«دورة شهرية. نهاية الجملة.»: الطريق نحو إزالة الوصمة يؤدي أيضًا إلى الاستقلالية الاقتصادية
خلال حفل توزيع جوائز الأوسكار الـ91 الذي أقيم في مارس من العام 2019، فوجئ الحاضرات والحاضرون وبينهم صانعات فيلم «دورة شهرية. نهاية الجملة.»، بفوزه بجائزة أفضل فيلم وثائقي قصير. هذه المفاجأة عبرت عنها مخرجة الفيلم رايكا زهتابتشي حينما قالت في كلمتها عقب تسلم الجائزة «لا يمكنني أن أصدق أن فيلمًا عن الحيض يفوز بجائزة الأوسكار».
يسلط الفيلم الضوء على تجربة خاضتها مجموعة من النساء والفتيات، في قرية كاتهيكهيرا (Kathikhera) الهندية التي تقع شرق العاصمة نيودلهي، من أجل القضاء على أزمة فقر الدورة الشهرية التي ترهقهن وتسلبهن فرصًا كثيرة، وهذا ما يجعل فوزه بالجائزة الأهم في عالم صناعة الأفلام، خروجًا عن الأطر الأبوية التي ترسخ الوصمة الاجتماعية المصاحبة للدورة الشهرية، وتحظر الحديث العلني عنها باعتبارها شأنًا خاصًا، لا يجوز تناوله في الساحات العامة بما فيها السينما والفعاليات الثقافية والفنية.
فيلم «دورة شهرية. نهاية الجملة.» من إخراج رايكا زهتابتشي، وهي مخرجة أفلام إيرانية أمريكية، ومن إنتاج مؤسستي «Action India» و«The Pad Project» ومدرسة «أوكوود الثانوية – Oakwood High School» في لوس أنجلوس، وتوزيع منصة نتفليكس.
جدير بالذكر أن الفيلم جزء من حملة كبرى تحمل الاسم نفسه «دورة شهرية. نهاية الجملة.»، أطلقتها مجموعة من طالبات مدرسة أوكوود الثانوية، بعد حضورهن لإحدى جلسات لجنة وضع المرأة بالأمم المتحدة في العام 2013، والتي كان موضوع النقاش فيها هو ظاهرة فقر الدورة الشهرية وتأثيرها على النساء في الهند. وتهدف الحملة – التي لا تزال مستمرة – إلى مساعدة النساء في العديد من القرى الهندية في مقاطعة هابور، على تجاوز أزمة فقر الدورة الشهرية.
يعني مصطلح فقر الدورة الشهرية انعدام قدرة النساء على الوصول إلى مستلزمات الدورة الشهرية، التي تضم بين أشياء أخرى منتجات الحيض والمياه النظيفة، ويشير المصطلح أيضًا إلى نقص الثقافة الصحية المرتبطة بالدورة الشهرية.
فقر الدورة الشهرية وما ينتزعه من الفتيات
يبدأ الفيلم بلقطات يُطلَب فيها من بعض نساء وفتيات القرية أن يسمين الدورة الشهرية باسمها، وأخريات يُطلَب منهن أن يشاركن بمعلوماتهن عنها، فيظهر مدى خجل وتحرّج الفتيات والنساء من الخوض في حديث يخصها، وتنكشف مستويات معرفة متفاوتة بشأنها. وفي لقطات أخرى يُسأل مراهقون ذكور عن الدورة الشهرية، فيتضح أن بعضهم لديه معرفة محدودة أو ملتبسة عنها، والبعض الآخر ليس لديه معرفة بها على الإطلاق.
خلال الدقائق الأولى من الفيلم، تستعرض المخرجة تبعات فقر الدورة الشهرية على الفتيات، وعواقب عدم توّفر منتجات النظافة الشخصية اللازمة للتعامل مع أيام الحيض، ومن بينها التسرب من التعليم المدرسي، الذي تسرد إحدى فتيات القرية قصتها معه، إذ اضطرت إلى التخلف عن المدرسة، لعدم قدرتها على التحكم في تسرب دماء الحيض، وحاجتها إلى تغيير ملابسها أكثر من مرة خلال اليوم، وهو أمر كان يتعذر عليها القيام به، خاصة خلال فترة اليوم الدراسي أو عندما تكون خارج المنزل.
أثناء سرد الفتاة لتفاصيل حكايتها، تظهر بجوارها طفلة صغيرة، يشير حضورها في المشهد إلى مشكلتين أخريين يتسبب فيهما التسـرب من التعليم، وهما تزويج القاصرات، والحمل والإنجاب المبكرين.
يبرز الفيلم مدى متانة الخيط الرابط بين النبذ الاجتماعي والنبذ الديني للنساء خلال فترة الحيض، فمثلما يدفع نقص مستلزمات النظافة الشخصية فتيات القرية إلى الانزواء أثناء الحيض، يضطررن مجبرات إلى الابتعاد عن ممارسة الطقوس الدينية خلال هذه الفترة، بعد أن ترسخ في أذهانهن أن «الإله لن يسمع صلوات الحائض».
ولكن مثلما يوجد في القرية من يصدق هذا القول، هناك أيضًا من يرفض تصديقه مثل سنيها، الفتاة الطموحة التي تتطلع إلى الالتحاق بالعمل الشرطي، غير مكترثة للتقاليد المقيدة للنساء، وغير عابئة بالمجتمع الذي يحرّم على المرأة ممارسة الطقوس الدينية خلال أيام الحيض، ومحتجة على الأعراف الاجتماعية التي تفرض على من هن في مثل عمرها أن يتزوجن ويطرحن أحلامهن جانبًا.
الفوط الصحية.. أكبر من مجرد قطعة قماش
ينتقل الفيلم من علاقة فتيات ونساء القرية بالحيض إلى علاقتهن بالفوط الصحية، فيتضح من خلال طرح بعض الأسئلة عليهن أن غالبيتهن لم يسمعن عنها من قبل، ومن سمعن عنها لا يعرفن كيف تُستخدَم. ويتسق ذلك مع ما توّصلت إليه دراسة سابقة لشركة بروكتر أند جامبل (P & G)، كانت قد كشفت أن 20 في المئة فقط من النساء والفتيات في الهند يستخدمن الفوط الصحية.
لا يقدم الفيلم الفوط الصحية بوصفها حلًا لمعاناة الفتيات والنساء خلال فترة الحيض فقط، وإنما يتعاطى معها باعتبارها سبيلًا للوصول إلى الاستقلال الاقتصادي ووسيلةً لتحقيق الأحلام، حيث يتتبع الفيلم في قسمه الثاني مشروعًا منزليًا دشنته مجموعة من نساء القرية، لصناعة فوط صحية منخفضة التكلفة، اخترن لها اسم « حلّقي – Fly» تعبيرًا عن رغبتهن في أن تنطلق النساء.
قبل أن يبدأن التصنيع بأنفسهن، ترصد المخرجة بعدستها مرحلة تعلّم الفتيات كيفية صناعة الفوط الصحية منخفضة التكلفة، على يد رجل لديه خبرة في استخدام ماكينة التصينع التي اخترعها رائد الأعمال الهندي أروناتشالام موروجانانثام، الذي سبق أن وثق الفيلم الهندي «رجل الفوط الصحية – The Pad Man» قصة اختراعه.
في هذا التتابع، تستعرض المخرجة رايكا زهتابتشي عبر زاويا التصوير المختلفة، حرص الفتيات على تعلم خطوات التصنيع، وسعادتهن حينما تتحسس أياديهن الفوط التي صنعنها.
ها هن قد نجحن في تهشيم الحواجز
تنجح الفتيات في تصنيع الفوط بكميات كبيرة، ويصبحن أمام مهمة أصعب وهي التسويق لمنتجهن وبيعه في قريتهن والقرى المجاورة.
تسعى الفتيات إلى بيع الفوط الصحية التي أنتجنها إما عبر طرق الأبواب ومحاولة بيعها مباشرة للنساء، بعد إقناعهن بمزاياها وقدرتها العالية على امتصاص الدماء ومنع تسربها، وإما عبر الذهاب إلى المحال والمتاجر لإقناع أصحابها بشراء الفوط منهن.
في البداية تبدو الأمور محبطة، إلا أن الفتيات وفي مقدمتهن سنيها يواصلن بإصرار محاولاتهن لبيع الفوط التي صنعنها، إلى أن ينجحن بالفعل في إقناع بعض النساء والفتيات بأن يشترين فوط «حلقي – Fly ».
يخيم التضامن النسوي على الرحلة التي يتتبعها الفيلم، فالمشروع الخاص بصناعة الفوط الصحية يجمع نساء من أجيال مختلفة في مكان واحد، بعيدًا عن الذكور الذين يتحكمون في كل صغيرة وكبيرة في حيواتهن، وداخل أروقة هذا المكان تتشارك النساء والفتيات في القيام بالعمل ذاته من أجل الهدف نفسه، وهو الحصول على عائد مادي يجعلهن قادرات على تلبية احتياجاتهن أو احتياجات أسرهن.
في قسمه الأخير، يبرز الفيلم نجاح النساء والفتيات في تحويل صناعة الفوط الصحية إلى مشروع يدر عليهن دخلًا ويمكّنهن من الاعتماد على أنفسهن ماديًا، وهو ما تظهر انعكاساته على ثقتهن في أنفسهن وفي قدرتهن على تغيير الواقع لصالحهن، وترصد مخرجة الفيلم هذا التغيير في مشاهد متتابعة يظهرن خلالها واثقات بأنفسهن، يركضن، ويلعبن، ويمزحن، ويضحكن.
في نهاية الفيلم، تسـرد سنيها أحلامها أمام الكاميرا بصوت مفعم بالحيوية ونبرة تبعث على الأمل، ثم نعرف من جملة تمر سريعة على الشاشة قبل تتر النهاية، أن ما تتحصل عليه من مشروع صناعة الفوط الصحية يساعدها على توفير نفقات التدريب المؤهل للالتحاق بشرطة نيودلهي، أي أن سنيها قد صارت قريبة من تحقيق حلمها وعلى بعد خطوات من الانتصار مجددًا على المجتمع.