تحت مقصلة الأبوية: لاعبة التنس بينغ شواي تذكرنا بأن كسر الناجيات لحاجز الصمت باهظ الثمن
يجبر الخوف كثيرًا من النساء على الصمت عن ما تعرضن ويتعرضن له من اعتداءات جنسية أي أن كانت درجتها، سواء كان الخوف من تكذيب رواياتهن أو الخوف من الإساءة إليهن وتحميلهن مسؤولية الاعتداء، أو الخوف من النبذ المجتمعي والوصم، فضلًا عن خوفهن من الانتقام الذي يتمثل في بعض الأحيان في الإيذاء الجسدي، ويتجسد في كثير من الأوقات في الفصل من مكان العمل أو الدراسة.
وتتباين درجة انتقام المعتدين وفقًا لمدى نفوذهم والسلطة التي يتمتعون بها، ولذلك يصبح تخلي بعض الناجيات عن صمتهن كالخروج من المنزل في ليلة عاصفة حيث تكون النجاة بسلام أمرًا شبه مستحيل.
قبل أسابيع قليلة، قررت لاعبة التنس الصينية بينغ شواي التي سبق أن وصلت إلى رأس التصنيف العالمي في العام 2014، أن تتغلب على كل المخاوف التي تمكنت منها لعدة سنوات وأن تفضح من اعتدى عليها جنسيًا محتميًا بمكانته السياسية والاجتماعية، إلا أن ما حدث عقب نشرها لهذه الشهادة يجيب بطريقة ما عن أحد أكثر الأسئلة شيوعًا وهو: لماذا تقرر كثير من الناجيات من العنف الجنسي أن يصمتن؟
صوت هدد معقل الديكتاتورية
في الـ2 من نوفمبر الماضي، نشرت بينغ عبر حسابها على موقع التواصل الاجتماعي الصيني ويبو (Weibo)، تدوينة تكشف خلالها تعرضها للاعتداء الجنسي قبل ثلاث سنوات على يد جانغ جو لي أحد قادة الحزب الشيوعي الصيني القابض على السلطة في الصين منذ أكثر من سبعين عامًا، والنائب السابق لرئيس مجلس الدولة الصيني.
في تدوينتها ذكرت بينغ أن جانغ جو لي قد أجبرها على ممارسة الجنس معه في منزله في بيجين، وتحدثت عن شعورها في أعقاب الحادثة قائلة «لا أستطيع وصف مدى اشمئزازي، وكم مرة سألت نفسي هل ما زلت إنسانة؟ كنت أشعر كأنني جثة تمشي.»
اختفت التدوينة بعد ثلاثين دقيقة فقط من نشرها، واختفى حساب بينغ نفسه، وحجبت السلطات الصينية أي كلمات مفتاحية لها علاقة بها أو بما نشرته على محركات البحث، وعلى مدار ثلاثة أسابيع لم تظهر بينغ عبر أي وسيط مما أثار مخاوف في أنحاء متفرقة حول العالم بشأن احتمالية إخفائها قسريًا، وأطلق عدد من لاعبات ولاعبي التنس الدوليين نداءات عبر موقعي التواصل الاجتماعي تويتر وفيسبوك مذيلةً بوسم #أين_بينغ_شواي (#WhereIsPengShuai)، يطالبون فيها بالكشف عن مكان ووضع بينغ، ومن أبرزهم لاعبة التنس الأمريكية سيرينا ويليامز ولاعبة التنس اليابانية نعومي أوساكا.
كما طالب مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان بالإعلان عن مكان تواجد بينغ وتأكيد سلامتها، مشددًا على ضرورة التحقيق فيما أفادت به حول الاعتداء الجنسي الذي تعرضت له.
وفي الداخل، حاول بعض مستخدمات ومستخدمي الإنترنت التحايل على الرقابة الصينية، والنشر عن قضية بينغ من دون ذكر اسمها حتى لا تحجب السلطات تدويناتهم أو حساباتهم.
تحت وطأة الضغوط، حاولت بعض وسائل الإعلام الصينية أن تبرأ ساحة السلطات أمام المجتمع الدولي، ونشرت في الـ17 من نوفمبر الماضي، صورة ضوئية من رسالة بريد إلكتروني موجهة من بينغ إلى رئيس رابطة لاعبات التنس المحترفات (WTA)، تخبره فيها بتراجعها عن اتهامها لجانغ جو لي بالاعتداء عليها جنسيًا، وهو ما ضاعف القلق لدى أغلب المنظمات الحقوقية المتابعة للقضية التي رجحت أن تكون بينغ قد أرغِمَت على إرسال هذه الرسالة.
وبعد عدة أيام، أذاع الإعلام الصيني الموالي للنظام مقاطع مصوّرة تظهر فيها بينغ في حالة جيدة، أحدها يوثق حضورها لحدث رياضي في العاصمة بيجين إلا أن بعض وسائل الإعلام الدولية شككت في أن تكون هذه المقاطع حديثة.
وفي الـ21 من نوفمبر، أعلنت اللجنة الأولمبية الدولية (IOC) في بيان صحافي أن بينغ قد تحدثت مع رئيس اللجنة الأولمبية الدولية في مكالمة مصوّرة، وأفاد البيان بأن بينغ أكدت أنها بأمان وصحة جيدة ولكنها تفضل احترام خصوصيتها ورغبتها في أن تقضي وقتها مع الأصدقاء والعائلة.
لكن ذلك لم يبدد الشكوك حول التهديدات التي قد تكون بينغ قد تعرضت لها، واعتبرت منظمات حقوقية ومنها منظمة العفو الدولية (Amnesty) أن اللجنة الأولمبية الدولية تشارك في التستر على انتهاكات محتملة لحقوق الإنسان ترتكبها الحكومة الصينية، وهو ما دفع باللجنة إلى إصدار بيان لاحق في الـ2 من ديسمبر الجاري، تعلن فيه إجراء مكالمة أخرى مع بينغ، مؤكدةً أنها ستستمر في التواصل معها لحين عقد لقاء شخصي مباشر في شهر يناير المقبل.
في المقابل، قررت رابطة لاعبات التنس المحترفات (WTA) تعليق جميع مسابقات وبطولات التنس التي كان من المقرر عقدها في الصين وهونج كونج (بحكم تبعيتها للصين)، بعد أن فشلت كل محاولات الرابطة من أجل التواصل مع بينغ للتأكد من سلامتها وعدم خضوعها لأي تهديد.
وفي البيان الرسمي الصادر عن رابطة لاعبات التنس المحترفات، قال المدير التنفيذي للرابطة ستيف سيمون «بينما نحن الآن نعرف مكان بينغ، فأنا لدي شكوك جادة فيما إذا كانت حرة وآمنة ولا تخضع للرقابة والإكراه والترهيب.»
وأضاف «إذا كان بإمكان الأشخاص الأقوياء قمع أصوات النساء، وكنس مزاعم الاعتداء الجنسي تحت السجادة، فإن القاعدة التي تأسست عليها رابطة لاعبات التنس المحترفات –المساواة للنساء – ستعاني من انتكاسة هائلة.»
إلى متى يستمر قمع أصوات النساء؟
حتى الآن لم يتضح ما الذي حدث لبينغ خلال فترة اختفائها وما الذي تواجهه في الوقت الراهن وربما لن تتكشف الأمور في القريب العاجل، إلا أن ثمة قصص سابقة لنساء اخترن الخروج عن صمتهن والإفصاح عن العنف الجنسي الذي تعرضن له سواء على أيدي رؤساء في العمل أو شخصيات ذات نفوذ، تجعل المتابعات والمتابعين لهذه القضية قادرين على توقع ما تعرّضت له من إرهاب وتهديد، فكم من امرأة تعرضت للفصل التعسفي من العمل بعد أن كشفت اعتداء أو استغلال أحد رؤسائها أو زملائها الذكور لها جنسيًا مثلما حدث لمقدمة البرامج الأمريكية غريتشين كارلسون التي انهى روجر آيلز المدير التنفيذي السابق لشبكة فوكس نيوز (Fox News) عملها بالشبكة في العام 2016 بعد أن قدمت شكاية ضد زميلها المذيع الشهير ستيف دوسي متهمة إياه بالتحرش بها جنسيًا وبعد تصديها لتحرشات آيلز نفسه.
وكم من امرأة تلقت تهديدات بعضها يصل إلى حد التهديد بالقتل بعد أن فضحت اعتداء أحد أصحاب السلطة عليها أو أحد المدعومين من ذوي السلطة، مثل الأكاديمية الأمريكية كريستين فورد التي اتهمت في العام 2018 القاضي المحافظ بريت كافانو المدعوم من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالاعتداء عليها جنسيًا قبل ثلاثين عامًا، لتجد نفسها بعد ذلك في مواجهة سيل من التهديدات بالقتل، بحسب ما أفادت به محاميتها ليزا بانكس لشبكة سي أن أن الإخبارية (CNN).
رغم ما تشهده العديد من الدول حول العالم من انتفاضة متصاعدة ضد العنف الجنسي لا سيما بعد انطلاق حراك #MeToo في أكتوبر من العام 2017، تأتي قصة بينغ شواي لتذكرنا أن ثقافة الاغتصاب لا تزال راسخة وأن تحقق العدالة للناجيات من العنف الجنسي لا يزال هدفًا صعب المنال، وفي بعض المجتمعات يكون الوصول إلى هذه العدالة أقرب إلى المحال لأن الأنظمة القمعية الديكتاتورية التي توفر لرجالها مظلة من الحماية والأمان من الصعب اختراقها، تدرك جيدًا أن إسكات أصوات النساء هو أحد الشروط الضامنة لبقائها ولذلك لا تألو جهدًا في وأد كل حراك في مهده.