«النحت فن مثير للغاية، مختلف عن الفنون الأخرى. لقد فٌتِنت بهذه العملية التي نبتكر فيها كتلة من العدم، نشكّلها ونطوّعها لنحول فكرة إلى عمل فني، يا لها من عملية ملهمة وشديدة الإمتاع رغم احتياجها لمجهود ذهني وبدني كبير.»

يوستينا شحاته فهمي فنانة مصرية متخصصة في النحت، درست بكلية الفنون الجميلة في جامعة الإسكندرية، قبل أن تحصل في العام 2017 على درجة الماجستير في فن النحت. طافت يوستينا بأعمالها العديد من الصالونات والمعارض الفنية المصرية، وحازت على جائزة مسابقة آدم حِنين لفن النحت في دورتها الثالثة (2019 -2020). ثم جاء العام الجاري، العام 2022، حاملًا معه دفعة أملٍ جديدة وتشجيعًا من نوع خاص، تمثّل في إعلان وزارة الثقافة في شهر يوليو الماضي عن فوز يوستينا بواحدة من أعرق جوائز الدولة المصرية، وهي جائزة الدولة التشجيعية في فئة الفنون، وتحديدًا في فرع النحت في الخامات الصلبة.

في حديث خاص لـ«ولها وجوه أخرى»، تحكي لنا يوستينا عن الجائزة وعلاقتها بالفنون التشكيلية لا سيما فن النحت، وتعطينا لمحة عن واقع النحاتات المصريات وإمكانية تطويع هذا الفن للاشتباك مع قضايا النساء وتاريخهن.

نص الحوار:

دعينا نبدأ بسؤالِك عن جائزة الدولة التشجيعية، وما يُمثله لكِ الفوز بهذه الجائزة المرموقة التي بدأ منحها قبل 64 عامًا؟

لقد شعرتُ بالفخر والسعادة الشديدين إزاء هذا التكريم الذي يحمل اسم الدولة المصريـة، ورأيت الجائزة تكليلًا لمجهود ومشوار امتد لسنوات، وشعرت بدفعة قوية للاستمرار، إلا أنني اعتبرتها أيضًا مسؤولية كبيرة خاصةً أن اسمي قد أصبح بين فنانات وفنانين كِبار سبق أن حصلوا على هذه الجائزة، ولذلك ينبغي أن أكون على قدر المسؤولية وأن استمر بجدية وإتقان.

لا بد أن نسألك عن العمل الذي كان سببًا في فوزك بالجائزة، ما هي فكرته وكم استغرق من الوقت لتنفيذه؟

بدأت العمل على التمثال الذي نلت عنه الجائزة في نهاية العام 2020 وانتهيت منه العام الماضي، العام 2021، وينطلق التمثال من فكرة الخداع البصري الإدراكي التي تشير إلى أن إدراكنا للأشياء يعتمد على معرفة وخبرة سابقة، ولكن في بعض الأحيان تقع أعيننا على أشياء فندركها ونتعرف إليها من دون خبرة أو معلومات مسبقة، ويجمع التمثال بين هذين النوعين من الإدراك، فيرى المتلقون التمثال عن بعد بصورة مختلفة تمامًا عن تلك التي يشاهدونها بها عندما يقتربون منه، وتتباين الخبرتان لدرجة تصدم المتلقيات والمتلقين في رؤيتهم الأولى، فينشأ عن ذلك حوار في عقولهم حول ما ينظرون إليه.

لنعود إلى الوراء قليلًا ونتحدث عن ولوجك إلى عالم النحت وتطور علاقتك به؟

بدأت علاقتي بالفن بشكل عام في وقت مبكر، كنت أهوى الرسم والألوان في طفولتي، واستمرت علاقتي الحميمة بهما إلى أن أنهيت التعليم المدرسي ونجحت في اجتياز اختبار القدرات بكلية الفنون الجميلة في جامعة الإسكندرية، لتبدأ رحلتي مع الدراسة الأكاديمية للفنون.

أما شغفي بعالم النحت فقد بدأ في أثناء دراستي الجامعية، وتحديدًا حينما كنت بالفرقة الإعدادية، فقد تميزت في تخصص النحت بشكل ملحوظ، وكنت أتلقى من أساتذتي بالكلية تعليقات إيجابية عن منحوتاتي، فيما يخص ملمس الخامة والتصميم والتنفيذ، ومن ثم التحقت بقسم النحت الذي تفوقت فيه خلال جميع سنوات الدراسة.

النحت فن مثير للغاية، مختلف عن الفنون الأخرى. لقد فٌتِنت بهذه العملية التي نبتكر فيها كتلة من العدم، نشكّلها ونطوّعها لنحول فكرة إلى عمل فني، يا لها من عملية ملهمة وشديدة الإمتاع رغم احتياجها لمجهود ذهني وبدني كبير.

لدينا نساء مصريات احترفن فن النحت منذ الخمسينيات إلا أنهن مهمشات في تاريخ الفن، بينما يحظى النحاتون الذكور بجل الشهرة والتكريم، فغالبًا ما نذكر أسماء مثل محمود مختار، وحسن حشمت، وآدم حنين، وجمال السجيني عند الحديث عن فن النحت المصري، بينما يندر ذكر أسماء نحاتات مثل ابتسام لطفي، وحمدية أحمد سلمان، وأميمة أمين الشافعي، وغيرهن، برأيك هل هذا التهميش متعمد؟

لا أعتقد أنه تهميش مقصود أو متعمد، ولكن ربما قلة إنتاج النحاتات الأوليات أو قصر مسيرتهن لعب دورًا في ذلك، وقد يكون ذلك للظروف الزمنية والمساحة التي كانت متاحة للنساء الفنانات حينذاك، ولكن في الوقت الحالي أظن أن وضع النساء في الفن التشكيلي بكل صنوفه ومنها النحت قد اختلف كثيرًا، وباتت أعدادنا كنحاتات أكبر، وصرنا ننافس على قدم المساواة مع نظرائنا النحاتين.

بما أننا تطرقنا إلى استمرارية النحاتات وحجم إنتاجهن، ما هي التحديات التي يواجهنها وتعرقل خطواتهن؟

النحت من الفنون التي تحتاج إلى مجهود ذهني وبدني كبير كما ذكرت آنِفًا، وذلك يرجع إلى الخامات المستخدمة كالحجر، والخشب، والطين الذي أفضله لكونه أخف وزنًا من الخامات الأخرى وأسهل في النقل. كما أن النحت يفرض على الفنانات والفنانين التحرك خارج الأتيليه، إذ يتعين عليكِ الذهاب إلى الورش التي تُنفذ منحوتاتك، واستخدام أدوات مثل مقص تقطيع الحديد، واللازميل، والشاكوش، والصنفرة اليدوي، ورش الدوكو، والصاروخ لتشكيل الأحجار، والقيام بكل ذلك شاق للغاية ومشقته تتضاعف إذا كنتِ أمًا، فأنا كنحاتة وأم في الآن ذاته، أواجه صعوبة كبيرة في التوفيق بين فني ورعاية أطفالي الصغار، ولفترة طويلة كانت رغبتي الشديدة في مواصلة عملي وإكمال منحوتاتي يضارعها شعور بالتقصير تجاه أسرتي، ولم أتمكن من تجاوز هذا الشعور إلا بمساندة أمي ودعم زوجي غير المشروط.

إلى أي مدى تنشغل نحاتات الجيل الحالي بالاشتباك مع قضايا النساء وتاريخهنّ من خلال أعمالهم؟

لدي قناعة بأن النحت قادر على الاشتباك مع كل القضايا الاجتماعية المختلفة بما فيها قضايا المرأة، فالنحت لا ينفصل عن الواقع على عكس ما يثار عن كونه فنًا نخبويًا يهتم به المتخصصون فقط.

وبشكل شخصي، أعكف حاليًا على تجهيز تمثال يحتفي بالمرأة المصرية المُكافحة التي تتحمل المسؤولية وتتحدى الصعاب والعراقيل في العمل والمنزل.

كيف تقيمين الحركة الفنية المصرية في مجال النحت في المرحلة الراهنة؟

أرى أننا نشهد حالة زخم كبيرة خاصةً في ظل اهتمام وزارة الثقافة وقطاع الفنون التشكيلية بشباب الفنانين والفنانات والنحاتين والنحاتات، وتنظيم الوزارة لكثير من الفعاليات، بالتوازي مع النشاط المتزايد للجالريهات والقاعات الخاصة، وهو ما يصب في صالح المشهد العام لفن النحت في مصر.

وما هي التحديات التي تواجه النحاتات أو النحاتين عمومًا؟

برأيي المشكلة الرئيسة هي أن النحاتات والنحاتين مسؤولين عن إبداعهم بالكامل، من البداية وحتى مرحلة التسويق لإنتاجاتهم، ونحن نعاني من غلاء أسعار الخامات وارتفاع أسعار تأجير الورش، فضلًا عن تأثر حركة البيع من جراء الأحوال الاقتصادية المتدهورة، وبالتالي يضطر النحاتات والنحاتون إلى اللجوء لخامات أقل كلفة، والبحث عن مصدر دخل ثابت للموازنة بين إبداعهم ومتطلبات الحياة والمعيشة.