وفاء عشري مؤسسة «جنوبية حرة» لـــ«ولها وجوه أخرى»: التاريخ يوثق حكم ملكات نوبيات لمصر.. والذكورية دخيلة بسبب نزول العرب إلى النوبة
- الزواج القبلى مازال يحكم قبضته على الفتيات النوبيات حتى لو هاجرن خارج النوبة.
- ثورة الـ25 من يناير كانت فى النوبة ثورتين، الأولى ضد استبداد نظام والثانية ضد استبداد التقاليد الذكورية.
- المرأة النوبية خاضت غمار السياسية منذ السبعينيات وتعرضت للاعتقال.
- اَخر من بقى فى النوبة ورفض الخضوع للتهجير كانت سيدة تدعى “الست خضرة”.
- حتى التسعينيات كان الكثير من الأهالى يفرضون على بناتهم عدم الالتحاق بالكليات “العليا” خوفًا من أن تتسبب فى تأخر زواجهن.
- الفادتجدا هى القبيلة النوبية الوحيدة المحتفظة بأصالة النوبة التى تعلى من شأن المرأة.
مصر .. مصرية هكذا هو التعبير الأفضل عن هوية مصر التى يتنازع عليها الاَن أطراف كثر فى محاولة لطمس التعددية الثقافية التى تختص بها فى ظاهرة نادرة وجامعة لا تعرف سوى الذوبان والتقارب والتبادل، وللأسف تشهد مصر منذ فترة محاولات بائسة لانتهاك حق بعض الأطراف فى تشكيل هذه الهوية ومن بينهم “النوبيين المصريين”، إلا أن هذه المساعى لم تفلح فى حذف تاريخ النوبة لا قديمًا ولا حديثًا، ذلك التاريخ الزاخر بنماذج نسائية تحكى لنا الكثير عن قوة المرأة النوبية مثل الملكة أمانى تيرى التى قادت الجيوش وعرفت باسم الملكة المحاربة.
وفى زمن ليس بالبعيد، عرفت النوبة فتاة قوية أصرت على تعلم القراءة والكتابة رغم المنع المفروض على البنات وقتذاك، وأضحت ابنة العمدة هى الوحيدة المتعلمة بين بنات بلدة الدر وأصبحت فيما بعد أم الفنان النوبي”محمد منير”.
وقتما كانت ملكة حاربت بقوة وعندما قيدتها التقاليد حاربت بقوة لانتزاع حقها هكذا هى المرأة النوبية .. التى نتعرف عليها وعلى واقعها الحالى من خلال حوارنا مع وفاء عشرى عضو مؤسس بمبادرة جنوبية حرة وعضو الاتحاد النوبي العام والمجلس الأعلى للنوبة والمرشحة لانتخابات مجلس النواب المقبل.
وفاء عشري مع إحدى السيدات فى المناطق المهمشة بأسوان
تقتصر معرفة غالبية المجتمع المصري بالمرأة النوبية من خلال صناعتها الحلى والأطباق الخوص فحسب ..فما الوجوه الأخرى التى لايراها الكثيرون فى مجتمعنا؟
هذه الصورة القاصرة السبب فيها الإعلام فى المقام الأول، لأنه يتسم بالمركزية ولا يهتم بالمحافظات فضلًا عن كونه بالأساس لا يهتم بالمرأة حتى فى القاهرة فما بالك لو كانت المرأة بمحافظة جنوبية وخاصة النساء المنتميات للأقليات.
لكن الواقع يثبت أن المرأة النوبية امرأة قوية، فالتاريخ يحكى أن الشخص الوحيد الذى رفض التهجير كانت سيدة تدعى “الست خضرة” موجودة بأبو سمبل، تحملت المشاق والمصاعب واَثرت أن تعيش وحدها على أن تترك أرضها وبيتها.
أيضًا إذ نظرنا إلى الأجيال التالية من النوبيات، نجد العديد من النساء اللواتى اقتحمن مجال العمل الاجتماعى والنسوي ، مثل الحاجة أم فايزة وهى أول سيدة نوبية أنشأت جمعية نسائية نوبية باسم “نوبيـــات” فى مركز نصر النوبة وغير ذلك الكثير من السيدات اللواتى دخلن الكثير من المجالات وبينها السياسة.
ولكن للأسف مثل هذه النماذج لا يسلط الإعلام الضوء عليها مما رسخ ويرسخ لصورة مغلوطة عن النوبيات ويقصرهن فى صورة سيدات يلتزمن بيوتهن منزويات بعيدًا عن المشاركة العامة.
يقال أن نسبة التعليم بين فتيات ونساء النوبة قبل عقود كانت صفر بالمئة، لكن الوضع تغير بمرور الزمن..فكم تقريباً تقدر نسبة التعليم بينهن الاَن وهل هناك محاذير فى تعليم الفتيات؟
فى الخمسينيات والستينيات كان معدل التعليم بين الفتيات محدودًا جدًا، وكان التعليم أنذاك لا يتجاوز مرحلة الابتدائي وكان ذلك بشكل رئيس بسبب عدم وجود مدارس للمراحل التالية والبديل الوحيد هو السفر والاغتراب وهو ما كان محظوراً، كما أن الأسر كانت لا ترى فى تعليم الفتاة أهمية لأنها فى النهاية ستتزوج وتلتزم بيتها.
أما فترة الثمانينيات شهدت حركة تعليم واسعة بين الفتيات إذ تأسست خلال هذه الفترة المدارس الفنية فى أسوان وبرزت مدرسة التمريض التى جذبت قطاع عريض من الإناث النوبيات، نظرًا لكونها مدرسة داخلية وهذا هو السبب فى أن نسبة كبيرة من الممرضات خلال الثمانينيات والتسعينيات كن نوبيات.
والقليل كن يلتحقن بالكليات وقتذاك، فلم يكن هناك سوى كليتى التربية والعلوم فى أسوان، فلم تكن الخيارات كثيرة أمام الفتيات فى ظل رفض الكثير من الأسر لسفر فتياتهن للدراسة خارج هذا النطاق الجغرافى فضلًا عن قلق الأهل من أن تكون دراسة الفتيات فى الكليات العليا مثل الطب والهندسة سبباً فى تأخر زواجهن لعدم حصول الشباب النوبي على مؤهلات مماثلة.
مما لاشك فيه أنه مع دخول الألفية تبدل الحال كثيرًا ورفعت الكثير من المحاذير على اغتراب الفتيات للدراسة أو التى كانت موجودة سابقًا على مسألة الاختلاط تقلصت كثيرًا هذه المحاذير، إلا أن الواقع أيضًا يكشف أنه مازال هناك بعض القرى فى أسوان، توقف تعليم البنات عند الإعدادية إذ أن تلك القرى لا يوجد بها مدارس ثانوية أو فنية.
يشار دائماً إلى المجتمع النوبي، كونه أحد المجتمعات الجنوبية المتمسكة بعادة الزواج القبلي ..فهل مازال الزواج القبلي قائماً بنفس القوة حتى وقتنا هذا وهل قبضته تجاه الفتيات أقوى من الشباب؟
نعم مازال قائماً وبنفس القوة فلا يجوز للفتاة النوبية أن تتزوج بغير النوبي، وهذا برأيي جزء من الذكورية المتأصلة فى المجتمع، ليس فقط بين الرجال بل بين النساء أيضاً، إذ تعمد الأمهات على الحفاظ على هذه التقاليد وتوارثها بين الأجيال المتعاقبة.
لكن يمكن القول أن الشباب لديهم مساحة أوسع فى مسألة الزواج، وحتى إن قضت الأسرة بضرورة الحفاظ على التقاليد والزواج من نوبية، يفتح له الباب للزواج من أى امرأة أخرى يريدها بعد ذلك استناداً لحقه الشرعى فى تعدد الزوجات، بعكس البنات اللواتى يخضعن جبرًا لهذا المصير، وفى الزواج أيضًا يمارس عنف اَخر ضد الإناث، يتمثل فى إصرار الأهالى على عدم كتابة القائمة “القايمة” بحكم الأعراف، التى تقول بأن الكل معروف للكل وليس بيننا غريب وفى حال حدوث خلاف أو طلاق يتم عقد جلسات عرفية لحل التنازع دون أى سند قانونى.
هل الفتيات النوبيات اللواتى ينتمين لأسر هاجرت إلى أنحاء مصر المختلفة وخاصة وجه بحرى رفع عنهن قيد الزواج القبلى؟
حتى لو انتقلت الأسرة النوبية لأى مكان اَخر، يبقى الوضع على ما هو عليه دون أى تغيير، تتمسك الأسرة بتقاليدها أكثر وأشد، ولو عاشت الفتاة مع أسرتها فى مكان حتى لو فى القاهرة هى مجبورة أن تتزوج من شخص نوبي فى نهاية المطاف حفاظًا على التقاليد.
غير الزواج القبلى، ما أبرز صور العنف التى تواجهها النساء النوبيات؟
هناك مشاكل تتعلق بالتقاليد مثل المحاذير التى تضعها بعض الأسر على انغماس الفتيات فى العمل الاجتماعى رفضًا لفكرة الاختلاط والتأخر ليلاً والسفر حتى لو فى سياق العمل.
فضلًا عن أزمة التهميش السياسي المتعمد تجاه المرأة.
مشكلة أخرى تعانيها النساء النوبيات، هو خروجهن للأسواق المفتوحة لبيع منتجات مثل الملوخية والبلح لكسب الرزق مما يعرضهن للعنف نتيجة انغلاق المجتمع وضيق أفقه.
أيضًا تعانى النساء النوبيات مثل غيرهن فى أنحاء مصر كافة من ظاهرة “التحرش الجنسي”، ومن يكذبون وجود الظاهرة فى أسوان يمكنهم المجئ إلينا يومى الخميس والجمعة لرؤيته بازغاً فى ظل التزاحم المعتاد فى هذين اليومين، وهنا لابد من التشديد أن المجتمع يحكمه قانون العيب، الذى لا يسمح بالإفصاح عن مشاكله ويتكتم عليها حتى فى وقائع الاغتصاب.
تبقى مشاركة نساء النوبة فى الحياة العامة محدودة..إلى أى مدى يساهم فى ذلك غياب المجتمع المدنى الذى يتركز أغلب منظماته فى القاهرة والاسكندرية مع تواجد محدود جدًا فى القرى النوبية؟
يوجد جمعية أهلية فى كل قرية لكن وجودهم غير مؤثر، أما مؤسسات المجتمع المدنى غير موجودة تمامًا، ويرجع ذلك لصعوبة التواصل مع أهل النوبة بسبب حالة النفور من قبلهم بعد ما صُدِر لهم من صورة مغلوطة عن تلك المنظمات بعد ثورة الـ25 من يناير.
إذ أصبح النوبيات والنوبيون ينظرون لمنظمات المجتمع المدنى والقائمين عليها بنظرة ريبة وتشكك فضلًا عن أن المجتمع النوبي لا يسمح لأحد من خارجه أن يتحدث ويناقش ويرصد مشكلاته.
وهذا يسبب أزمة فى تواصل هذه المنظمات على الأرض إلا أننى لا أجد ذلك مبررًا لاختيارهم البقاء بعيدًا، لابد من المحاولة على الأقل.
صورة لسيدتين نوبيات قبل التهجير
لماذا وقع الاختيار على يوم 19 سبتمبر ليكون يوم المرأة النوبية والذى بدأ الاحتفال به عام 2012 .. ومن حدد هذا اليوم وما الهدف منه؟
للاَسف لا تتوفر معلومة موثقة بشان هذا التاريخ بالنسبة لى ، كما أن الاحتفال بهذا اليوم لا يعلم عنه كثيون من النوبيات والنوبيين، لكن ما استطعت الوصول إليه أنه يوافق يوم تهجير اَخر امرأة نوبية من النوبة القديمة.
على الصعيد السياسي، نذكر واقعة اعتقال المناضلة اليسارية فتحية السيد أحمد زوجة اليسارى النوبي زكى مراد .. هل هناك نماذج أخرى من النساء النوبيات لا نعرفها خاضت غمار السياسة ودفعت الثمن فى المعتقلات؟
هناك كثر من السيدات دخلن المعترك السياسي منذ السبعينيات، ومنهن سارة خليل اَسي وكانت إحدى القيادات الطلابية اليسارية خلال السبعينيات وتم اعتقالها وقتذاك.
وهناك منى ربيع وهى يسارية تنتمى لحزب التجمع شاركت فى الانتخابات التشريعية فى 2005 و 2010 و2012 ولكن لم يحالفها الحظ ، أيضًا كان هناك “نجاة سيد” التى كانت عضوًا بالحزب الوطنى وتقدمت باستقالتها قبيل الانتخابات البرلمانية فى 2010 بعد رفض الحزب ترشيح النساء النوبيات.
و بالقطع شاركت النوبيات منذ قيام ثورة يناير وحتى الاَن فى الحراك السياسي إلا أنه لم يتم اعتقال أى سيدة نوبية خلال هذه الفترة.
وكيف غيرت ثورة يناير 2011، فى واقع مشاركة المرأة النوبية فى الحياة السياسية؟
فى 2011، كانت الثورة فى النوبة ثورتين، الأولى ضد النظام واستبداده والثانية ضد العادات والتقاليد، فقبل ثورة الـ25 من يناير، كان ممنوع على المرأة إن التقت برجل أو شخص تعرفه أن تقف للتحدث معه، وكان من المحظورات، أن تجلس الفتيات فى تجمعات فى الكافيهات حتى لو الجميع إناث، بعد الثورة فتح الباب لتجمعاتنا السياسية على القهاوى ومن ثم انفتح الأمر أكثر وصار للفتيات إمكانية الجلوس فى الكافيهات جلسات عامة.
أما على الصعيد السياسي، فتحدينا الحظر المفروض باسم التقاليد على المشاركة فى الوقفات والتظاهرات وفى البداية كن 6سيدات فقط، إلا أننا لا يمكن أن نقول أن القيود قد سقطت جميعها لأن التقييد على مشاركة المرأة فى العمل السياسي لم يختف تمامًا.
المرأة النوبية لها زى خاص يميزها عن نساء مصر وهو “الجرجار” .
المجتمع النوبي مقسم إلى ثلاث قبائل كبرى هم: العرب – الكنزية – الفادتجدا ..ما أبرز ملامح ثقافة التعامل مع المرأة لكل قبيلة؟
“الفادتجدا” هم النوبيون الخالصون والذين يحتفظون بنسبهم دون أى تزاوج مع أعراق أخرى، ويتمسكون بالتقاليد النوبية المستنيرة والتى تعكس التحرر النوبي مع المرأة، فمن يطلع على التاريخ النوبي، يجد أن المرأة النوبية تولت مقاليد الحكم أكثر من مرة خلال فترة خضوع مصر لحكم النوبيين بل أننا نرى أن احترام الحضارة المصرية الفرعونية للمرأة أتى بالأصل من الحضارة النوبية، وحتى مؤخرًا فى ظل ما وفد علينا من ثقافة ذكورية بسبب نزول العرب إلى أراضينا، إلا أن الفاتجدا مازالوا يتمسكون بقدر كبير من انفتاحهم مع المرأة، فهم مجتمع يقبل الاختلاط ولا يفرضون على البنات الالتحاق بالمدارس المنفصلة وفى الأفراح لا يتم الفصل بين النساء والرجال.
بعكس قبائل الكنوز الذى يعودون إلى “كنز الدولة”أحد أمراء العرب فى أسوان، وهذه القبيلة نتاج التزاوج الذى حدث بين العرب والنوبيين، مما أثر على التقاليد النوبية فلا تجديهم يستسيغون فكرة الاختلاط وفى الأفراح يتم الفصل بين النساء والرجال إلا أنهم لم يخضعوا لتعدد الزوجات مثل العرب الخالصين.
فما يعرف بقبائل العرب هم عرب مهاجرين نزلوا النوبة واستقروا فيها، وينتسبون للنوبة لا بالعرق وإنما بالتواجد ومعروف عنهم “تعدد الزوجات”.
“الجرجار” المعروف كونه الزى الرسمي للنوبيات ..هل مازلن يرتدينه أم انحصر ارتداؤه خاصة بين الجيل الجديد من الفتيات؟
“الجرجار” تراجع قليلًا مع ظهور العباءات فى أواخر الثمانينيات وساهم أيضًا فى تراجع ارتداء الجرجار الطابع العملى الذى اتسمت به الاجيال اللاحقة، واتجاه الفتيات للملابس العملية مثل البنطال والتنورات مع الاحتفاظ بغطاء الرأس “الحجاب” والذى يعد طابعًا اجتماعيًا أكثر منه دينيًا فى المجتمع النوبي.
ومع ذلك تظل النساء النوبيات محتفظات بوجوده فى خزاناتهن، فلا يمكن أن تجدى خزانة فتاة أو سيدة نوبية خالية من “الجرجار”.
غير “الجرجار” تعرف النساء النوبيات بصناعة الحلى وتلوين جدران البيوت بشكل هندسي، وصناعة الفخار و الوليل ..أين هى الاَن هذه الصناعات؟
للأسف انحصرت هذه الصناعات بين النوبيات، وفى نطاق محدود يقوم بها كبار السن وجيل الوسط فحسب أما الجيل الجديد منهن لا يجيدونها، وأحد أسباب الابتعاد عن هذه الصناعات اليدوية، هو عدم القدرة على تسويقها بعد أن أصبحت المشغولات اليدوية السورية والمغربية تلقى رواجًا أكبر.
وهذا ينبأ بأن هذه الصناعات قد تشهد اندثارًا، لذلك يسعى البعض لإعادة إحياء هذه الصناعات من خلال دورات تديبية للسيدات.
اللغة النوبية معلوم أنها منطوقة وليست مكتوبة.. فما السبل التى يحرص عليها النوبيون وخاصة النساء منهم للحفاظ عليها حتى لا تندثر؟
اللغة النوبية ليست منطوقة فقط كما يشاع وإنما مكتوبة أيضًا، وهى تتشابه إلى حد كبير مع اللغة القبطية، وبالفعل هناك تراجع فى استخدامها نظرًا للتعددية والاختلاط مع الأعراق الأخرى، لذلك يعكف الاَن عدد من المتخصصين فى اللغة النوبية، على تقديم دورات تدريبية للشباب للحفاظ على بقاء اللغة النوبية.
مع الإشارة إلى أن هناك قرى يتحدث أهلها اللغة نوبية لأنهم منغلقين على أنفسهم ولم يختلطوا بالاَخرين.