في الـ 18 من مارس الماضي، انعقدت واحدة من أكثر جلسات المجلس الوطني لدولة غامبيا إشكاليةً، حيث شهدت تقديم ألمامه جيبا النائب في المجلس مشروع قانون يهدف إلى إعادة تقنين تشويه الأعضاء الجنسية البارزة للإناث وإلغاء القانون القائم منذ العام 2015 الذي يدرجه ضمن الجرائم التي تقتضي العقاب بالحبس والغرامة، وقد ذكر النائب في كلمته خلال الجلسة أن إلغاء التجريم أمر وجوبي – من وجهة نظره- للحفاظ على الالتزام الديني وحماية الأعراف والقيم الثقافية للبلد الذي يصفه بـ«الإسلامي.»

انتهت الجلسة بالتصويت لصالح إحالة مشروع القانون إلى اللجنة المختصة، بعد موافقة الأغلبية الساحقة في المجلس الوطني المكوّن من 58 نائبة ونائب -بينهن خمس نساء فقط – مما يعني أن غامبيا التي تقع في الجزء الغربي من إفريقيا، ستصبح في غضون أسابيع أول دولة يصوت مجلسها التشريعي على إلغاء تجريم تشويه الأعضاء الجنسية للنساء، وقد تغدو أول دولة في العالم تعيد إباحة الممارسة بعد أن جرمتها.

وقد وصل المجلس الوطني في غامبيا إلى هذه المرحلة المفصلية، بعد حملة دشنها في سبتمبر الماضي النواب المؤيدون لممارسة تشويه الأعضاء الجنسية للإناث، وعلى رأسهم سليمان ساهو النائب عن مقاطعة باديبو العليا، من أجل تعطيل القانون المجرم للممارسة. وقد جاءت الحملة كرد احتجاجي على صدور حكم قضائي يعاقب ثلاث نساء بالحبس لمدة عام ما لم تدفع كل واحدة منهن غرامة مقدرة بـ 15 ألف دالاسي غامبي (220 دولارًا أمريكيًا)، على خلفية ارتكابهن جريمة تشويه الأعضاء الجنسية الأنثوية لثمانية طفلات لا تتجاوز أعمارهن العام الواحد.

بعد أيام من صدور الحكم، طالب النائب سليمان ساهو في جلسة عامة بقية عضوات وأعضاء المجلس الوطني بالبدء في اتخاذ الإجراءات اللازمة لإلغاء القانون المجرم للممارسة المعروفة شعبيًا باسم «الختان» مؤكدًا أن الأمر يجب أن يكون اختياريًا وألا تتعرض النساء بسببه للحبس، وأضاف «إذا كنتم ترون أن هذه – الممارسة – تؤثر على صحة النساء، فلماذا لا تدعموهن بالمواد اللازمة لتعزيز النظافة الشخصية. إن حظر هذا -الفعل– انتهاك لحقوق الأخريات/الآخرين ويمثل غذاءً للعنف في بلادنا.»

لاقت مطالبة ساهو دعمًا كبيرًا من الإمام عبدولي فاتي أحد أشهر الدعاة في غامبيا وأكثرهم نفوذًا، والذي بادر بدفع الغرامات الموقعة على النساء الثلاث لحمايتهن من مصير السجن. كما كان لفاتي دور محوري في دعم ومساندة ساهو ورفاقه على مدى الشهور الماضية، اكتمل بمطالبته لأنصاره في مارس الفائت بالاحتشاد حول مقر المجلس الوطني في أثناء انعقاد جلسة طرح مشروع القانون الخاص بإعادة تقنين تشويه الأعضاء الجنسية الأنثوية، للتدليل على المؤازرة والتأييد الشعبيين للمشروع ومقدميه.

بالإضافة إلى عبدولي فاتي، جاء دعم صريح لممارسة تشويه الأعضاء الجنسية الأنثوية من لجنة الفتوى بالمجلس الإسلامي الأعلى في غامبيا، التي أصدرت فتوى رسمية بالتزامن مع الحملة الاحتجاجية التي أعقبت صدور الحكم، أكدت فيها وجود سند ديني للممارسة زاعمةً بأنها ليست مجرد عادة متوارثة، بل سنة من السنن النبوية التي يجب الالتزام بتطبيقها.

ما بين إصدار القانون والتصويت على إلغائه

يتمسك المجتمع الغامبي بممارسة تشويه الأعضاء الجنسية للإناث تمسكًا شديدًا، ولا يزال قطاع كبير من الفتيات يتعرضن لهذه الجريمة المدعومة بتأييد ثقافي واسع لم يتزعزع، حتى بعد تجريمه منذ تسع سنوات بعقوبة الحبس لثلاث سنوات والغرامة التي تصل إلى خمسين ألف دالاسي غامبي (يوازي 735 دولارًا أمريكيًا). وتوضح بيانات المسح الديموغرافي الصحي لغامبيا (2019-2020) أن 73 في المئة من الفتيات في الفئة العمرية (4- 15) عامًا أُخضِعنَ لتشويه الأعضاء الجنسية الأنثوية، و65 في المئة من النساء تعرضن للتشويه قبل أن يتممن عامهن الخامس. كما يسجل تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF) زيادة في ممارسة هذا التشويه بين من هن دون الـ 14 عامًا من 42.4 بالمئة في العام 2010 إلى 50.6 بالمئة في العام 2018، وتكشف المنظمة الأممية أن غامبيا واحدة من الدول الأقل تحقيقًا للتقدم في مجال القضاء على هذه الممارسة، وبالتحديد خلال العقد الماضي.

تعكس هذه الأجواء انعدام شبه تام لفعالية القانون الحالي الذي يجرّم تشويه الأعضاء الجنسية الأنثوية، ويرجع ذلك إلى التراخي البالغ في إنفاذ القانون الذي تجليه حقيقة أن أول تطبيق للقانون منذ صدوره بنهاية العام 2015 تمثل في الحكم الصادر في أغسطس الماضي، أي بعد أكثر من ثماني سنوات. لكن السبب الرئيس في حالة اللافعالية هو غياب الإرادة السياسية الصادقة في هذا الشأن، فقد صدر هذا القانون بقرار مباشر وأمر فردي من الرئيس الغامبي السابق يحيى جامع، الذي حكم البلاد بقبضة حديدية وسلطة مطلقة على مدى 22 عامًا، وكان قد أعلن قراره بحظر ممارسة تشويه الأعضاء الجنسية للإناث في غامبيا خلال تجمع جماهيري لمناصريه، ورغم أن الإعلان فاجأ المجلس التشريعي ومستشاري الرئيس المقربين ومن بينهم الداعية المتشدد عبدولي فاتي، فإنهم لم يحتجوا عليه بل نفذوا له ما أراد، وأعدوا التشريع على وجه السرعة لينتهي الأمر بالمصادقة الرئاسية عليه في آخر أيام العام.

كان جامع مثل غيره من الحكام الديكتاتوريين في الدول التي تعتمد بشكل كبير على القروض والمساعدات الخارجية، يستغل حقوق النساء وقضية المساواة الجندرية سياسيًا في إطار المساومة على حقوق الإنسان بين نظامه من ناحية والدول المُقرِضة ومؤسسات التمويل الدولي من ناحية أخرى، ولذلك كانت كل استجابة من جامع لمطلب من مطالب الحركة النسوية لا تتجاوز المصادقة الخطية على قرارات أو تشريعات، ومن بينها تلك المتعلقة بجرائم تشويه الأعضاء الجنسية البارزة للإناث، وتزويج القاصرات، والعنف المنزلي.

بعد إصدار القانون الذي يصنف تشويه الأعضاء الجنسية الأنثوية كجريمة تستوجب معاقبة مرتكبيها، لم يعبأ جامع وحكومته بخلق مناخ عام يضمن إنفاذ القانون ليكون رادعًا يحد من انتشار الجريمة ويقوض التصالح الاجتماعي معها، كما أنهم لم يتبنوا أي خطة للقيام بعملية تفنيد صلبة لآراء المتشددين التي تشجع العائلات على التمسك بالممارسة، ولم يجترحوا آلية وطنية للتصدي لها؛ ولهذا بدا الطريق معبدًا أمام المعارضين للقانون بمجرد خروج الديكتاتور من السلطة، واستطاعوا أن يحولوا تفاؤل المجموعات التي تعمل على مكافحة تشويه الأعضاء الجنسية الأنثوية بعد صدور أول حكم قضائي ضد أشخاص ارتكبوا الجريمة إلى إحباط وقلق كبيرين.

المخاوف تتمدد في الغرب الإفريقي

تتصاعد يومًا بعد الآخر مخاوف العديد من الناشطات والمنظمات الحقوقية في غامبيا خصوصًا وإفريقيا عمومًا، من احتمالية نجاح التيار الذكوري المتطرف في أن يلغي تجريم تشويه الأعضاء الجنسية الأنثوية، خاصةً في ظل إرهاصات لسلسلة من الإلغاءات لقوانين أخرى جاءت بشق الأنفس لتقر الحماية للنساء من العنف والتمييز على أساس النوع الاجتماعي، ومن بين هؤلاء الناشطة الصومالية نيمكو علي وسام الرئيسة التنفيذية لمؤسسة «The Five Foundation» التي تسعى من خلال شراكات عالمية إلى القضاء على تشويه الأعضاء الجنسية الأنثوية، وقد عبرت نيمكو عن تخوفها في حديث للإذاعة الوطنية العامة في الولايات المتحدة الأمريكية (NPR)، وقالت إنها تعتقد أن المزيد (على الصعيد السلبي) سيحدث في غامبيا، مشيرةً إلى ما صرح به الإمام عبدولي فاتي عن أن إلغاء حظر (الختان) سيعقبه تعطيل وإيقاف القانون المناهض لتزويج القاصرات.

الارتداد إلى الوراء لا يقتصر على غامبيا، فثمة اتجاه في العديد من دول العالم شمالًا وجنوبًا نحو العودة عما أحرزته النساء من تقدم، لا سيما فيما يتعلق بالاستقلالية الجسدية، إذ تبدو التيارات اليمينية المتشددة خلال السنوات الأخيرة أكثر قدرة على ترجمة عدائها إزاء المساواة والعدالة بين الجنسين في قرارات رسمية وسياسات وطنية، ومن ثم صار تهديد المكاسب التي حققتها النساء بعد عناء ونضال في بلد ما، لا يثير قلقًا أو يستحضر تضامنًا فقط وإنما يوقد مخاوف النساء في البلدان المجاورة أو البلاد التي تتشابه ظروفها الاجتماعية والسياسية مع ذلك البلد، خشية أن ينتقل الخطر إليها.

القلق إزاء ما يجري حاليًا في غامبيا من محاولات لإلغاء التجريم القانوني لتشويه الأعضاء الجنسية الأنثوية، لا يقتصر على المجموعات والمؤسسات التي تنشط منذ عقود في الداخل للقضاء على الممارسة، فالكيانات المماثلة في بقية دول غرب إفريقيا ذات الأغلبية المسلمة تتحسب لظهور تحركات مشابهة، خاصةً في كينيا التي شهدت خلال السنوات الأربع الماضية زيادةً في ضغوط المجموعات المتشددة الساعية إلى إلغاء القانون المجرم لتشويه الأعضاء الجنسية للإناث والمعمول به منذ العام 2011، وكان من أبرز التحركات في هذا المنحى رفع دعوى أمام المحكمة العليا للطعن في دستورية القانون، إلا أن الأخيرة اتخذت قرارها  برفض الدعوى خلال الربع الأول من العام 2021.

بالإضافة إلى ذلك، فقد صعّدت هذه المجموعات تحديها للقانون وتطبيقه على نحو مفزع بنهاية العام الماضي (عام 2023)، حين هاجم بعض الشباب في محافظة الوادي المتصدع ضابط شرطة ورجموه حتى القتل، بعد تدخله لإنقاذ طفلات أخضعتهن عائلاتهن إلى تشويه الأعضاء الجنسية بالمخالفة للقانون.

وفي ضوء هذه الحالة، تخشى العديد من المنظمات المحلية والوطنية من أن يشجع ما يدور في الداخل الغامبي المتطرفين في كينيا ومن يدعمونهم في دوائر صنع القرار على خلق مسار مشابه، وربما يكون أكثر عنفًا، لعله يقود في النهاية إلى تحقيق غايتهم في إلغاء القانون.

يمتد القلق كذلك إلى مجموعات الضغط النسوية والحقوقية النشطة في مجال مناهضة تشويه الأعضاء الجنسية الأنثوية في دولة سيراليون، التي تخشى من أن تُزيد الأزمة الحالية في غامبيا وما قد تسفر عنه على المستوى التشريعي من تعصب الجماعات الدينية والسياسية التي تعرقل حتى الآن صدور قانون وطني يحظر الجريمة التي طالت ما يزيد عن 80 في المئة من النساء والفتيات بحسب أحدث بيانات المسح الديموغرافي الصحي للبلد.

ما يؤكده الوضع الحالي في غامبيا هو أن النجاح في التحصل على قوانين لحماية النساء من العنف ومنع التمييز ضدهن لا يعني نجاحًا تلقائيًا في فعاليتها أو ضمانًا لبقائها، فالخطر لا يزول ما دامت الحقوق متروكة من دون سند دستوري من ناحية، وإرادة سياسية وطنية لإرساء ثقافة اجتماعية تتوافق مع غايات القوانين من ناحية أخرى، وبيد أن ذلك – واقعيًا- لن يحول دون تجدد التهديدات بين الفينة والأخرى، لكن هذه التحصينات تجعل التهديد منزوع الخطورة  – إلى حد بعيد – لأن توّفر حاضنة اجتماعية وثقافية تؤيد المنصوص عليه في الدستور والقانون وتعارض المساس به هو ضرورة وجودية لتثبيت ركائز ودعائم المكتسبات التي تأتي بعد مشقة ومقاومة وآلم وفقد.