نسـق المرأة الخارقة: كيف أقنعنا المجتمع أن أغلاله وضغوطه أوسمة شرف تستحق أن نفاخر بها؟
كتبــت: شهد مصطفى
«لقد دخلت في سباق مع الزمن منذ أن تزوجت قبل سبعة أعوام، وغدوت في منافسة محتدمة مع ذاتي يوميًا، لأثبت أنني زوجة وأم قادرة على إدارة شؤون منزلها على أكمل وجه، وأنني كذلك امرأة متميزة في مجال العمل الذي اخترته ولا شيء يمكنه أن يعرقل تقدمي المهني، فما أكثر المرات التي تحاملت فيها على نفسي رغم الإرهاق الشديد بعد يوم عمل طويل، لأرافق ابني إلى التدريب الرياضي أو الجلوس معه لاستذكار دروسه، فإذا لم أفعل أؤنب نفسي بشدة وينتابني شعور بالتقصير وعدم الاستحقاق.»
تبذل كارما، الشابة الثلاثينية التي تعمل بإحدى المؤسسات الدولية في مجال التنمية، قصارى جهدها لتكون حياتاها الأسرية والمهنية «مثاليتين»، على حد وصفها. لكن طريقة التفكير هذه تثقلها بأعباء مضاعفة، خاصةً في ضوء المسؤوليات التي تتحملها بمفردها من دون أن يتقاسمها أحد معها.
تقول كارما إن ما يتعين عليها تحمّله وتنفيذه يتطلب جهدًا جسيمًا على المستويين البدني والذهني، «قد لا أنال من النوم سوى بضع سويعات خلال أيام الاختبارات المدرسية، أو إذا دعا زوجي أصدقاءه أو أقاربه لتناول العشاء في منزلنا، ومع ذلك أستيقظ باكرًا وأتوجه إلى المؤسسة التي أعمل بها من دون تأخير، وأعكف على تنفيذ كل المهام الموكلة إلي على أفضل وجه، وليتحقق ذلك أتناول أقراصًا مضادة للصداع وأشرب دفعة من أكواب القهوة الداكنة، فالمهم بالنسبة لي هو غلق أي ثغرة قد تشكك في أحقيتي للمكان الذي وصلت إليه في العمل، وسد الطريق أمام مشاعر الفشل وعدم الأهلية التي قد تتسلل إلي.»
من ناحية أخرى، تظن كارما أن مشاعر الخوف من التقصير والرغبة المستمرة في التضحية لأجل الآخرين لا تطرق باب زوجها مثلما تفعل معها، فهو دائم التأكيد على أنه يؤدي ما عليه تجاه أسرته وفي عمله، رغم أنه لا يجالس طفله لأيام ولا يشاركها معظم المسؤوليات التي تخصه. كما أنه يحافظ على عادة الخروج أسبوعيًا مع أصدقائه والاستمتاع ببعض الوقت معهم، ويحرص على أن لا يفتح مجالًا أمام أي مهام إضافية في عمله المأجور بعد انتهاء ساعات العمل المقررة، بينما تضطر كارما كثيرًا إلى تأجيل مقابلات الأصدقاء، والقبول بتأدية مزيد من مهام العمل خارج ساعاته المحددة، وتعزي ذلك إلى شعورها العميق بأن الوصول إلى مبتغاها وتحقيق أهدافها يتطلب منها العمل الجاد باستمرار.
ما تشير إليه كارما يلخص حالة تعرف باسم «متلازمة المرأة الخارقة – Superwoman Syndrome»، وهي حالة تفرض نفسها على شريحة عريضة من النساء من جراء توقعات المجتمع منهن، وتدفعهن إلى بذل كل ما بوسعهن لتأدية جميع الأدوار المنوطة بهن على أكمل وجه، ومن ثم يقعن تحت ضغوط نفسية وجسدية قوية، في ظل تقسيم غير عادل للأدوار الاجتماعية بين الجنسين.
متلازمة المرأة الخارقة هو مصطلح صكته مارجوري هانسن شايفيتس، المعالجة النفسية ورئيسة الهيئة الاستشارية لمعهد ستانفورد لأبحاث المرأة والنوع الاجتماعي الأمريكي، وقد استخدمته لأول مرة في العام 1984، حين أصدرت كتابًا يحمل هذا المصطلح عنوانًا له.
تشكّل نموذج المرأة الخارقة خلال الستينيات؛ الفترة التي شهدت تزايدًا في خروج النساء إلى العمل وتمكنهنّ من اعتلاء مناصب قيادية لم تكن متاحة أمامهن فيما قبل، وهو إنجاز لم يقابله تغييرًا في توزيع مهام العمل المنزلي، إذ ظلت ملقاةً بكاملها على عاتق النساء، لتتضاعف الضغوط عليهن بسبب الأعباء المزدوجة لكلا العملين المأجور وغير المأجور.
إلى جانب العمل المأجور، تقضي النساء حول العالم ضعفًا إلى عشرة أضعاف الوقت الذي يقضيه الرجال في الأعمال المنزلية وأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر.
«ما انفك المجتمع يوقن أن العمل الأساسي للمرأة هو العمل المنزلي، أما عملها المأجور فهو اختيار أو احتياج وفي الحالتين لا يمكن أن يحاذي الأول في أولويته وأهميته، ومع ذلك فهي ملزمة بإظهار براعة وامتياز يتجاوزان ما لدى زملائها الرجال، ويجب أن تحصد اعترافًا بالتفوق في عملها المأجور، حتى لا تطاردها اتهامات بالفشل أو تلاحقها عبارات ازدرائية مثل: الستات ملهاش شغل، يقعدوا في البيت أحسن.»
تعبّر ألفة بهذه الكلمات عن معاناتها مع تقمس شخصية المرأة الخارقة، على حد قولها، إذ يتوزع يومها بين تأدية مهامها كمديرة إنتاج بأحد الشركات الناشئة في مجال التجارة الإلكترونية، وبالتحديد الأزياء والموضة، ورعاية أبويها المسنين، بالتوازي مع الأعمال المنزلية كالطهي، والتنظيف، وشراء الأغراض، وهي الأمور التي يستنكف شقيقها عن القيام بأي منها لقناعته بأنها «أعمال نسائية».
تعتقد ألفة أن المجتمع لا يدرك أن نوبات القلق والاكتئاب التي تعاني منها كثير من النساء، قد تكون نتيجة نمط المرأة الخارقة المطلوب منهن أن يستوفين شروطه، لينلن نصيبهنّ من القبول المجتمعي، ومن وجهة نظرها فإن «الأكثر بؤسًا هو عدم قدرة المرأة على التعبير عن الضغط النفسي الذي تكابده أمام زملاء أو رؤساء العمل، وكذلك لن يكون في صالحها أن تبدي امتعاضها من غياب العدالة في توزيع الأدوار في المجال الخاص بين الجنسين الذي يلقي بظلاله على فرصهنّ في الساحة المهنية، خشية أن يُفهَم باعتباره حيلة دفاعية أو لعبة نفسية لدفع الانتقادات الوظيفية عنها، ولذلك تفضل بعض النساء إخفاء العناء أو الإرهاق النفسي، وقد نجدهن يفاخرن بقدرتهن على القيام بشتى الأدوار ومختلف المسؤوليات على أفضل نحو ممكن ومن دون أن يؤثر أحدها على الآخر.»
في كتابها «المرأة المعجزة: الجنس، والقوة، والسعي إلى الكمال – Wonder Woman: Sex, Power, and the Quest for perfection»، ترجع ديبورا سبار بروز نموذج المرأة الاستثنائية خلال الستينيات والسبعينيات إلى توجه النشاط والخطاب النسويين آنذاك صوب تمكين النساء من تثبيت أقدامهن في المجال العام، وزيادة فرصهن في القيادة داخل مختلف القطاعات، من دون أن يقابلهما نشاط وخطاب يحض على إعادة توزيع المسؤوليات في المجال الخاص.
تقول ديبورا متحدثةً عن هذه المرحلة التاريخية «بدلاً من أن نغتنم التحرر الذي حصلنا عليه، قمنا بتحويله بطريقة ما إلى عبء: لأننا نستطيع فعل أي شيء ، شعرنا كما لو كان علينا القيام بكل شيء.»
قد يكون ما تطرحه ديبورا سبار تفسيرًا لأحد العوامل التي قادت إلى رسوخ نسق المرأة الخارقة بوصفه نموذجًا قابلًا للتطبيق وليس مجرد أسطورة، لكن الدور الرئيس كان ويظل للمجتمع الأبوي الذي أقنع الفتيات والنساء على مر السنوات، بأن المرأة الخارقة نموذج واقعي لا بد أن يتشدقن به، عن طريق إدراج هذا الوصف ضمن أوصاف الثناء والإطراء، ورفع القبعات أمام النساء اللاتي يتحملن مزيدًا من الأعباء التي كان يجب أن يتقاسمها معهن الرجال، وإفراد القصائد لامتداح المرأة «المضحية» التي تتجاهل احتياجاتها النفسية في سبيل إرضاء الأسرة والمجتمع، وهي الممارسات التي نجح من خلالها المجتمع في أن يغلّف التمييز ضد النساء بغطاءٍ ودود وحميم، ليصعب الإمساك بخيوطه على عكس التمييز العدائي الصريح.