حوار– قسمت السيد منتجة فيلم «من القاهرة»: المناخ السينمائي في مصر ظالم لصانعات الأفلام
«تحمست لمشروع «من القاهرة» لشغفي تجاه إنتاج أفلام تمس الناس وتعبر عن حيواتهم، أفلام تحكي همومي وأحلامي كامرأة، وهذا ما يفعله الفيلم عن طريق تتبعه لقصة امرأتين تواجهان صعوبات عديدة، ورغم ذلك تنجحان في تحدي الخوف والضعف، وتتمسكان بتحقيق أحلامهما.»
هذا المقطع هو جزء من حديث المنتجة قسمت السيد لـ«ولها وجوه أخرى» حول فيلم «من القاهرة»، أحدث عمل من إنتاجها والذي حصد إشادات واسعة عقب عرضه ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الماضية (الدورة 43)، وفاز بجائزة المهرجان لأفضل فيلم غير روائي.
لقد أدرج كثيرون فيلم «من القاهرة» تحت تصنيف الأفلام النسائية النسوية، إذ تسيطر النساء على الأدوار الرئيسة في صناعته، فالإنتاج لقسمت السيد، والكتابة والإخراج لهالة جلال، والمونتاج لآية يوسف، وهو فيلم يتعمق في دواخل فتاتين تعاندان الإحباطات والأزمات المتواصلة من أجل تحقيق أحلامهما، ويستكشف علاقتهما بمدينة القاهرة المشحونة بالضغوط والتناقضات.
عن هذا الفيلم نتحدث مع المنتجة قسمت السيد، كما نناقش معها أزمة تهميش النساء في صناعة السينما، ونتعرف إلى رأيها في لقب «صانعة أفلام نسويـة»، ونستعيد تجربتها كمصوّرة صحافية تتنقل بين شوارع القاهرة بآلة صغيرة تثير تساؤلات وشكوك المارة.
قسمت السيد هي منتجة أفلام، أسست شركة «أفلام سيرة – Seera Films» في العام 2014، لتبدأ من خلالها إنتاج مجموعة من أفلام السير الذاتية التي توثق سير شخصيات تركت أثرًا ووضعت بصمة رغم أن الصخب والشهرة لم يكن من نصيبها، مثل فيلمي «المشاغب فتح الله محروس» من إخراج عمر خالد، و«العائد من الجبل» من إخراج بسام مرتضى، وفي غضون سنوات قليلة توسع نشاط الشركة وأنتجت العديد من الأفلام التسجيلية المتنوعة، كان آخرها فيلم «من القاهرة» للمخرجة هالة جلال.
في البداية، نريد أن نتعرف أكثـر إلى المنتجة قسمت السيد وبداية علاقتك بالفن السابع؟
بدأ مشواري المهني في العام 2008 في مجال الصحافة، حيث عملت كمصورة صحافية بجريدة «المصري اليوم»، ثم أصبحت مسؤولة عن وحدة إنتاج المشروعات الجديدة بالمؤسسة كالموقع الإلكتروني بنسختيه العربية والإنجليزية، وقسم الوسائط المتعددة (Multimedia) الذي طورنا من خلاله إنتاج الأفلام القصيرة والمحتوى البصري، وكان سببًا في معرفتي بمجموعة من صانعي الأفلام، لديهم أفكار مبتكرة وجديدة ويرغبون في معالجتها سينمائيًا.
في العام 2013، بدأ يتسلل إلينا شعور بأن المساحة الإلكترونية المتاحة لا تسع أحلامنا أو الأفلام التي نطمح إلى صناعتها، فقد كان لدينا رغبة في تقديم أفلام أكبر من تلك التي نقدمها وقتذاك، لنناقش من خلالها موضوعات تشغل اهتمامنا، وكامرأة كنت متحمسة لتناول موضوعات تمسني وتُشبه حكايات نساء أخريات.
في ذلك الوقت، شاءت الظروف أن التقي بالمخرجة هالة جلال، التي لديها رصيد كبير في دعم السينما المستقلة من خلال شركتها «سمات»، وحينها توقعت أن يجمعنا فيلم بعد سنوات، وهذا ما حققه «من القاهرة».
كيف استقبلتِ فوز «من القاهرة» بجائزة أحسن فيلم غير روائي بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نسخته الـ43؟
شعرت بالفخر الشديد خاصةً أن الجائزة تأتي من مهرجان عريق مثل مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ولأنها أول جائزة من بلدي مصر. لحظات السعادة والتقدير تلك تجعلك تشعرين بأن ما تصنعينه له معنى، وتمنحك دفعة إيجابية لاستكمال المشوار، وتساعدك أيضًا على نسيان المتاعب التي واجهتك أثناء صناعة العمل.
استغرقت رحلة صناعة فيلم «من القاهرة» ثلاث سنوات كاملة، كمنتجة ما الذي دفعك لخوض هذه التجربة الخاصة؟
لقد تحمست للفيلم لعدة أسباب، أبرزها شغفي تجاه إنتاج أفلام تمس الناس وتعبر عن حيواتهم، أفلام تحكي همومي وأحلامي كامرأة، وهذا ما يفعله الفيلم من خلال تتبعه لقصة امرأتين تواجهان صعوبات عديدة؛ الأولى هي آية التي تعيش بمفردها منذ أن توفي والداها وهي طفلة صغيرة جدًا، وقد عقدت العزم على أن تسعى وتجاهد في سبيل تحقيق حلمها بالعمل كمخرجة، والثانية هي هبة، أم عزباء تربي طفلتها الصغيرة بمفردها بعد الانفصال، وهي فنانة تشكيلية بارعة تجوب بلوحاتها معارض العالم، وأنا أرى أن البطلتين صنعتا بعين المخرجة هالة جلال فيلمًا صادقًا وشجاعًا، لاقترابهما من مناطق ليست هينة في حيوات الأفراد كالخوف والضعف ومساعيهما للتغلب على الشعورين، فلم تخجل كلتاهما من الكشف عن لحظات الهشاشة الإنسانية التي نرغب نحن دائمًا في إخفائها.
لن أنسى التعليقات التي تلقيتها عند عرض الفيلم بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وهذا الحضور الجماهيري الكبير الذي كان سببًا في إقامة عرض ثالث استثنائي إضافة إلى العرضين الأساسيين، فضلًا عن ردود الأفعال التي تلقيناها من فتيات في العشرينيات من العمر وأخريات أكبر، وكانت ساحرة كقول بعضهن «الفيلم ده شبهنا وبيعبر عننا».
سبب آخر لتحمسي للفيلم هو ثقتي في هالة جلال كمخرجة حساسة وموهوبة، تمتلك لغة سينمائية مميزة ولديها أسلوب إخراجي متميز، إضافة إلى تفردها في اختيار شريط الصوت والكادرات وتقديم الشخصيات على الشاشة، وهذه الثقة ليست فقط في قدرتها على صناعة فيلم جيد وإنما في مهنيتها وأمانتها أيضًا سواء في تصوير الشخصيات أو عرضها.
دعينا نخوض أكثر في تفاصيل التجربة الإنتاجية لفيلم «من القاهرة»؟
نحن نضع مجهودًا كبيرًا في تطوير مشروعات الأفلام التي نعمل عليها ونستثمر فيها بشكل جيد، ولا ننتظر أحيانًا الحصول على تمويل مالي، ففيلم «من القاهرة» خرج بالجهود الذاتية وحصلنا في مرحلة ما بعد الإنتاج على دعم من إحدى الشركات التي لم تقدم دعمًا ماليًا وإنما قدمت خدمات كتلوين الفيلم. الأهم هو الاستثمار في الفكرة وأن نقدم فيلمًا يمس الجمهور ويعبر عنهم ويؤثر فيهم، وهذا ما تحقق عند عرض «من القاهرة».
يستعرض الفيلم معاناة فتاتين في مدينة القاهرة بكل ما تحمله من قسوة، وهذا يدفعنا إلى سؤالك عن علاقتك بالعاصمة خاصةً عندما كنت مصوّرة صحافية، هل كنتِ ممن لفظتهم القاهرة يومًا ما؟
بالتأكيد، في الوقت الحالي من المستحيل أن تخرج مصورة إلى الشارع، نتيجة رفض وتشكك المجتمع في أي شخص يحمل كاميرا، ودائمًا ما يواجه هذا الشخص سيلًا من الأسئلة مثل «ماذا تفعل؟» و«ماذا تصور؟» و«لصالح من تعمل؟».
أظن أن المواطن في الشارع إذا أدرك أن فيلم «من القاهرة» يعبر عن المجتمع ويحكي عن نسائه لربما أسعده ذلك، ولكن هذا لا يحدث بسبب غياب الثقة بين الناس بعضهم البعض، وخوفهم الشديد من الكاميرا، إلى جانب اعتقاد كثيرين أن تصوير حكايات وقصص الفتيات هو تشويه، وذلك يجعلهم أكثر جنوحًا إلى فكرة الإخفاء والتستر على العيوب والمشاكل.
ولكن تبقى السينما لغة تواصل إنساني تحكي حكايات الأشخاص على اختلافهم، أو ترصد ظاهرة ما، أو تجعلنا نرى أنفسنا والآخرين بطريقة مغايرة.
إلى جانب الرفض والخوف الذي يسيطر على الشارع المصري كما تصفين، يحاصر التحرش الجنسي النساء في كل زواياه، هل كان ذلك أحد الأسباب وراء تركك للعمل الميداني؟
التحرش موجود بالطبع طوال الوقت في الشارع، لكن لا أستطيع أن أزعم بأنه سبب ابتعادي عن التصوير الصحافي، بل كانت المشكلة الأكبر في كوني مطالبة دائمًا بتقديم مبررات للمارة بالشارع وأن أتعامل مع التشكيك المستمر فيما أقوم به، وهو ما لم يكن بوسعي احتماله طويلًا.
«من القاهرة» فيلم يتناول قضايا نسوية عديدة كالعنف ضد النساء، والمساواة، وحرية الاختيار، ومعاناة الأم العزباء، أتعتبرينه فيلمًا نسويًا، وهل تطرحين نفسك كمنتجة منحازة إلى حقوق المرأة؟
الفيلم عبارة عن قصص نساء تحدين الخوف وعبّرن عن أنفسهن ولحظات ضعفن ومخاوفهن وكذلك قدرتهن على تجاوزها، وأعتقد أن هذه المخاوف تعطي بريق أمل فيما يتعلق بقدرتنا على مواجهة مشكلاتنا. أما فيما يتعلق بطرحي كمنتجة نسوية، أنا أفضل تعريف نفسي كصانعة أفلام، أعبر عن نفسى وعن قضايا النساء من دون تصنيفي كمنتجة نسوية، وأفضل أن أترك مجمل الأفلام التي أنتجها لتقييم نقدي فني، وقد تُصنّف كأفلام نسوية أو غير ذلك. في النهاية، لا أرغب في التقيّد بالمسميات، أنا صانعة أفلام فقط.
صناعة السينما عالميًا ومحليًا تخضع لسيطرة الرجال، فما هي أبرز التحديات التي تواجهك كمنتجة سينمائية؟
الأمر صعب للغاية لعدة أسباب؛ أولها الجانب الشخصي والعائلي، فأنت في مهنة لا تعرف سقفًا محددًا للوقت وتتطلب التواجد في فعاليات كثيرة والمشاركة في مهرجانات تقام في بلدان مختلفة، وذلك يؤدي بنا كنساء إلى الشعور بالذنب والتقصير تجاه مسؤولياتنا العائلية، كما أن رغبتنا في تحقيق الكمال ينتج عنها صراع داخلي بين تطلعاتنا إلى إنجاز مشروعاتنا وأفلامنا من ناحية وحرصنا على القيام بمهامنا العائلية من ناحية أخرى.
أما التحدي الثاني فهو ندرة الفرص المتاحة أمام النساء في هذه الصناعة، نتيجة عدم الثقة والإيمان بقدراتهن، فالتفضيلات تذهب إلى العمل مع المحترفين أصحاب الخبرة من صناع الأفلام الرجال، وهو مناخ غير عادل بالطبع لصانعات الأفلام، فإذا كان كل المخرجين ومهندسي الصوت والمصورين الكبار فقط من الرجال، فكيف ومتى تكتسب النساء الخبرة ذاتها!
كصانعة أفلام سواء منتجة أو مخرجة أنت لا تسيرين بالسرعة نفسها التي يسير بها الرجال في هذه الصناعة، ففي الوقت الذي يمكن للمخرج أن يصنع ستة أفلام لا تستطيع المخرجة سوى تقديم عملين على الأكثر، لذا علينا إعطاء فرص أكثر للنساء والثقة في إبداعهن.
بالإضافة إلى ذلك، يقف العامل النفسي حائلًا بين صانعات الأفلام (سواء منتجات أو مخرجات) وإدارة أطقم العمل، إذ يمثل ذلك تحديًا أمامهن خاصةً أن بعض الرجال العاملين في هذه الصناعة ما زالوا لا يتقبلون الفكرة.
لكن السينما المصرية قامت على أكتاف المنتجات مثل آسيا داغر، وماري كويني، وعزيزة أمير، وبهيجة حافظ، ما الذي أوصلنا إلى هذه الحال؟
ما يحدث هو جزء من الأزمة التي تواجهها صناعة السينما بصفة عامة، وهناك فئات تكون أكثر تأَذيًا خلال الأزمات، والنساء في هذه الصناعة مطلوب منهن بذل مجهود أكبر مما يقوم به الرجال لإثبات أنفسهن وحتى يتمكنّ من المنافسة.
من وجهة نظرك كصانعة أفلام، ما هي الحلول للخروج من هذه الأزمة؟
أعتقد أن الحل هو عودة الدولة لدعم السينما والإنتاج الثقافي، مثلما تفعل العديد من دول العالم، وأقصد إنتاج الدولة القائم على إعطاء فرصة للتنوع. نحن نمتلك تاريخ سينمائي كبير، وفي السابق كانت مصر بمثابة «هوليوود الشرق» ولكن من المؤسف أننا أضعنا جزءًا كبيرًا من هذا التاريخ، ولن نعود إلى ما كنا عليه إلا بدعم الصناعة وإنعاشها وخلق فرص حقيقية للمنافسة والتنوع، لأن تقديم نمط واحد من المنتجات الثقافية سيؤدي إلى الملل منها والعزوف عن مشاهدتها، أما التنوع في الكتاب والمخرجين والممثلين سيخلق انتعاشًا يعود بالنفع الاقتصادي على هذه الصناعة الضخمة.
وماذا عن مشروعك السينمائي المقبل؟
نعكف حاليًا على الإعداد لإنتاج فيلم روائي طويل من إخراج أحمد عبد الله السيد، وهو فيلم اجتماعي يتناول قصص بعض المواطنين العرب المقيمين في العاصمة الألمانية برلين، ومن المقرر أن يخرج إلى النور خلال العام 2024، وأنا أجد أحمد عبد الله مخرجًا متميزًا ولديه قدرة فريدة على صناعة فيلم مختلف من واقع شخصيات حقيقية.