قطار النسوية الأكاديمية بدأ رحلته في أمريكا وطاف حول العالم: دراسات المرأة والنوع الاجتماعي في نصف قرن
ذهبت طالبة من الطالبات الأوليات في جامعة ييل الأمريكية إلى رئيس قسم التاريخ، لتسأله عن إمكانية إضافة مادة ضمن المواد الدراسية بالقسم عن تاريخ النساء (Women’s History Course)، فإذا به يرد عليها بإزدراء قائلًا: سيكون ذلك مثل تدريس تاريخ الكلاب.
حدثت هذه الواقعة في العام ١٩٦٩ الذي شهد التحاق النساء بجامعة ييل لأول مرة، بعد أن ظلت لما يزيد عن قرنين من الزمن مغلقةً أمامهن، ومثلما صدم الطالبة رد الأستاذ الجامعي الذي كشف عن ميسوجينية وكراهية ضد النساء واستهانةٍ بتاريخهن، أدهشت كلماته نانسي جوان فايس مالكيل المؤرخة الأمريكية وأول امرأة تنضم إلى هيئة التدريس بقسم التاريخ في جامعة برينستون، ولذلك احتفظت بالواقعة في ذاكرتها واستعادتها في كتابها (Keep the Damned Women Out: The Struggle for Coeducation) أو «ابق النساء الملعونات خارجًا: النضال من أجل التعليم المختلط»، كدليل إثبات على التحيز والعداء الكبيرين الذين واجهتهما النساء آنذاك داخل المجال الأكاديمي.
حين وقعت هذه الحادثة، لم يكن هناك جامعات تشمل مناهجها الدراسية مادةً عن تاريخ النساء ونضالهن سوى جامعة كورنيل في ولاية نيويورك، بسبب تعنت وممانعة الأكاديميين الذكور تجاه إضافة محتوى أكاديمي يبحث في تاريخ الحركة النسوية ويعيد فحص الحوادث التاريخية والواقع الاجتماعي والسياسي من منظور نسوي.
لكن النساء في الفضاء الأكاديمي، سواء كن طالبات أو باحثات أو محاضرات، تمكنّ من إبطال مفعول هذه المعارضة الهيكلية مع دخول السبعينيات، بعد عشر سنوات من ضغط قوي مارسته مجموعات نسوية عُرِفت وقتئذٍ باسم (Consciousness Raising Groups) أو «مجموعات رفع الوعي» التي برزت على نحو لافت في الستينيات، وكانت كل مجموعة منها توجه نشاطها صوب قضية محددة وتنشغل بمناهضة التمييز في مجال بعينه.
واحدة من أكثر هذه المجموعات نشاطًا كانت مجموعة (Women’s Liberation) أو «تحرير المرأة» التي عكفت على رفع الوعي بالتمييز ضد النساء في القطاع الأكاديمي، ونشطت بقوة داخل كلية سان دييغو (حاليًا: جامعة سان دييغو)، واستطاعت أن تدشن لجنة مشتركة مع الكلية للخروج بقرار رسمي يقضي بتخصيص برنامج لدراسات المرأة.
بالتوازي مع عقد لقاءات ونقاشات تحت مظلة هذه اللجنة، حرصت عضوات المجموعة على جمع أكبر عدد ممكن من التوقيعات على عريضة تدعم وجود قسم لدراسات المرأة، وقد أفضت هذه الجهود إلى إطلاق برنامج دراسات المرأة في كلية سان دييغو في العام 1970، ليكون الأول من نوعه ليس في الولايات المتحدة الأمريكية فحسب وإنما في العالم.
لقد نجحت المجموعات النسوية الأكاديمية في تحقيق هدفين محوريين بنهاية الستينيات وبداية السبعينيات، أولهما هو إنهاء قصر الدراسة بالجامعات الكبرى على الذكور، مثل هارفارد، وييل، وبرينستون، التي التحقت بها الطالبات لأول مرة في العام ١٩٦٩.
أما الهدف الثاني فهو إدخال تخصص دراسات المرأة إلى الجامعات لتتمكن الطالبات والطلاب من التعرف إلى رؤى مختلفة تجاه المجتمع خلقتها تجارب النساء وخبراتهن، التي تتجاهلها الدراسات الأخرى الموضوعة وفقًا لوجهة نظر الرجال وسرديتهم.
في كتابها «عندما تسأل النساء الأسئلة: تدشين دراسات المرأة في أمريكا»، تقول الأكاديمية مارلين بوكسر التي ترأست برنامج دراسات المرأة في جامعة سان دييغو بعد أربع سنوات من تأسيسه، إن «دراسات المرأة منذ أن بدأت، لم يكن هدفها فحص وضع النساء في العالم فقط ولكن تغييره.»
دراسات المرأة والنوع الاجتماعي: تخصص حديث المنشأ.. ولكن سريع التطور والانتشار
في الشهور والسنوات التالية لانطلاق برنامج دراسات المرأة في جامعة سان دييغو، تتابع تخصيص الجامعات لبرامج مشابهة في مرحلتي الدراسة المؤهلتين لدرجة البكالوريوس ودرجة الماجستير، وكان السائد وقتها هو أن تضطلع أستاذات أو أستاذات مساعدات داعمات لوجود أقسام لدراسات المرأة بتدريس الدورات المدرجة فيها، توازيًا مع الدورات التي يتخصصن في تدريسها بالأصل كالتاريخ، والآداب، والعلوم السياسية، وعلمي الاجتماع والنفس، وغالبًا ما كانت الجامعات تضيف هذه الدورات إلى جداولهن من دون أن تخفف من ثقلها أو تضيف إلى رواتبهن، رغم علمها الكامل بأن هذا يعني قضاء ساعات عديدة غير مدفوعة الأجر في الإعداد والتحضير لدورات التخصص الجديد.
ومع ذلك، كانت الأكاديميات اللاتي أوكلت لهن الجامعات هذه المسؤولية في شتى أرجاء الولايات المتحدة، شديدات الشغف والحرص على تثبيت قواعد دراسات المرأة لتكون تخصصًا مستقلًا، ولا ينتهي بها الأمر كدورة تُدرَّس في أي من الأقسام التقليدية الأخرى، وقد تحقق لهن ما كدحن من أجله بدءًا من الثمانينيات التي وصل في مستهلها عدد برامج دراسات المرأة بالجامعات الأمريكية إلى ٣٠٠ برنامج.
أما اليوم وبعد أكثر من نصف قرن على إدخال دراسات المرأة إلى الساحة الأكاديمية، أصبح هذا التخصص أساسيًا في كثير من الكليات والجامعات حول العالم، من أستراليا إلى بريطانيا والهند وكوريا الجنوبية وفلسطين وأوغندا والأرجنتين وصولًا إلى كندا، وفي الولايات المتحدة وحدها هناك أكثر من تسعمائة برنامج لدراسات المرأة والنوع الاجتماعي والجنسانية تضم عشرات الآلاف من الدورات الدراسية.
النسوية الأكاديمية.. تثويرٌ لاستيعاب التقاطعات
ما بدأ عليه دراسات المرأة كتخصص أكاديمي في السبعينيات ليس ما هو عليه حاليًا، فقد طالته تغييرات كثيرة وعرف تطورًا وتفرعًا وانفتاحًا على مدى العقود الخمسة الماضية، نتيجة خضوعه المستمر للفحص والنقاش من زوايا متعددة.
في البداية كانت برامج دراسات المرأة الجامعية تنطلق من منظور ضيق ومتحيز ، يعمم تجربة المرأة صاحبة البشرة البيضاء ذات الأصول الأوروبية، المنتمية للطبقة الوسطى، المغايرة جنسيًا على جميع النساء؛ فجاءت هذه البرامج تعتمد على رؤية تحليلية أحادية تتجاهل التقاطع بين الجنس وهويات أخرى كالعرق والطبقة والهوية الجنسية، وتغفل ما لذلك من تأثير في تشكيل تجارب وخبرات كل امرأة على حدة.
في نهاية السبعينيات بدأت بعض الأكاديميات النسويات لا سيما السوداوات، في التعبير عن غضبهن من تحيز برامج دراسات المرأة لفئة واحدة ووحيدة من النساء، وفي الثمانينيات تصاعدت وتيرة الاحتجاج على الاستبعاد المنهجي لخبرات ووجهات نظر بقية النساء في برامج دراسات المرأة، ثم تعالت الأصوات المطالبة باستحداث فرع جديد يحمل اسم (Black Women’s Studies) أو «دراسات المرأة السوداء.»
في مقالهما «دراسات المرأة: نظرة من الهامش» المنشور في العام 1982، عرّفت الأكاديميتان بيفرلي جاي شفتال وباتريشيا بيل سكوت دراسات المرأة السوداء بأنه تخصص أكاديمي يعمد إلى التحقيق في تاريخ وثقافات وخبرات النساء السوداوات، ويعالج إشكاليتي التمييز على أساس الجنس في الدراسات السوداء، والتمييز على أساس العرق في دراسات المرأة.
التأثير الأكبر في هذه المرحلة أحدثه كتاب «كل النساء بيضاوات، كل السود رجال، لكن بعضنا شجاع» الذي حررته غلوريا هال، وباتريشيا بيل سكوت، وباربرا سميث، وقد قدمن من خلاله أساسًا نظريًا لدمج منظور تقاطعي في تحليلات مناهج دراسات المرأة وأبحاثها، حتى تكون أكثر شمولًا وتنوعًا واتصالًا بالواقع.
من ناحية أخرى، تحدثت الأكاديمية والمُنظّرة النسوية السوداء بيل هوكس في كتابها (Feminist Theory: From Margin to Center) أو «النظرية النسوية: من الهامش إلى المركز » المنشور في العام 1984، عن تدريسها مادة في إطار أحد برامج دراسات المرأة بعنوان «نساء العالم الثالث في الولايات المتحدة» تهدف إلى استكشاف خبرات النساء المهاجرات من دول الجنوب العالمي، والبحث في خصوصية تجاربهن وتفاعلهن مع النظام الاجتماعي والثقافي الأمريكي، إلا أن جميع الطالبات وقتها كن من ذوات البشرة البيضاء المنتميات إلى الطبقة الوسطى، وقد أوضحت بيل هوكس عبر ما سردته من تفاصيل أن نمطية برامج دراسات المرأة ألقت بظلالها على اجتذاب فئات متنوعة من النساء للانضمام إليها.
لكن النسوية الأكاديمية تأثرت بشكل ملحوظ في ثمانينيات القرن الماضي بالجدالات والحراكات الدائرة خارج أسوار الجامعة، بشأن العلاقات المتقاطعة بين الجنس والنظام الأبوي، والطبقة والاستغلال الاقتصادي الرأسمالي، والعرق وثقافة التفوق الأبيض، والإعاقة الجسدية والتهميش العالمي لذويها، بالإضافة إلى الهوية الجنسية والمعيارية على أساس الغيرية الجنسية.
وقد لعبت العديد من المجموعات الطلابية النسوية المنبثقة عن لجنة التنسيق الطلابية اللا عنفية (SNCC) – الذراع الطلابي لحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة- دور القنوات الواصلة بين الحراك على الأرض من ناحية ومراكز اتخاذ القرار الجامعي من ناحية أخرى، ومنها تحالف نساء العالم الثالث (TWWA)، ومجموعة نهر كومباهي ذات التوجه النسوي- الأسود-الاشتراكي.
نجحت هذه المجموعات في إحداث نقلة في طرق التحليل التي تنطلق منها مناهج دراسات المرأة بالجامعات، وترددت أصداء هذا التطور الجوهري خارج الولايات المتحدة فوصلت إلى كندا في الشمال، وتمددت إلى أمريكا اللاتينية في الجنوب، وعبرت المحيط الأطلسي إلى أوروبا وأفريقيا شرقًا.
وفي القارة الأفريقية على وجه الخصوص أخذت دراسات المرأة منحى أكثر ثورية في مضمونها، فقد عملت ولا تزال الأكاديميات في وسط وجنوب القارة على تنقيح المعرفة في السياق الأكاديمي النسوي من المركزية الأوروبية، وبقايا الأيديولوجية الاستعمارية وما ترسخه من صور نمطية عن النساء في أفريقيا كالضعف، وقلة الحيلة، والانصياع التام أمام المجتمع الأبوي بتقاليده ومعتقداته.
وقد ظهرت برامج أكاديمية تتبع هذا النهج في جامعة إبادان في نيجيريا، وجامعة ويسترن كيب في جنوب إفريقيا، وجامعة ماكيريري في أوغندا، حيث غطت الدورات الدراسية موضوعات مثل العلاقة بين النسوية وإنهاء الاستعمار، والعنصرية والاستعمارية وتأثيرهما على النساء الأفريقيات.
شملت كذلك عمليات التطور التي مرت بها دراسات المرأة التسمية في حد ذاتها، إذ جادل فريق من الأكاديميات النسويات بأن اسم «دراسات المرأة» يحمل صبغة إقصائية وثيقة الصلة باختزال البرامج الأولى لـ «المرأة» في فئة واحدة من النساء، كما أشارت العديد منهن إلى أن عنوان دراسات المرأة مهما توسع تعريف كلمته الثانية لتكون شاملة للنساء بمختلف أطيافهن، لن يعكس شمولًا حقيقيًا لبعضهن مثل النساء غير المتوافقات جندريًا.
وبناءً على هذا، أقدمت كثير من الجامعات الأمريكية على التخلي عن اسم «دراسات المرأة» منذ بداية الألفية الثالثة، واستبدلته بأسماء أخرى مثل «الدراسات النسوية» أو «دراسات النوع الاجتماعي»، أو «دراسات المرأة/النسوية، والنوع الاجتماعي، والجنسانية»، وجاءت جامعة كورنيل بنيويورك في مقدمة الجامعات التي فعلت ذلك، حيث غيرت اسم برنامجها من «دراسات المرأة» إلى «الدراسات النسوية والنوع الاجتماعي والجنسانية» في العام 2002.
دراسات المرأة في الجامعات العربية: حضور متأخر.. متقزم.. منزوع الهوية
خارج الولايات المتحدة الأمريكية، تنتشر برامج دراسات المرأة والنوع الاجتماعي في الدراسات العليا أكثر منها في الدراسة الجامعية المؤهلة لدرجة البكالوريوس، بينما لا يوجد في الدول الناطقة بالعربية برنامج لدراسات المرأة والنوع الاجتماعي لطالبات وطلاب البكالوريوس سوى في معهد دراسات المرأة التابع لجامعة بيرزيت الفلسطينية، الذي بدأ في العام 1994 كبرنامج جامعي يمنح درجة الماجستير في النوع الاجتماعي والتنمية، قبل أن يصبح في العام 1998 معهدًا مستقلًا بذاته يقدم البرنامجين.
أما بقية برامج النوع الاجتماعي في الجامعات العربية وهي ضئيلة جدًا، فتأتي ضمن برامج الدراسات العليا، وتضم برنامج الماجستير في دراسات المرأة والنوع الاجتماعي التابع لمعهد الجندر ودراسات المرأة بالجامعة الأمريكية في القاهرة، وبرنامج الماجستير المهني في النوع الاجتماعي والتنمية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وفي المدينة نفسها تقدم كلية البنات بجامعة عين شمس دبلومة في دراسات المرأة والتنمية، وهناك برنامجان في لبنان هما برنامج الماجستير الذي يقدمه معهد الدراسات النسائية في العالم العربي التابع للجامعة اللبنانية الأمريكية، ودبلوم دراسات المرأة الذي استحدثته قبل 13 عامًا كلية الآداب بجامعة بيروت العربية، كما يمنح مركز دراسات المرأة التابع للجامعة الأردنية درجة الماجستير في دراسات المرأة، ويقدم المعهد الإقليمي لدراسات الجندر والتنوع والسلام وحقوق الإنسان بجامعة الأحفاد للبنات في السودان برنامجًا للماجستير في النوع الاجتماعي والتنمية، وقد انضمت إلى القائمة متأخرًا جامعتان تونسيتان هما سوسة ومنوبة بعد أن أضافتا في العام 2019 برنامجين للماجستير في دراسات النوع الاجتماعي، وفي قطر يمكن الحصول على درجة الماجستير في دراسات المرأة في المجتمع والتنمية من جامعة حمد بن خليفة.
أما المؤسسة الوحيدة التي تقدم برنامجي الماجستير والدكتوراه معًا في دراسات ذات صلة «التنمية الدولية والنوع الاجتماعي»، فهي مركز أبحاث ودراسات النوع الاجتماعي والتنمية التابع لجامعة صنعاء في اليمن.
والملاحظ في معظم برامج دراسات المرأة والجندر في الجامعات العربية هو التمحور حول التقاطع بين النوع الاجتماعي والتنمية، ورغم أهمية تفكيك هذا التقاطع وتحليل أبعاده وتبعاته، فإنه يعكس التأثر في إعداد وصياغة المناهج والدورات بالسياسات الدولية وأجندة الأمم المتحدة على حساب الفكر والحراك النسويين، أي أن أغلب برامج دراسات المرأة والنوع الاجتماعي في دول المنطقة لم تتأسس على قواعد مماثلة أو مشابهة للتي انطلقت منها نظيرتها في الولايات المتحدة، أو كندا، أو بريطانيا، أو الهند، أو في دول أفريقية مثل موزمبيق، ونيجيريا، وغانا.
وقد أسفر هذا التوجه المتخذ عمدًا عن افتقار غالبية هذه البرامج إلى المنظور النسوي في التحليل والاستقصاء، وإفراغها من تاريخ الحركات النسوية العربية واشتباكاتها مع النظم الاجتماعية والسياسية، أو يمكن القول بأن هذه الخيارات أدت إلى نزع الهوية عن برامج دراسات المرأة والنوع الاجتماعي في الدول الناطقة بالعربية، وسلبها المغزى والغاية المنشودين منها.