنكر القرار، من بينها مؤسسة قضايا المرأة التى قالت فى بيانها بهذا الخصوص “وتؤكد المؤسسة أن بنات مصر و نسائها لسنَ للبيع، و أن مدلول القرار ما هو إلا صورة من صور تسعير الزواج و ربطه بمقابل مادي، و الذى لن يحل مشكلة الاتجار بالنساء وكذلك اتخاذ البعض ورقة الزواج كوسيلة لذلك .. بل سيفتح الباب على المزايدة بأن من يملك أكثر يتزوج أكثر.”
فيما اتخذ الاتحاد النوعي لنساء مصر نفس الموقف المعادي للقرار، وذلك وفقًا لما جاء على لسان رئيسته الدكتورة “هدى بدران”، والتى أكدت أن القرار يهين كرامة المرأة المصرية، ويحولنا لسوق نخاسة، واعتبرت أن القانون القائم منذ أكثر من 30 عامًا قانونًا فاسدًا، ولابد أن يمحى ويلغى، وتساءلت مستنكرة “هل الدولة بتلم فلوس على أجساد البنات الفقراء ؟”

المبادرة المصرية للحقوق الشخصية كانت شديدة الوضوح فى بيانها وقالت “القرار تقنين لجريمة الاتجار فبدلًا من شعور سماسرة وطالبي الزواج بالخوف ومحاولة إخفاء جريمتهم عن طريق تجنب الطرق الرسمية سيقومون باستيفاء شرط شهادات الاستثمار ويتوجهون إلى وزارة العدل لإتمام أوراق الزواج بمباركة الدولة” وأضافت المبادرة أن الوزارة تتخلى عن دورها في مكافحة الجريمة المشينة وتعتبر أن هذا الشكل من الاتجار هو شكل لا يمكن منعه، وبالتالي تحاول تحسين شروط استرقاق النساء من خلال ضمان حد أدنى مقابل الخدمات الجنسية التي ستقدمها المصريات للأزواج الأجانب.
فيما اتخذ المركز المصري لحقوق المرأة منحىً اَخرًا، أقرب لإمساك العصا من المنتصف، حيث اعتبر المركز فى بيانه الصادر فى هذا الشأن، أن القرار نواياه طيبة، لكن جانبه الصواب لأن حماية المرأة من الاستغلال ليست فى زيادة مبلغ الشهادة الاستثمارية وإنما فى تحقيق عدة إجراءات منها الرجوع إلى الأصل فى القانون الصادر عام 1976 والذى يجعل حالات الزواج بفارق 25 سنة من أجنبي غير مسموح لما ينطوى عليه من شبهات عالية للاتجار وجعل الاستثناء لحالات فردية يتم التحقق فيها، للتأكد أنها قائمة على إرادة المرأة فى ظروف تؤكد عدم الاستغلال او الاتجار، بما يعنى أن المركز ليس ضد القانون القائم، ولكن فى الوقت ذاته لم يفصح عن قبول تام.
أما عمومية نساء مصر اتخذت موقفًا أكثر صراحة من المركز المصري لحقوق المرأة، وأعلنت قبولها ودعمها للقرار، إذ أعلنت “منال العبسي” رئيس مجلس إدارة الجمعية العمومية لنساء مصر بقرار وزير العدل، واصفة إياه بالذى يحفظ ويصون كرامة الفتيات ويؤمن مستقبلهن ويواجه بشكل صريح ظاهرة الزواج العرفي والمتاجرة بالفتيات عند الزواج من أجنبي.
القومى للمرأة ينحاز للحكومة ويعتبر الرافضين للقرار “مضللين” و”ضد الوطن”
على النقيض تمامًا، خرجت السفيرة “مرفت التلاوى” رئيس المجلس القومي للمرأة، لتوجه الشكر لوزير العدل على قراره معللة ذلك بأن القرار يحمي البنت، ويعطى رسالة للمجتمع أن الزواج السياحى مستنكر ومستفز، واعتبرته أيضًا يحد من أزمة الاتجار بالبشر المنتشرة فى عدد من القرى المصرية وعلى رأسها الحوامدية حيث تقدم الفتيات لأصحاب المال الزائرين لمصر لاستجلاب مال للأسرة الفقيرة، وطالبت “التلاوى” وزير العدل أن يتم إغلاق شهادة الاستثمار بالقيمة المذكورة لمدة 5 سنوات، حتى لا يجبرها الزوج سريعًا على سحب المبلغ ورده إليه.

وعن البيان الذى أصدره المجلس القومى للمرأة فى هذا الشأن، فقد ذكر فى جانبٍ منه، أن المزايدات التى تتم على هذا القرار الصادر منذ عام 1976، وأصبح يُتخذ ذريعة لمهاجمة وزارة العدل يتطابق مع المواقف المُضللة التى تروجها جماعة الإخوان وإن مايروجونه لايمت للواقع بصلة.
يذكر أن موقف المجلس وعلى رأسه “التلاوي”، ليس أولًا من نوعه، فقبل أكثر من عام، عندما وقعت أحداث الاعتداء الجنسي الجماعي بميدان التحرير خلال احتفالات تنصيب السيسي رئيسًا فى يونيو من العام 2013، أدانت أغلب المنظمات النسوية والشخصيات النسائية الواقعة، واعتبرتها نتاجًا واضحًا للقصور القانونى واستوطان الظاهرة، بينما خرجت السفيرة فى مداخلة هاتفية لبرنامج العاشرة مساءً، لتؤكد أن ما حدث مؤامرة من الإخوان لإفساد فرحة المصريين، متهمة إياهم بدفع بعض الصبية للقيام بذلك.
شخصيات نسائية من خلفيات مختلفة ترفض القرار
فتحت الساحات الإعلامية للحديث عن القضية المثارة، فحلت الشخصيات العامة إما ضيوفًا فى الاستديوهات أو عبر المداخلات التليفونية، لإبداء اَرائهم وتعليقاتهم فى هذا الصدد، وقد اتجهت أغلب ردود الأفعال، نحو الرفض والإدانة على الرغم من تباين الخلفيات واختلاف التوجهات، ومن هؤلاء المناضلة “شاهندة مقلد” عضو المجلس القومى لحقوق الإنسان، التى عبرت عن رفضها للقرار ورأته عودة لتجارة الرقيق، مشبهة الإجراء بمثل ما يفعل تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ”داعش”، مؤكدةً أنه يساعد الفقراء على بيع بناتهم.
فيما استنكرت أيضًا المخرجة “إيناس الدغيدي” القرار فى مداخلة هاتفية لبرنامج حضرة المواطن المذاع على شاشة العاصمة، واعتبرته تأكيدًا لما جاء فى فيلمها الذى قدمته عام 1995 ، بعنوان “لحم رخيص”، والذى يرصد ظاهرة بيع البنات لأصحاب المال القادمين من الخارج تحت مظلة الزواج.
أما الإعلامية “جيهان منصور”، فقالت عبر حسابها الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”: “وزير العدل اللي بيشرعن ويقنن بيع بنات مصر بالفلوس تحت اسم زواج بشهادات البنك الأهلي ٥٠ ألف جنيه بجد عيب أوي كده بنات مصر مش للبيع حسبي الله ونعم الوكيل”.
أما “اَمنة نصير” أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، فجاءت ضيفة على برنامج اَخر النهار المذاع على شاشة النهار مع الإعلامى محمود سعد، وعبرت عن اندهاشها من القرار، ورأت أنه يرسخ لاستغلال الفقر.
مرتضى منصور .. وإزدواجية “تصفية الحسابات”
يتهم النسويات المعارضات للقرار بتصفية الحسابات بسبب موقف الزند من ثورة يناير .. ويهاجمهن هو للسبب نفسه
ظهر النائب البرلمانى “مرتضى منصور” فى برنامج العاشرة مساءً، ودافع خلال حواره مع الإعلامى وائل الإبراشي، عن قرار وزير العدل، وهاجم كل المعترضين على القرار، معتبرًا أن أى حديث عن مجئ رجال من الخليج للزواج من بناتنا كشكل من أشكال الدعارة هو “قلة أدب”، وأكد أن كل الاعتراضات الصادرة من قبل عدد من الشخصيات النسائية على القرار ما هي إلا تصفية حسابات مع الزند.

ما لم تقله وزارة العدل
يذكر أن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، قد أكدت فى بيانها الأخير أن ظاهرة الزواج السياحى أو الموسمي، اتسع نطاقها خلال العقد الماضي، حيث يقوم سماسرة زواج محليون بالاتفاق مع نساء فقيرات وأسرهن على الزواج بأثرياء عرب مدة زمنية محددة مقابل مبلغ مالي معين، وقد اعتبرتها لجنة إلغاء كافة أشكال التمييز ضد النساء التابعة للأمم المتحدة في ملاحظاتها الختامية للحكومة المصرية سنة 2010 أحد أشكال الاتجار بالبشر تحت غطاء الزواج، ووصفتها بالظاهرة السلبية التي يجب مقاومتها.
مع الإشارة إلى أن مصر بهذا القرار تنتهك التزامها ببروتوكول باليرمو الخاص بمنع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص وبخاصة النساء والأطفال، والمكمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية وكذلك للقوانين المحلية.