خمس سنوات إلا بضعة شهور مرت منذ انطلاق حراك #Metoo (أنا أيضًا)، الذي بدأت شرارته الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية في أكتوبر من العام 2017، ولا يزال تأثيره حاضرًا وما انفكت موجاته تترامى، ليس فقط محليًا أو إقليميًا بل عالميًا، وعلى الرغم من أن تبعاته الأكبر تظل في داخل الولايات المتحدة، فإن الفكرة التي ارتكز عليها الحراك في بدايته قد أسست لمرحلة جديدة في مقاومة العنف الجنسي في العديد من الدول حول العالم.

لقد تميز حراك #Metoo (أنا أيضًا) عن ما سبقه من حملات وحركات تناهض العنف الجنسي وتدافع عن الناجيات بعدد من الأمور، يأتي في مقدمتها خروجه من حيز رفع الوعي بمدى خطورة جرائم العنف الجنسي وانتشارها من دون أن يكون المعتدون مرئيين أو معروفين، إذ انتقل  #Metoo (#أنا_أيضًا) إلى مرحلة توجيه أصابع الاتهام صوب المعتدي مهما بلغت قوته ونفوذه، وفي ضوئه تغيرت صياغة كثير من شهادات الناجيات من «لقد تعرضت للاعتداء الجنسي» أو «عايشت تجربة عنف جنسي» إلى «لقد اعتدى علي هذا الشخص أو هؤلاء الأشخاص.»

قبل العام 2017، كانت أغلب التحركات المناهضة للعنف ضد النساء لا سيما العنف الجنسي، تسعى إلى إنهاء القبول المجتمعي لهذا العنف وتبريره، ومن ثم حشد الدعم لصالح الناجيات، إلا أن النمط الذي كان سائدًا هو وجود المعتدين على هامش المشهد أو خارجه تمامًا، وقد ساهم ذلك بدرجة ما في تمركز النقاشات المجتمعية حول مسؤولية النساء والفتيات إزاء ما تعرضنّ له من اعتداء، تذرعًا بأشياء مثل الملابس أو موعد وقوع الاعتداء ومكانه أو طبيعة الحياة الخاصة للمُعتدَى عليها، ولكن مع صعود وسم  #MeToo (أنا أيضًا) صار المعتدون في قلب المشهد، وبدأت القوة والأمان الذين طالما تمتع بهما معظم مرتكبي جرائم العنف الجنسي في الخفوت، وبالأخص المعتدين المتسلسلين الذين تدافعت شهادات الناجيات ضدهم ليسقطوا واحدًا تلو الآخر، وأولهم هارفي واينستين المنتج السينمائي الأمريكي الذي كان انكشاف جرائمه الجنسية من خلال تحقيقين صحافيين هو المحفز الرئيس لاتساع رقعة التفاعل مع وسم #Metoo (أنا أيضًا).

وعلى مدار أربعة أعوام ونصف العام، أشارت الناجيات بأصابعهن على معتدين في غرب العالم وشرقه وشماله وجنوبه، لتضم القائمة الطويلة والمفتوحة حتى الآن رجالًا في شتى المجالات، كالسياسة والإعلام والترفيه والرياضة والأكاديميا، ومنهم؛ مقدم البرامج الأمريكي تشارلي روز الذي اتهمته ثماني سيدات بالتحرش بهن جنسيًا فيما بين العامين 1991 و2011، ورجل المال الأمريكي جيفري إبستاين الذي استغل جنسيًا عشرات الفتيات القاصرات، والمنتج التلفزيوني الفرنسي إيريك بريون الذي اتهمته صحافية فرنسية بالتحرش بها جنسيًا، والمدعي العام السابق في أستراليا كريستيان بورتر الذي وجهت له العديد من النساء اتهامات باغتصابهن، والمخرج الألماني ديتر ويديل الذي اتهمته عدد من الممثلات باغتصابهن في التسعينيات، والروائي التركي إبراهيم كولاك الذي أقدم على الانتحار بعد أن أكد صحة ما ورد في شهادات انتشرت عبر مواقع مواقع التواصل الاجتماعي للعديد من النساء والفتيات يتهمنه فيها بالتحرش الجنسي، ومقدم البرامج المصري يسري فوده الذي حررت ضده مجموعة من العاملات بقناة دويتش فيله الألمانية شكايات تفيد بتحرشه بهن جنسيًا، مما أدى إلى استبعاده من العمل بالقناة وعدم التحاقه بأي وسيلة إعلامية أخرى حتى الآن، ونائب البرلمان التونسي السابق زهير مخلوف الذي قضت المحكمة بحبسه عامًا بتهمة التحرش الجنسي.

شيء آخر ميز #MeToo (أنا أيضًا) هو حلقات التضامن التي باتت تتخلق بين الناجيات من العنف الجنسي كلما كسرت إحداهن حاجز الصمت، بعد أن كان في السابق كشف الناجية للمعتدي خاصة صاحب النفوذ أو المكانة المرموقة كالصرخة بلا صدى، ويمكننا الاستدلال على ذلك بمراجعة واقعتين شهدتهما الولايات المتحدة الأمريكية، إحداهما قبل 26 عامًا من انطلاق #Metoo (أنا أيضًا) والأخرى وقعت في العام التالي لاندفاع الحراك.

الواقعة الأولى تعود إلى العام 1991، عندما اتهمت المحامية والأكاديمية الأمريكية أنيتا هيل القاضي المحافظ كلارنس توماس الذي كان مرشحًا وقتها للانضمام إلى المحكمة العليا الأمريكية، بالتحرش بها جنسيًا، وقد قدمت أنيتا إفادتها حول ما تعرضت له من تحرش جنسي على يد هذا الرجل، أمام اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ في جلسة علنية أذيعت عبر التلفاز، لتكون واحدة من النساء الأوليات اللاتي يرفعن اللثام ويتحدثن صراحةً عن التحرش الجنسي في أماكن العمل، إلا أن أعضاء اللجنة لم يتعاملوا حينها بأي حساسية تجاه شهادتها، وكان أغلبهم وعلى رأسهم رئيس اللجنة جو بادين، الرئيس الحالي للولايات المتحدة، متشككين في صدقيتها، وتعمدوا خلال الجلسة أن يسيئوا إليها لفظيًا، ومنهم من وجه لها بإزدراء سؤالًا عن ما إذا كان السبب وراء اتهامها للقاضي كلارنس توماس بالتحرش، هو أنها «امرأة غاضبة من الرفض أو الخيانة».

أما الواقعة الثانية فقد جرت أحداثها في العام 2018، ومثل الواقعة السابقة كان المتهم قاضيًا محافظًا يستعد للانضمام إلى المحكمة العليا بترشيح من رئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب، ولكن الاتهام الذي واجهه حينها القاضي بريت كافانو لم يكن اتهامًا بالتحرش الجنسي وإنما بمحاولة اغتصاب، وجهته إليه الأكاديمية كريستين بلازي فورد التي أفادت مثل أنيتا هيل بشهادتها حول الحادثة التي تعود إلى العام 1982 أمام لجنة داخل مجلس الشيوخ، إلا أن تعامل أغلب أعضاء اللجنة مع كريستين أثناء الاستماع إليها وسؤالها عن تفاصيل ما جرى، كان حساسًا على عكس ما حدث خلال جلسة الاستماع لشهادة أنيتا، كما عبّر العديد من النواب عن دعمهم لها وهو ما لم تحظ به أنيتا قبل 27 عامًا.

وعلى غرار العديد من وقائع فضح المعتدين التي تبعت #MeToo (أنا أيضًا)، فقد شجع خروج كريستين عن صمتها أخريات على الإفصاح عن جرائم مماثلة ارتكبها بحقهن كافانو بما عزز من صدقية شهادتها بين قطاعات واسعة في الداخل والخارج، فضلًا عن توجه مسيرات نسائية إلى مقر مجلس الشيوخ أثناء انعقاد جلسة الاستماع إليها مساندةً ومؤازرةً لها.

وعلى الرغم من أن الواقعتين تكشفان عن تغير كبير قد حدث، لم تختلف نهاية كلتيهما، فقد صادق مجلس الشيوخ على تعيين القاضي المرشح بالمحكمة العليا في المرتين، بما يؤكد أن الصراعات الحزبية والسياسية ما برحت جدار حماية للرجال وحائط صد أمام أمواج الحراك التي لم تهدأ حتى الآن.

يؤكد ذلك أيضًا أن #MeToo (أنا أيضًا) ليس معركة الحسم في معارك النساء ضد العنف الجنسي، إلا أن استمرار هذا الحراك فيما بين صعود وهبوط خلال السنوات الأربع الأخيرة، ساهم في زيادة الوعي باختلال موازين القوى بما يبقي العنف الجنسي متفشيًا، لا سيما في أماكن العمل، كما عزز الحراك من صلابة الناجيات النفسية، وقدرتهن على مقاومة الخوف والخروج عن الصمت، حتى إذا كان بالاعتماد على الشهادات المُجهلة حمايةً لأنفسهن من الوصم والانتقام.