لأول وهلة، قد تظن أن “مدام كوراچ”، اسم مركب فى إشارة إلى لقب “مدام” واسم “كوراچ” بمعنى “شجاعة”، وقد يتبادر إلى ذهنك أن شخصية نسائية هى السبب فى إطلاق هذا الاسم على الفيلم الجزائري الذى عرض بمهرجان القاهرة السينمائي الدولى فى دورته الـ37، يومي السبت والأحد الماضيين، إلا أن فيلم “مدام كوراچ” يكشف فى قسمه الأخير أن اختيار اسمه يعود إلى مواد مخدرة يدمنها بطله تحقق له حالة من الانتشاء، وتخلق سعادة غير مبررة، تغمره بشعور القوة والشجاعة، فيقدم على أى فعل دون خوف، ولا يبالي بأى شخص يزعجه أو يتعدى عليه.
“مدام كوراچ” أحد الأفلام المشاركة فى المسابقة الرسمية للمهرجان في دورته هذا العام (2015)، ويدور حول محورين أساسيين، الأول: الحب بنقائه ليس محكومًا بخلفية الفرد ومجتمعه، فالمجرم أيضًا يحب، وقد يكون حبه عذريًا، والمحور الثاني: هو ما اَلت إليه الأمور فى المجتمع الجزائري، من عشوائيات تضم أفرادًا ينغمسون فى الرذيلة حتى أضحت أسلوب حياة، وتدين شكلى وظاهرى يخفى تحت ستاره الكثير من الفواحش والرذائل.
المرأة فى “مدام كوراچ”، تتباين صورتها بين ثلاثة أدوار رئيسة وهى الأكثر تكرارًا فى السينما، ثالوث: الحبيبة والأخت والأم.
الحبيبة هنا، هى ما يخرج الجميل من جعبة اللص، قاسي الملامح والقلب، والأم هى النموذج الصارخ للتدين الشكلى الكاذب، تسمع الفتاوى الدينية ليل نهار وتشجع أبناءها على الإتيان بالمال عبر أى طريق حتى لو كانت حرمانيته “بازغةً”، أما الأخت فهى التى تدفع ثمن الفقر بالتفريط فى جسدها بعلم الأخ ورضا الأم.
الفيلم للمخرج الجزائري الكبير “مرزاق علواش”، والذى يتميز بواقعيته الشديدة، والتى ندركها من خلال كاميرته التى يتجول بنا من خلالها فى شوارع الجزائر، ويصعد لأعلى عماراتها، وينزل لأسفل بناياتها، لنرى الواقع كما هو.
الشخصية التى تعلق بالذهن أكثر من غيرها، هى الأم وذلك بسبب تناقضها المريب، فهى تقضي 24 ساعة متواصلة إما أمام التلفاز تشاهد أو تسمع فى حال تركت شاشته، نفس المحتوى الذى لا يفارقنا فى كافة المشاهد التى تظهر فيها، وهو صوت لأحد المشايخ يعظ وعظًا متطرفًا، ذلك فى الوقت الذى تسمح فيه لابنتها بامتهان الدعارة بل وتشجعها، حتى أنها قبلت بممارسة الدعارة الإلكترونية داخل سكنهم الأشبه بالعشة، وكل هذا لأجل المال ليس طمعًا وإنما حاجةً.
“سلمى” هى الحبيبة، المغرم بها “عمر” بطل الفيلم، وعلى الرغم من كونها شخصية محورية، إلا أننا لم نعرف عنها الكثير، غير ما أبانته المشاهد التى تفتقر إلى الحوار الطويل، طالبة بالمدرسة، تجمعنا بها المشاهد الأولى من الفيلم، عندما يقدم “عمر” على سرقة سلسلتها الذهبية، لتكون السلسلة سببًا فى ميلاد حب عذري بداخله مُستَغرب على مجرم بطبيعته، وتكون أيضًا مدخلًا للمشاهد للتعرف على هذه الفتاة يتيمة الأم، والتى تعيش مع والدها الذى يعانى مرض الزهايمر، وشقيقها ضابط الشرطة الغليظ.
بعد لحظات تأمل فى عينيها، اختار “عمر” أن يعيد لها السلسلة دون أن ينطق ببنت شفه، ومن ثم قرر تتبع خطواتها حتى بيتها، ليرابط أسفله أمام نافذتها ينتظر أن تطل عليه.
تمكنت “سلمى” دون أن تدرى أن تتنزع حب “عمر”، الذى لم ترفضه، لكن وصفته بــ”الجنون”، وبدا أنه يسعدها أحيانًا ويخيفها أحيانًا أخرى.
الصمت الطويل والكلمات المتقطرة فى الفيلم، لم يكشفوا الكثير عن شخصيتها، لكننا رأينا وأدركنا وحدتها على الصعيد النفسي فى ظل غياب الأم، ومجتمعها المغلق على عدد محدود من صديقات المدرسة، يظهر عليها خوف زائد بصفة شبه دائمة، وتوتر ملحوظ، وارتجافات يسهل استثاراتها، ربما تولد كل ذلك بعد فراق الأم وبسبب أخ فظٍ، صوته عالٍ وتعبيراته عنيفة، يمارس السلطة الأبوية عليها وعلى من حوله، فلا مجال لمناقشته، هو دائمًا فى درجة أعلى عن الجميع وأى مزعج بالنسبة له سيرد عليه بيده أو مستخدمًا سلطاته.
“سلمى” شخصية مستسلمة، لكل شئ، للظروف، لسطوة الأخ، لمخاوفها، وتمتثل لما يفرضه المجتمع من زيف، وتخضع للهثان المجتمع وراء التدين الشكلى، فتظهر فى منتصف الفيلم، ترتدى الحجاب دون مقدمات، ليؤكد المخرج من جديد على تناقضات ذلك المجتمع، لأن طهارة المرأة لا يتيقن منها المجتمع إلا من خلال مظهرها.
الحجاب نفسه، يغطى رأس “صابرينا” شقيقة “عمر”، المشتغلة بالدعارة تحت سيطرة قواد يدعى “مختار”، وذلك بمعرفة أمها وأخيها، بل بدفع من أمها من أجل النقود، حتى يتمكنوا من العيش، تكشف لنا تلك الشخصية، كيف إن اشتد الفقر يمكن أن تهون النفس والجسد، على صاحبهما، وعلى ذويه حتى الأم.
تقبل “صابرينا” ممارسة الدعارة الإلكترونية بعد أمر من قوادها، ولما تخيب ظنه فى المال المنتظر جمعه، ينهرها، ومطلوب منها أن تسكت أمام كل الذل، والسباب، إلا أن مجرد الرد والاعتراض يكون جزاءه، تشويه وجهها بضرب مبرح.
وعلى الرغم مما حدث لابنتها، الأم لا تلوم نفسها بعد ما أوصلت إليه ابنتها، بل تلوم أخيها أنه لم يخرج معها لعله منع ما حدث، ومع ذلك أيضًا ترفض أن يعتدى على القواد لا خوفًا عليه وإنما ليظل الباب مفتوحًا أمام تعاون اَخر بين ابنتها وبينه مرةً أخرى، إلا أن الأخ يستشيط لأخته (على الرغم أنه لم يستثيره من قبل كون أخته تعمل بهذه المهنة المذلة)، فينتقم لها بطعن القواد فى منطقة حساسة بجسده، ويعود لأخته مصدقًا بانتصاره يطمئنها أنه أعاد لها حقها، ولم يعد لهذا القواد أن يقترب منها.
“صابرينا” هى النموذج الأكثر إيلامًا بين الثلاثة، لكن مصيرها بعد ذلك غير معلوم، مثل بقية شخوص الفيلم، فقد جاءت النهاية ولم نعرف مستقبل أى منهم، فتبقى “سلمى” على حالها، تذهب للمدرسة صباحًا بعد أن رأت “عمر” ينام فى مكان ما بالبناية التى تسكنها، وترقد “صابرينا” متألمة، فيما تصرخ الأم باكية بعد تهديدها من قبل رجال القواد “مختار”، وأمرهم لها بترك العشة التى تسكنها، ذلك وصوت الوعظ الديني مازال مستمرًا فى الخلفية.