قبل نحو عشر سنوات أقر البرلمان التركي القانون الوطني رقم 6284، المختص بحماية الأسرة ومنع العنف ضد المرأة، بعد أن تقدمت بمشروعه مجموعة من النائبات بهدف تعديل وتطوير قانون حماية الأسرة الصادر في العام 1998، بعد أن أثبت على مدار السنوات إخفاقه في حماية النساء والفتيات من العنف المنزلي، بسبب ثغرات عدة وقصور بالغ في مضمونه، فضلًا عن ارتكازه إلى فلسفة تشريعية «أبوية».

وقد أكدت الأرقام والإحصاءات عظِمَ ذلك الفشـل، فوفقًا لبيانات مشروع البحث الوطني حول العنف المنزلي ضد النساء في تركيا للعام 2009، بلغت نسبة النساء اللائي تعرضن للعنف الجسدي أو الجنسي على يد أحد الأقارب أو الزوج لمرة واحدة على الأقل نحو 42 بالمئة. كما كشف مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أن 3400 امرأة تركية لقين حتفهن فيما بين العامين 2003 و2010، وبينت دراسة بعنوان «قتل النساء في تركيا بين 2000 و2010» أعدها الباحثان صادق توبراك وجوكان إرسوي، أن أغلب الضحايا اللاتي قضين خلال فترة الرصد كانت تربطهن علاقة بالجناة، وجاء الأزواج في المقدمة بنسبة 30.6 في المئة ثم الأصدقاء/الشركاء الحميمون والأشقاء أو الأقارب.

تبعًا لذلك، عزمت المجموعة التي تولت صياغة القانون رقم 6284، على أن تعالج مواطن القصور البارزة في قانون الأسرة، فلم يختصر القانون الجديد الإجراءات الحمائية في توفير مأوى مناسب للناجيات، أو تقديم المساعدات المالية وخدمات الدعم الطبي النفسي والجسدي لهن، إذ أضاف على ذلك حق الناجيات والمعرضات لخطر العنف المنزلي في التقدم إلى الشرطة أو الادعاء العام، بطلب فرض إجراءات وقائية تمنع المعتدين من التعرض لهن بأي شكل ووسيلة.

وقد فرض القانون عقوبةً على المعتدين في حالة خرق الأوامر الصادرة بحقهم، تصل إلى الحبس لفترة لا تتجاوز ستة أشهر، ثم يحدد القضاة بعد انقضائها مدى ضرورة إلزام المعتدين بارتداء سوار إلكتروني يراقب تحركاتهم للتأكد من بقائهم بعيدًا عن المعتدى عليهن. كما ألزم القانون في مادته السابعة الموظفين المكلفين بتنفيذ الإجراءات بأداء واجباتهم في هذا الصدد من دون تقاعس أو تأخير، بما فيها إبلاغ السلطات عما إذا كان من المفترض تشديد الإجراءات.

كان إصدار القانون خطوة مهمة باتجاه خلق مظلة تشريعية من شأنها توفير الحماية المستحقة للنساء والفتيات من العنف في المجال الخاص، إلا أن التشريع لا يمكنه أن يغير واقعًا من دون إنفاذه بإحكام، وهذا هو الحال مع هذا القانون إذ يشوب تنفيذه كثير من العوار، ولذلك ما برحت قلوب العديد من النساء التركيات وَجِلة وما انفك الخطر قاب قوسين أو أدنى منهن، بسبب فشل السلطات أو تقصيرها في تنفيذ النصوص التشريعية.

مكامـــن الإخفاق

كشفت الحكومة التركية في خطة عملها بشأن العنف المنزلي المُعلن عنها في العام 2021، أن أربعًا من كل عشر نساء تعرضن للعنف الجسدي أو الجنسي أو كليهما، على أيدي أزواجهن أو شركائهن في وقت ما خلال حياتهن، وأظهرت إحصاءات وزارة الداخلية التركية أن 307 امرأة قتلن خلال العام 2021، كان بينهن 38 امرأة قتلهن أزواجهن أو شركاؤهن الحميمون السابقون أو الحاليون، رغم أنهن حصلن على أوامر قضائية بفرض إجراءات الحماية الواردة في القانون رقم 6284.

السبب في ذلك بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch) هو قصر المدد المحددة للإجراءات الوقائية التي تصدرها المحاكم، بما يجعل حماية النساء من المعنفين أمرًا مؤقتًا، بالإضافة إلى فشـل جهات إنفاذ القانون في تقييم المخاطر ومراقبة فعالية الإجراءات المتخذة بشكل ثاقب ومحكم، وهو ما يؤدي إلى إفلات بعض المعتدين من العقاب المقرر في القانون رغم مخالفتهم للقرارات القضائية.

إشكالية أخرى تشير إليها مؤسسة وشركة بيكر ماكينزي المتخصصة في القانون الدولي (Baker McKenzie)، وهي التعارض بين القانون الجنائي وقانون حماية الأسرة ومنع العنف ضد المرأة فيما يتعلق بماهية «المطاردة والتعقب»، فالأول لا يشمل تعريفًا لـ«التعقب» بينما يقر الأخير بأحقية الناجيات والناجين الذين يواجهون مطاردة المعتدين في الحصول على أوامر قضائية لوقايتهم، ومن ثم صارت القرارات الفاصلة تصدر بناءً على تفسير القضاة الفردي لماهية المطاردة وتقييمهم الشخصي لواقعية الخطر.

يفتقر كذلك كلا القانونين إلى تعريف التحرش الجنسي بشكل واضح، بما يجعل جهات الشرطة أو القضاة الذين يتلقون طلبات الناجيات والمعرضات للعنف المنزلي بشأن الإجراءات الوقائية، هم وحدهم من يناط به تحديد وتعريف التحرش الجنسي، وهو ما ينتهي إلى خسارة بعض النساء والفتيات لحقهن في الاستفادة من التدابير الوقائية والجزائية الواردة بقانون حماية الأسرة ومنع العنف ضد المرأة، من جراء الاستناد إلى الرؤى والقناعات الفردية بدلًا من التعريفات التشريعية.

من ناحية أخرى، تناقش الباحثة والأكاديمية التركية إليف جوزداس أوغلو، في ورقتها البحثية الصادرة في العام 2018 بعنوان «تأطير العنف القائم على النوع الاجتماعي في تركيا»، تأثير السياقين السياسي والاجتماعي على تنفيذ مواد القانون رقم 6284، مشيرةً إلى أن النظام التركي قصد عدم الفصل بين تجريم العنف ضد النساء وحماية انسجام وتماسك الأسرة، وهو ما يفسـر خروج اللوائح التنفيذية والسياسات الحكومية التي تعتبر أن «مؤسسة الأسرة» هي من يواجه الخطر وليس النساء والفتيات، ولذلك يستخدم بعض منفذي القانون «خصوصية الأسر» كذريعة لتبرير التأخر أو الامتناع عن اتخاذ إجراءات الوقاية.

في ضوء ذلك، يشير تقرير «مكافحة العنف المنزلي في تركيا.. الأثر المميت للفشل في الحماية» الصادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش في شهر مايو الماضي، إلى لجوء بعض النساء والفتيات إلى وسائل التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام المرئية والمطبوعة، للضغط على السلطات حتى تستصدر أوامر الوقاية والحماية التي تقدمن بطلبها رسميًا لدرء الخطر عنهن، وتعتبر المنظمة الدولية أن اضطرار النساء أو المحامين إلى استخدام هذه الأساليب، هو بمثابة إدانة للسلطات ودليل على عجزها عن توفير الحماية أو الاستجابة بشكل مناسب للمخاطر التي تحدق بالناجيات من العنف المنزلي.

هل من سبيل لتغيير ذلك؟

لا شيء عصي على التغيير ولكن هناك عثرات وعقبات قد تؤخر بلوغ الهدف؛ وأبرز هذه العقبات تتجسد في قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالانسحاب من اتفاقية المجلس الأوروبي لمنع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف المنزلي (المعروفة باسم اتفاقية إسطنبول) في العام 2021، بعد أن كانت تركيا هي أول دولة توقع وتصادق عليها بعد صدورها في العام 2011، وهي الاتفاقية التي تحدد معايير ملزمة قانونًا لمنع العنف القائم على النوع الاجتماعي وحماية الناجيات والناجين من العنف المنزلي، وقد كانت مصادقة تركيا على الاتفاقية قوة دافعة لإصدار قانون لمنع العنف ضد المرأة.

أما الآن وبعد أن بات إدخال بعض التعديلات على القانون أمرًا ملحًا، وأضحت إعادة النظر في أحكام اللوائح التنفيذية حتميةً، فإن الانسحاب من الاتفاقية يقلل من احتمالية اتخاذ هذه الخطوات، إذ لم تعد تركيا ملزمة بالخضوع للتدقيق من قبل اللجنة المختصة بمراقبة مدى وفاء الدول الأطراف في الاتفاقية بالتزاماتها، والمعنية أيضًا بتقييم التقدم المحرز من قبل الحكومات إزاء معالجة قضايا العنف ضد النساء، لا سيما العنف المنزلي.

ولا يلوح في الأفق ما ينبئ باستجابة السلطة الحالية لمطالب التعديل والتغيير المرفوعة من قبل النساء التركيات، فهذه السلطة التي لا تعترف بـ«المساواة بين الجنسين»، تتعمد منذ أن اتخذت قرارها المفاجئ بالانسحاب من الاتفاقية، أن تصم آذانها عن أصوات النساء المحتجة على التحركات المستمرة نحو سلبهن المكتسبات التي ناضلن في سبيل انتزاعها على مدار سنوات طوال.